« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/04/02

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة وثلاثة وسبعون): دلالة الأمر على المرة أو التكرار

الموضوع: الدرس (مائة وثلاثة وسبعون): دلالة الأمر على المرة أو التكرار

 

[دلالة الأمر على المرة أو التكرار]

 

والكلام يقع في مقامين:

المقام الأول في تشخيص دلالة الأمر على المرة أو التكرار بلحاظ المدلول الوضعي لصيغة الأمر، فهل صيغة الأمر وضعت بالوضع اللغوي لخصوص المرة؟ أو لخصوص التكرار؟ أو لا لهذا ولا لذاك؟

المقام الثاني إذا افترضنا أن المدلول الوضعي لصيغة الأمر هو ذات الطبيعة، ولم يؤخذ فيها قيد ولا قيد التكرار، فحينئذ يقع الكلام في المقام الثاني في اقتضاء الأمر للطبيعة أو التكرار بلحاظ الإطلاق، المكتسب من مقدمات الحكمة، فهل مقتضى الإطلاق هو حمل صيغة الأمر على المرة أو التكرار؟

 

ولنشرع في بيان المقامين تباعاً:

المقام الأول دلالة الأمر على المرة أو التكرار وضعاً، والظاهر عدم اقتضاء كلمة الأمر بمدلولها الوضعي للمرة ولا للتكرار لأن المتفاهم عرفاً بحسب المدلول الوضعي لصيغة الأمر لا يتناسب مع المرة ولا يتناسب مع التكرار، فصيغة الأمر «افعل» فيها هيئة «افعل» وفيها مادة «اضرب» الضاد والراء والباء، ومن الواضح أن هيئة وصيغة «افعل» تدل على النسبة الإرسالية ومادة «افعل» الضاد والراء والباء تدل على ذات الطبيعة ذات طبيعة الضرب من دون أخذ قيد المرة أو التكرار فيها.

[المؤيدان لعدم المرة والتكرار في الأمر]

إذاً تسقط دعوة وضع صيغة «افعل» للمرة أو التكرار إذ أن المرة أو التكرار لم يؤخذا لا في هيئة افعل ولا في مادة افعل، ويوجد مؤيدان لذلك:

 

المؤيد الأول لو كان التكرار أو المرة مأخوذاً في الهيئة أو في المادة للزم أن يكون استعمال صيغة «افعل» فيما عداه استعمالاً عنائياً مجازياً، فلو التزمنا أن التكرار قد أخذ في هيئة أو مادة «افعل» فإن استخدام صيغة «افعل» في التكرار يكون مجازياً، ولو افترضنا أن صيغة أو هيئة افعل قد وضعت للتكرار فحينئذ يكون استعمال هيئة أو صيغة «افعل» في المرة استعمالاً عنائياً ومجازاً.

مع أن الوجدان العرفي قاضٍ بأنه لا مجاز في قولنا: «صلّ» مرة واحدة أو «صلّ» عدة مرات، وهذا مؤيد لما يدعى بأنه لم تؤخذ المرة ولا التكرار في المدلول الوضع لهيئة «افعل» ولم تؤخذ في المدلول الوضعي لمادة «افعل».

خلاصة المؤيد الأول: لو التزمنا بالوضع فإنه يلزم المجازية إذا استخدم لفظ «افعل» في غير المعنى الموضوع له، وهذا باطلٌ بالوجدان ولا يحتاج إلى برهان.

 

المؤيد الثاني لو كان التكرار مأخوذاً في كلمة «صلّ» مثلاً، فلا يخلو الأمر من أن يكون مأخوذاً إما في المدلول الوضعي لهيئة «افعل» وإما في المدلول الوضعي لمادة «افعل» لأنه لا يوجد وضع ثالث للمجموع المركب من الهيئة والمادة، بل هناك وضعان فقط، وضع للمادة ووضع للهيئة.

فهنا يوجد احتمالان:

وكلاهما باطلٌ لا يخلو من إشكال، فلا يمكن الالتزام بأن المرة أو التكرار قد أخذا قيداً في هيئة أو مادة صيغة الأمر.

 

الاحتمال الأول أن يكون التكرار قد أخذ في هيئة وصيغة الأمر، وهذا يعني أن الهيئة «افعل» تدل على طلب المتكرر، وهذا يختلف عن الطلب المتكرر، ففرقٌ بين أن تقول: عندنا طلبان أو ثلاثة أو طلبات، فهناك تعددٌ في الطلب، وفرق بين أن تقول: إن الطلب واحدٌ، لكنه قد تعلق بالمتكرر، فالتكرر عبارة عن متعلق الطلب الواحد، فطلب المتكرر يوجد فيه طلبٌ واحد، لكن متعلقه متكرر، بخلاف تكرر الطلب أو الطلب المتكرر فهو عبارة عن عدة طلبات.

فلو التزمنا بأن أن التكرار قد أخذ قيداً في هيئة وصيغة الطلب، والطلب واحد فهذا يعني أن الطلب قد تعلق بالمتكرر، فهذا طلب المتكرر، وهذا غير تكرر الطلب، بمعنى أن المتكرر هو متعلق الطلب، فليس أخذ التكرار في مدلول الهيئة معناه كون الهيئة موضوعة للطلب المتكرر، بل معناه كون الهيئة موضوعة لطلب الشيء المتكرر، فالتكرار مأخوذ في متعلق الطلب وليس في نفس الطلب.

حيث يكون المراد طلب لفردين من مادة واحدة لا طلبين على مادة واحدة، فبهذا النحو يكون التكرار مأخوذاً في مدلول الهيئة وهو طلب المتكرر لا الطلب المتكرر.

فإذا بنينا على الاحتمال الأول وهو أخذ قيد التكرار في صيغة الأمر، فهذا يعني أن الصيغة والطلب واحد والمتعلق هو المتكرر، وهذا يلزم منه لازم لا يمكن الالتزام به ـ لاحظ الدقة البحث عميق ـ هذا اللازم الغريب هو أن يكون طرف النسبة مأخوذاً في مدلول الحرف أيضاً، لأن هيئة «صلّ» تدل على النسبة الإرسالية والطلبية والبعثية، لكن طرف هذه النسبة وهو ما اُرسل نحوه، فهذا المفروض أن يكون خارجاً عن حاق النسبة.

ولأضرب مثالاً توضيحياً حتى تتضح الفكرة: تقول: «الكتاب فوق الطاولة» فوق يدل على الاستعلاء، ودور لفظة «فوق» هو الرابط والنسبة بين الكتاب وبين الطاولة، ولا دخل للفظة «فوق» في تحديد الطرفين وهما نوعية الطاولة ونوعية الكتاب، فالكتاب والطاولة هما طرفا النسبة، والرابط لا دخل له في تعيين طرف النسبة.

وهنا لفظة «افعل» «اضرب» تدل على نسبة طلبية ضربية، وأما تكرر الضرب فهذا طرف النسبة ولا دخل للنسبة في تعيين طرفها، إذاً هيئة «صلّ» تدل على النسبة الإرسالية، وطرف هذه النسبة وهو ما ارسل نحوه وهو الصلاة خارج عنها، فالمفروض بحسب قواعد اللغة العربية أن يستفاد طرف النسبة من دالٍ آخر على نحو تعدد الدال والمدلول، فالكتاب دال والمدلول معنى الكتاب والطاولة دال والمدلول معنى الطاولة، وأما الربط والنسبة بينهما فتستفاد من لفظة «فوق»، ولكن لفظة فوق غير دخيلة في بيان معنى الطرفين، لا أن نلتزم أن يكون الحرف دالاً بنفسه على النسبة وعلى طرف النسبة، فإذا قلنا إن هيئة «افعل» دالة على طلب المتكرر، بحيث تدل على مطلبين بحسب التحليل، فإذا قال: «صلّ» يعني صلّ صلاتين، حين تكون صيغة «افعل» تدل على مطلبين:

الأول الطلب بما هو معنى حرفي وبما هو نسبة إرسالية.

الثاني طرف هذا الطلب وهو الأفراد المتكررة من مدلول المادة أي الصلاة، إذاً فيكون طرف النسبة الاسمي مدلولاً عليه أيضاً بالهيئة وهذا لازم غريب في نفسه.

 

خلاصة الاحتمال الأول من المؤيد الثاني: الاحتمال الأول أن نلتزم أن التكرار قد أخذ في مدلول صيغة وهيئة الأمر.

وهذا يلزم منه أن يكون وأن تكون صيغة الفعل تدل على أمرين:

الأمر الأول النسبة الإرسالية.

والأمر الثاني طرف النسبة إذ دلت على التكرار المأخوذ في متعلق الأمر.

وهذا لا يمكن الالتزام به، إذ أن الهيئة والصيغة معنى حرف لا يدل إلا على معنى حرفي واحد، وهو النسبة بين الطرفين.

الاحتمال الثاني: أن يكون التكرار مأخوذاً في مدلول المادة، كمادة «الصلاة والضرب» في قولنا: «اضرب وصلّ» بمعنى أن الهيئة «افعل» تدل على ذات النسبة الإرسالية والطلبية فقط، والمادة كالضرب والصلاة، هي التي تدل على تكرر الأفراد المتعددة لهذه الطبيعة.

وهذا الاحتمال الثاني أيضاً له لازمٌ غريب لا يمكن التزام به، وهذا اللازم يكون على مبنى وهو الالتزام بأن المادة بجميع مشتقاتها، بما فيها المصدر موضوعة بوضع نوعي واحد، فتقول: «ضرب، يضرب، اضرب، الضرب، الضراب، الضارب، المضروب» جميع اشتقاقات مادة «الضرب» قد وضعها الواضع اللغوي بوضع واحد نوعي، ولا نلتزم بأن المادة في كل صيغة قد وضعت بوضع شخصي، فنقول: المادة في شخص ضارب غير المادة في شخص مضروب، والمادة في شخص المصدر الضرب غير مادة الضرب في اضرب الذي هو فعل أمر.

وهذا واضح أن وضع المادة في جميع المشتقات واحد على الخلاف بين الكوفيين والبصريين في اللغة العربية من أن أساس الكلمة هل هو المصدر كما يقول البصريون؟ أو هو الفعل كما يقول الكوفيون؟، صار بعد بحثنا صرف ونحو.

إذاً لو التزمنا أن المادة في جميع اشتقاقات صيغة الفعل قد وضعت بوضعٍ نوعي واحد، فحينئذ يأتي اللازم الغريب، إذا التزمنا أن المادة في «صلّ» مثلاً مع كل مشتقاتها فعل، اسم فاعل، اسم مفعول بما فيها المصدر موضوعة بوضع نوعي واحد لا أن كل مادةٍ في كل هيئةٍ من هيئات مشتقات صلّ موضوعة بوضع شخصي على حدة، فعلى هذا وهو الالتزام بأن المواد في جميع مشتقات الكلمة قد وضعت بوضع نوعي واحد، لو كان التكرار مأخوذاً في المدلول الوضعي لمادة «افعل» يلزم أن يكون مأخوذاً في مدلول المادة للمصدر وبقية المشتقات، مع أنه مما لا إشكال فيه أن المصدر عند النحاة وأهل اللغة والصرف لا يدل لا على المرة ولا على التكرار، وإنما يدل على ذات الطبيعة.

فمصدر الضرب والقتل وغيرهما من المصادر يدل على ذات طبيعة الضرب وذات طبيعة القتل، ولم يؤخذ فيه قيد المرة ولا التكرار، فكيف دلّ المصدر على ذات الطبيعة ولم يدل على التكرار بينما صيغة «افعل» دلت على التكرار مع أن مادة صيغة «افعل» ومادة المصدر قد وضعتا بوضع نوعي واحد، فإذا لم يؤخذ قيد التكرار في مادة المصدر وهو «الضرب» فحينئذ لا يؤخذ التكرار في مادة صيغة الأمر، فكيف نلتزم أن التكرار قد أخذ في مادة صيغة الأمر ولم يؤخذ في مادة المصدر؟

طبعاً هذا الإشكال يتم بناء على أن وضع المادة في جميع المشتقات واحد وضع نوعي واحد بخلاف ما قلنا بما إذا التزمنا بأن هناك أوضاع شخصية متعددة فلكل مشتق وع لمادة تخصه وهذا لا يمكن الالتزام به.

النتيجة النهائية في المقام الأول: وهو أن صيغة الأمر لم توضع لا للمرة ولا للتكرار وضعاً.

 

النتيجة النهائية: هي أن خصوصية المرة أو التكرار غير مأخوذة وضعاً لا في مدلول صيغة الأمر كما في الاحتمال الأول، ولا في مدلول مادة الأمر كما في الاحتمال الثاني، وإنما تدل صيغة الأمر «افعل» على طلب الطبيعة دون الدلالة على خصوصية المرة أو التكرار، والله العالم.

النتيجة النهائية في المقام الأول: صيغة الأمر لم توضع لا للمرة ولا للتكرار، فالمدلول الوضعي لصيغة الأمر مادةً وهيئةً لم من يؤخذ فيه قيد المرة أو التكرار ـ بعد ما نكرر تستملون بعدين ـ وإنما صيغة الأمر تدل على ذات الطبيعة.

هذا تمام الكلام في المقام الأول.

 

المقام الثاني: هل إن الإطلاق ومقدمات الحكمة تدل على المرة أو التكرار بعد أن أثبتنا في المقام الأول أن الصيغة لم توضع للمرة ولا للتكرار، يأتي عليه الكلام.

logo