« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/04/01

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة واثنان وسبعون): تذنيب مورد من موارد إجمال صيغة الأمر

الموضوع: الدرس (مائة واثنان وسبعون): تذنيب مورد من موارد إجمال صيغة الأمر

 

[قرينة الاقتران]

توجد قرينة عام نعملها في كثير من الموارد كـقرينة «الاقتران» بتوهم الحظر أو عقيب الحظر في مقام إجمال الصيغة، ولهذه القرينة النوعية العامة موارد كثيرة في الأبحاث الفقهية، وقد طبقها السيد الشهيد محمد باقر الصدر في موارد كثيرة في بحثه الفقهي، ولا بأس أن نتطرق إلى هذه القرينة بنحو عام وكلي، وهذه القرينة تتوقف على بيان مقدمتين:

[مقدمتين للقرينة]

المقدمة الأولى أن احتمال القرينة المتصلة يوجب الإجمال كاحتمال وجود القرينة المتصلة.

[بيانه]

بيان ذلك:

إذا صدر من الإنسان كلام، كقوله: «رأيت أسداً» فهنا يوجد مقامان:

[مورد احتمال قرينية المتصل]

المقام الأول: احتمال قرينة المتصل، كما لو نطق المتكلم بكلمة أخرى لم نسمعها ولم نعرف ما هي، بحيث لا ندري أنه هل قال: «رأيت أسداً يزأر»؟ فنحمل الأسد على الحيوان المفترس، أو قال: «رأيت أسداً يرمي»؟ فنحن للأسد على الرجل الشجاعة.

إذاً المتكلم قطعاً قد قال كلمة بعد لفظ «الأسد» هذا يقيني، لكن احتمال قرينيتها، أي أننا نحتمل أن تكون هذه الكلمة قرينة على عدم إرادة المعنى الحقيقي بحيث نحمل المعنى على المعنى المجازي فلا نحمل الكلمة على المعنى الظاهر.

هذا تمام الكلام في المقام الأول مورد احتمال قرينية المتصل أي نقطع بوجود لفظ متصل، لكننا نحتمل أنه يشكل قرينة، وقد لا يشكل قرينة.

[احتمال القرينة المتصلة]

المقام الثاني احتمال القرينة المتصلة لا احتمال قرينية المتصل: كما لو قال المتكلم: «رأيت أسداً» ولم ندري أنه هل سكت أو أضاف كلمة «يرمي» أو أضاف كلمة «يزأر»؟ فهنا لا نحرز وجود قرينة وكلمة متصلة، ولكن نحتمل وجود هذه القرينة ابتداءً دون أن نعلم بوجودها، ونحتمل قرينيتها، فلربما المتكلم تلفظ بكلمة لكن لم تصل إلينا أو لم نلتفت إليها، فيقال لمثل المقام الثاني: مورد احتمال وجود القرينة المتصلة.

 

[حكم المقامين]

وأما حكم المقامين الأول والثاني، فقد ذهب المشهور إلى أن المقام الأول وهو احتمال قرينية المتصل يوجب إجمال الخطاب، لكن بالنسبة إلى المقام الثاني وهو احتمال أصل وجود قرينة فقد ذهب المشهور أو على الأقل صاحب الكفاية ومن جاء من بعده إلى عدم إجمال الخطاب.

لكن الشهيد الصدر أعلى الله في الخلد مقامه ذهب إلى أن احتمال القرينة المتصل في المقام الأول كاحتمال قرينية المتصل في المقام الثاني فكلاهما يوجب إجمال الخطاب وعدم انعقاد ظهور للكلام، وليس المراد مجرد الاحتمال وإنما المراد خصوص الاحتمال المعتد به عند العقلاء، فلو قال المتكلم: «رأيت أسداً» وعلمنا أنه قال كلمة بعد ذلك لكنه هل قال: «يرمي أو يزأر» فهذا من المقام الأول احتمال القرينة المتصلة، وأما إذا قال: «رأيت أسداً» ولم ندري أنه سكت أو جاء بقرينه، فهذا من المقام الثاني احتمال أصل وجود قرينة.

فإذا كان احتمال وجود قرينة احتمال معتد به عند العقلاء أو عند المحاورات العرفية فحينئذ على مبنى الشهيد الصدر يحصل إجمال في الخطاب.

[خلاصة]

خلاصة المقدمة الأولى: يوجد أصل موضوعي بناءً على مبنى الشهيد الصدر وهو أن احتمال القرينة المتصلة في المقام الأول كاحتمال قرينية المتصل في المقام الثاني يوجب إجمال الخطاب، هذه المقدمة نعتبرها أصل موضوعي، الذي يزعزع الظهور إما احتمال أصل وجود قرينة أو توجد قرينة لكن يحتمل أن تزعزع الظهور، في كلا الموردين يحصل إجمال للخطاب.

[القرائن المتصلة اللفظية كاللبية الارتكازية]

المقدمة الثانية إن القرائن المتصلة اللفظية كالقرائن اللبية الارتكازية، فكلا هما يوجب احتمال ويوجب زعزعة الظهور وإجمال صيغة الأمر.

[بيانه]

بيان ذلك: إن القرائن المتصلة التي يحتمل وجودها كما في المقام الثاني على قسمين:

القسم الأول القرائن اللفظية من قبيل كلمة «يرمي» فلو قال المتكلم: «رأيت أسداً» ولم نعلم أنه سكت أو قال كلمة: «يرمي» أو لم يقل؟ فمثل هذا يكون من باب احتمال القرينة المتصلة اللفظية.

القسم الثاني أن يفترض أن القرينة المتصلة المحتملة ليست لفظية بل لبية ارتكازية نظراً لوجود ارتكازات عرفية ومتشرعية وعقلائية وهي تحف كلام المتكلم في كثير من الأحيان، وهذه القرائن اللبية باعتبار حضورها وانتقاشها في ذهن المتكلم والسامع تعتبر قرينة متصلة.

وحينئذ إذا احتملنا وجود قرينة لبية ارتكازية، فهذا الاحتمال أيضاً يوجب إجمال الخطاب كما أوجبه احتمال القرينة المتصلة اللفظية.

[مثال يوضح كلا المقدمتين]

ولنضرب مثالاً لتوضيح هذا التذنيب بكلا مقدمتيه الأولى والثانية:

فإذا وردت صيغة «افعل» في رواية من الروايات كما لو قال زرارة، قال الصادق عليه السلام : «اغتسل للجمعة»، واحتملنا أن هذه الصيغة كانت مكتنفة بقرينة متصلة لفظية توجب صرفها عن الوجوب وحملها على الاستحباب كما لو احتملنا أن الإمام عليه السلام قال: «اغتسل للجمعة ويجوز لك تركه» فهذا الاحتمال يوجب إجمال صيغة ولفظة «اغتسل للجمعة» فاحتمال القرينة المتصلة يوجب إجمال الكلام وسقوط الظهور في الوجوب كما وضحناه في المقدمة الأولى.

لكن كلام زرارة فيه شهادتان:

الشهادة الأولى إن هذا الذي نقلته قد صدر من الإمام عليه السلام.

والشهادة الثانية إن ما سكت عنه زرارة لم يقله الإمام لأن زرارة في مقام بيان جميع ما سمعه من الإمام الصادق عليه السلام .

إذا احتمال وجود قرينة متصلة لفظية لم تصل إلينا هذا الاحتمال له نافٍ والنافي هو شهادة زرارة نفسه بأنه ينقل الواقعة بتمام خصائصها الدخيلة في فهم المطلب من اللفظ، فلو كان هناك كلمة أخرى قالها الإمام الصادق عليه السلام لنقلها زرارة.

إلى هنا استطعنا نفي احتمال القرينة المتصلة اللفظية بالخصوص، لكن إذا احتملنا القرينة المتصلة اللبية كما لو افترضنا أنه كان في زمن الإمام الصادق عليه السلام ارتكاز متشرعي يقضي بأن غسل الجمعة مستحبٌ وليس واجباً، والإمام الصادق عليه السلام جاء بصيغة فعل الأمر «اغتسل» كان قد اعتمد على القرينة المتصلة اللبية، وهي الارتكاز الثابت عند المتشرعة القاضي باستحباب غسل الجمعة، فلو احتملنا وجود قرينة لبية وهو ارتكاز متشرعي في المثال، فهذا الاحتمال ليس له دافع.

فتكون النتيجة إن صيغة «افعل» وهي لفظ اغتسل في الرواية مجملة بمقتضى المقدم الأولى والثانية لأن زرارة حينما يتكلم يشهد بأنه يورد جميع الألفاظ التي تلفظ بها الإمام ولا يترك شيئاً مما قاله، وبهذه الشهادة الضمنية ننفي القرينة اللفظية المتصلة، لكن زرارة لا يشهد بأنه إذا تكلم يورد جميع القرائن اللبية وجميع الارتكازات وجميع القرائن غير اللفظية لا توجد هكذا شهادة، فيبقى احتمال وجود قرينة متصلة لبية ولا نافي لهذا الاحتمال، وهذا الاحتمال يوجب إجمال ظهور صيغة «افعل» في الوجوب فتصير صيغة «افعل» اغتسل يحتمل منها الوجوب ويحتمل منها الاستحباب.

فلا يمكن التمسك بظهور الصيغة في الوجوب تماماً كما لو قال الفقيه لمقلديه: «صلوا صلاة الليل» فإنه لا ينعقد لصيغة «افعل» ظهور في الوجوب للارتكاز المتشرعي باستحباب صلاة الليل، كذلك المقام لو احتملنا أن كلام الإمام الصادق عليه السلام قد احتفى بملابسات وظروف نوعية وقرائن عقلائية أو متشرعية بحيث تكون هذه القرائن اللبية والملابسات والارتكازات كالقرينة المتصلة على عدم الوجوب، فحينئذ لا ينعقد لصيغة «اغتسل» ظهور في الوجوب.

[الخلاصة]

إذا الخلاصة هذه خلاصة القرينة العامة، احتمال وجود قرينة لبية متصلة يوجب إجمال صيغة الأمر في الوجوب وتسقط صيغة «افعل» من الظهور في الوجوب.

هذا تمام الكلام في بيان الكبرى، وهذا قلنا تذنيب لأنه بمثابة الذنب لأصل المسألة: «ورود الأمر عقيب توهم الحظر أو بعد الحظر» فإن هذه الموردية تزعزع ظهور صيغة «افعل» في الوجوب.

[بيان وتحقيق الصغرى]

وقد حققنا هذه الكبرى، ولنشرع في بيان الصغرى وتحقيقها، وهو أن نعرف متى يوجد اهتمام أن يكون صدور الصيغة قد اقترن بنحو ارتكازي في الأذهان المتشرعية بحيث يمنع من انعقاد ظهور للصيغة في الوجوب؟

هذا الاحتمال يوجد بأدنى مراتبه في جملة من الموارد بشرط أن يكون هذا الاحتمال احتمال عقلائي معتد به عند العقلاء، بحيث إذا طرح على العقلاء يصوبون تصويباً عقلائياً، وليس مجرد الاحتمال، فالاحتمال المعتد به عند العقلاء بوجود قرينة لبية يوجب إجمال الكلام، ولكن متى يحصل هذا الاحتمال عند الفقيه؟

يوجد ميزان كلي لحصول هذا الاحتمال، وهذا الميزان لا على سبيل الحاصل بل من باب أنه أبرز مصاديق هذا الاحتمال، وهو أنه إذا وردت صيغته الأمر «افعل» وتأمره بفعلٍ، وكان هذا الفعل يوجد تطابق وتوافق على عدم وجوبه، كما لو أفتى أغلب الفقهاء بعدم وجوبه.

مثال ذلك: «اغتسل للجمعة» والمشهور شهرة كبيرة عند الشيعة الإمامية هو عدم وجوب غسل الجمعة، لكن ذهب بعض الفقهاء القدامى إلى وجوب غسل الجمعة، وذهابهم قد يخرق الإجماع فلا يوجد إجماع على استحباب غسل الجمعة، لكنه لا يثلم الشهرة، فالمشهور شهرة كبيرة عند الشيعة الإمامية هو استحباب غسل الجمعة.

فإذا جاءتنا روايات كثيرة، وفيها لفظ «اغتسل للجمعة» ولم تقترن بقرينة لفظية متصلة تدل على عدم وجوب غسل الجمعة، فحينئذ لا يمكن التمسك بظهور كلام زرارة في نفي احتمال وجوب غسل الجمعة لأن زرارة يشهد بأن جميع ما قاله الصادق سيقوله، وأن جميع ما لم يقله الصادق لن يقله، لكنه لا يشهد بأنه يورد جميع المتصلة سواء كانت لفظية أو لبية، فيبقى احتمال وجود قرينة لبية ارتكازية لم يذكرها زرارة.

وبمثل هذا الظهور يعني بمثل احتمال وجود قرينة متصلة لبية يسقط ظهور صيغة «اغتسل للجمعة» في وجوب غسل الجمعة، فنحن لا نتمسك بالإجماع أو بالشهرة، لتقول: إن الإجماع ليس حجة عندنا ـ إجماع المنقول ـ أو الشهرة الفتوائية ليست حجة عندنا، فحتى من يلتزم بعدم حجية الإجماع المنقول أو عدم حجية الشهرة الفتوائية كالسيد أبو القاسم الخوئي رحمه الله فإنه يستطيع التخلص من ظهور صيغة «اغتسل» في الوجوب باحتمال وجود قرينة لبية تزعزع هذا الظهور.

وبالتالي لا يحمل لفظ «اغتسل» على الوجوب فيبقى مجملاً.

إذاً في مثل هذا المطلب من يرى حجية الشهرة والإجماع المنقول يستطيع رفع اليد عن ظهور صيغة «افعل» في الوجوب في روايات «اغتسل للجمعة»، ولكن من لا يرى حجية الشهرة الفتوائية والإجماع المنقول في هذه الحالة يمكن أن يعالج المسألة بهذا العلاج، ويطبق هذه النكتة:

وهو أنه إذا جاءتنا صيغة الأمر «افعل»، واحتملنا أنها مقترنة بقرينة متصلة لفظية أو لبية، وكان هذا الاحتمال معتداً به عند أهل المحاورة فحينئذ مجرد احتمال وجود القرينة يزعزع ظهور صيغة «افعل» في الوجوب.

فحتى لو بنينا على عدم حجية الإجماع والشهرة الفتوائية فإن وجود ارتكاز متشرعي عند المتشرعة بعدم وجوب غسل الجمعة وأنه مستحب يكفي لزعزعة ظهور صيغة «اغتسل للجمعة» في وجوب غسل الجمعة.

وهذه نكتة عامة يمكن تطبيقها في موارد كثيرة في الفقه، وخصوصاً العبادات.

هذا تمام الكلام في هذه النكتة التي هي ذنب لظهور صيغة الأمر بعد توهم الحظر.

دلالة الأمر على المرة والتكرار، يأتي عليه الكلام.

logo