« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الأصول

46/03/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة وواحد وسبعون): ورود الأمر بعد توهم الحظر

الموضوع: الدرس (مائة وواحد وسبعون): ورود الأمر بعد توهم الحظر

 

ورود الأمر عقيب الحرمة أو توهم الحرمة والحظر

[اتفقوا على أن الأمر لا يبقى له وجوب]

إذا ورد أمرٌ بعد صدور حرمة أو حظر أو توهم الحرمة أو الحظر، فحينئذ لا يكون هذا الأمر ظاهراً في الوجوب، وظاهر كلمات الأصوليين أنهم اتفقوا على أن الأمر لا يبقى له وجوب، وهذا بين الخاصة والعامة [1] .

 

مثال ذلك:

قوله تعالى: ﴿أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَىٰ نِسَائِكُمْ ۚ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ ۗ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ ۖ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾[2] .

الشاهد قوله تعالى: ﴿فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ﴾ وباشروهنّ فعل أمر ورد بعد الحظر، إذ أن الرفث إلى النساء أي جماع النساء كان محرماً في نهار وليالي شهر رمضان، ثم رفع الحظر عن الرفث في خصوص ليالي شهر رمضان، وبقي في خصوص نهار شهر رمضان، فهذا أمرٌ وهو ﴿باشروهنّ﴾ ورد بعد الحظر.

ومثال توهم الحظر:

قوله تعالى: ﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ﴾[3] .

ومن الواضح أن الصيد محرمٌ على المحرم، ولكن إذا أحل من إحرامه، هل يبقى عليه الصيد محرماً أو لا؟ فقد يتوهم من أحل من إحرامه بقاء حرمة الصيد عليه، فقال تعالى: ﴿وَإِذا حَلَلتُم‌ فَاصطادُوا﴾ فورد الأمر «اصطادوا» بعد توهم المنع والحظر وتحريم الصيد.

[اختلفوا في ظهور الأمر]

إذاً اتفقت كلمات الأصول على أن الأمر بعد الحظر أو توهم الحظر لا يبقى له ظهور في الوجوب، ولكن وقع الخلاف بينهم: في أن هذا الأمر هل يكون هو ظهور في الإباحة أو يكون له ظهور في الحكم السابق على الحرمة والحظر أو لا يكون له ظهور في مثل ذلك؟

 

[لا يبقى لصيغة الأمر ظهور فعلي في الوجوب]

وقد ذكر السيد الخوئي[4] [5] رحمه الله :

أن انسلاخ الأمر عن الظهور في الوجوب في حالة توهم الحظر ثابت على كل حال وعلى مختلف المباني، سواء قلنا إن دلالة صيغة «افعل» على الوجوب بـ "حكم العاقل" كما يراه، أو بـ "الإطلاق ومقدمات الحكمة" كما يراه المحقق العراقي، أو بـ "الوضع" كما يراه الشهيد الصادق ونبني عليه.

فحتى على مسلكنا من أن ظهور صيغة الأمر في الوجوب إنما هي بسبب الوضع، فإنه لا يبقى للصيغة ظهوٌ فعلي في الوجوب.

[الدليل على ذلك]

والسر في ذلك[6] ـ كما يقول السيد الخوئي ـ :

نكتة الظهور المتصل بما يحتمل أن يكون على عدم الظهور الفعلي في الوجوب، فصيغة «افعل» متصلة بوضعٍ خاص، وهو: «كون المورد من موارد الحظر»، وهذه الموردية بنفسها تكون صالحة لإجمال الصيغة، لاحتمال كون هذه الموردية قرينة، وإذا اتصل الكلام بما يحتمل قرينيته على خلاف الظاهر فإنه يحصل الإجمال، من دون فرق أن يكون هذا الظهور ظهوراً وضعياً أو عقلياً أو بالإطلاق ومقدمات الحكمة.

 

[توضيحه: «الأسد يرمي»]

مثال ذلك:

لفظ «الأسد» ظاهر في الحيوان المفترس بالظهور الوضعي، فإذا أطلق لفظ «الأسد» مع كلمة أخرى يحتمل كونها قرينة على عدم إرادة الحيوان المفترس، كما لو قيل: «رأيت أسداً يرمي» فيحتمل إرادة الرجل الشجاع، فحينئذ يتعطل الظهور الوضعي للفظ «الأسد» في الحيوان المفترس، لاحتمال كون كلمة «يرمي» قرينة على عدم إرادة المدلول الوضعي للفظ الأسد.

هذه خلاصة ما أفاده سيد أساتذتنا المحققين السيد ابو القاسم الخوئي رحمه الله .

[مناقشة ما أفاده السيد الخوئي رحمه الله][7]

ولكن يمكن التأمل فيما أفاده قدس سره لأن القرينة التي يحتمل كونها قرينة على إبطال الظهور ليست إلا كون المورد من موارد توهم الحظر، ومجرد احتمال الموردية لا يكفي، إذا أنه يعني أن احتمال كون المولى في مقام بيان الإباحة، ومجرد كون المورد من موارد توهم الحظر، واحتمال أن يكون المولى في مقام بيان الإباحة، هذا لا يكفي لإبطال الظهور.

[توضيحه: «صلّ صلاة الليل»]

فإذا افترضنا أن صيغة «افعل» ظاهرة في الوجوب، وقال المولى: «صلّ صلاة الليل»، ولا يتوهم حرمة صلاة الليل، ففي مثل هذا المورد يقال: إن صيغة «صلّ» ظاهرة في الوجوب، وانعقد هذا الظهور.

لكن إذا قال المولى: ﴿ وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا ۚ﴾، وحيث يتوهم حرمة الصيد لمن أحل، فهنا يقال: «فاصطادوا» لعله في مقام بيان احتمال الإباحة لا في مقام بيان الوجوب.

[خلاصته]

إذا جاءتنا صيغة «افعل» الظاهرة في الوجوب، وجاءتنا قرينة نحتمل منها أن يكون المراد غير الوجوب، فمجرد الاحتمال لا يسقط ظهور صيغة «افعل» في الوجوب، فما أكثر الاحتمالات التي نحتملها، وهي لا ترفع.. فهذا الاحتمال لا يرفع ظهور صيغة «افعل» في الوجود وإن احتملنا إرادة غير المعنى الظاهر، تارة نجزم، تارة نحتمل فمجرد الاحتمال لا يوجب رفع اليد عن ظهور صيغة «افعل» في الوجوب.

إذا موردية المادة لتوهم الحظر لا يوجب إسقاط الظهور في الوجوب.

نعم، يحتمل إرادة خلاف المعنى الظاهر، ومجرد الاحتمال لا يحقق الإجمال، ولا يسقط ظهور دليل «افعل» الوجوب.

[تحقيق المطلب]

والصحيح: إن صيغة الأمر لها مدلولان: مدلول تصوري ومدلول تصديقي، والمدلول التصوري عبارة عن: «النسبة الإرسالية أو النسبة الدفعية أو النسبة البعثية»، والمدلول التصديقي عبارة عن: «الطلب وإرادة المولى للمادة بهذا الطلب»، والأمر في مورد توهم الحظر لا يتغير مدلوله التصوري، غاية ما في الأمر أن النسبة الإرسالية التصورية في هذا المورد تناسب أحد مدلولين تصديقين، وكل منهما يتناسب مع النسبة الإرسالية التصورية.

فإن المولى يستعمل صيغة «افعل» في النسبة الإرسالية، ويخطر معنى «الإرسال والإلقاء» على المادة في ذهن السامع، وهذا يصلح لمدلولين تصديقين:

المدلول التصديقي الأول أن يكون صدود صيغة «افعل» بداعي إرادة الشيء، فيقول: «صلّ» اصطد بحيث يلزم الشخص بالصلاة أو الصيد، فيلقي المكلف على الصلاة أو الاصطياد.

المدلول التصديق الثاني أن يكون بداعي كسر تحرج الشخص وتردده، فإن الشخص العرفي الذي يتوهم الحرمة والحظر يقف متحيراً متردداً من الاصطياد أو الجماع.

ويناسب كسر تحرجه وتردده إلقاؤه على المادة مباشرة، فيقول له: «فالآن باشروهن ـ فاصطادوا»، ومثل هذا الإلقاء على المادة الذي هو الصورة الذهنية التصورية لصيغة «افعل» هذه الصيغة التصورية يعني إرسال نحو الاصطياد، إرسال نحو الجماع يناسب كلا المدلولين التصديقيين، فيناسب إبراز المولى لإرادته الحقيقية وطلبه للصلاة، كما يناسب إبراز المولى وكسره لتحرج العبد وتردده، فإن أفضل أسلوب لكسر تحرج العبد هو أن يلقى على المادة، كما أن المتردد في السباحة خوفاً من الماء أفضل وسيلة أن تلقيه في الماء.

إذا كون المادة في مقام الحظر لا يشكل قرينة على مستوى المدلول التصوري للكلام، ليقال: «ما هو ملاك هذه القرينية؟» فإن غاية ما يوجب هذا هو احتمال خلاف الظاهر، واحتمال خلاف الظاهر لا يشكل قرينة، ولا يكفي للقرينية، لأنه مجرد احتمال.

نعم، كون المادة في مورد توهم الحظر يشكل إمكانية إرادة مدلول تصديقي آخر غير طلب نفس المادة، وهذا المدلول التصوري الآخر هو كسر تحرج العبد.

[توضيحه: «صلّ صلاة الليل»]

ولنضرب مثالين:

المثال الأول لو قال المولى: «صلّ صلاة الليل»، فهنا يوجد:

مدلول تصوري: وهو: النسبة الإرسالية نحو صلاة الليل والإلقاء المكلف على الصلاة.

وأما المدلول التصديقي: فهو ينحصر في خصوص إرادة صلاة الليل وطلب القيام بصلاة الليل.

لأنه لا يوجد تحرج في إلقاء العبد في صلاة الليل حتى يكسر تحرجه بصيغة «افعل» ويلقى على المادة.

إذاً في هذا المثال الأول ينحصر المدلول التصديقي المناسب بخصوص الطلب والإرادة.

المثال الثاني لو قال المولى للصائم: «اشرب الماء عند غروب الشمس» فهنا لا يمكن الجزم بأن المدلول التصديقي هو عبارة عن إرادة الأكل والشرب، إذ يحتمل إرادة مدلول تصديقي آخر وهو كسر التحرج عند العمد بإلقائه على المادة باعتبار كونه في مورد توهم الحظر، فإذا قال المولى: «اشرب الماء عند غروب الشمس» هنا يوجد مدلول تصوري واحد: النسبة الإرسالية نحو شرب الماء، ولكن يوجد مدلولان تصديقيان: «المدلول الأول طلب شرب الماء والمدلول الثاني تحرج العبد من شرب الماء».

وهذه المورديات أي كونه في مورد توهم الحظر ليس قرينة على المدلول التصوري للفظ إذ أن المدلول التصوري للفظ واضح وهو النسبة الإرسالية والبعثية بل قرينة توجب الإجمال في مرتبة المدلول التصديقي خاصة دون المدلول التصوري.

[حاصله:]

بناءً على هذا يتضح أن الخلاف في صيغة «افعل» في مورد توهم الحظر في أنه هل يكون لها ظهور في الإباحة أو لا يكون لها ظهور في الإباحة؟ هذا بلا موجب وبلا مقتضي لأنه ليس الكلام في مرحلة المدلول التصور والظهور بل الكلام في المدلول التصديقي، والمدلول التصوري لا يختلف باختلاف المورد.

 

[خلاصته:]

الصحيح: أن الأمر في مورد توهم الحظر أو عقبه لا يكون له ظهور في الوجوب، لكن لا بمعنى انسلاخ مدلوله التصوري، بل بمعنى إجمال مدلوله التصديقي دون أن يكسب ظهوراً في حكم آخر غير الوجوب.

[الفرق بين الدليلين في الوصول إلى النتيجة]

النتيجة واحدة، وهي: أن إذا ورد الأمر عقيب الحظر أو توهم الحظر فإن صيغة الأمر لا تكون ظاهرة في الوجوب بل تدل على الإباحة، لكن لا تكون ظاهرة في الوجوب لا لأجل انسلاخ مدلول التصوري فالمدلول التصوري ثابت، وهو: أن صيغة الأمر تدل على النسبة الطلبية الوجوبية، بل لأن مورد توهم الحظر يوجب انسلاخ المدلول التصديقي، فلا يكون المتكلم مريداً لطلب المادة، بل المتكلم يريد أن يكسر تحرج المخاطب.

هذا تمام الكلام في تحقيق أن الأمر إذا ورد عقيب توهم الحظر فإنه لا يدل على الوجوب، بل يدل على الإباحة.

 


[6] حصول الإجمال.
[7] ما ذكرتموه لا يكفي لإبطال الظهور.
logo