< فهرست دروس

الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق

بحث الفقه

45/09/01

بسم الله الرحمن الرحيم

موضوع: الدرس الثالث والعشرون: مناقشة الأدلة التي أقيمت على عدم تعدد الأفق

 

مناقشة الأدلة التي أقيمت على عدم تعدد الأفق، إذا لم يرى الهلال في بلد ورؤي في بلد آخر، فهنا توجد ثلاث صور:

الصورة الأولى العلم بتساوي البلدين في الطول فقط، وهنا لا ينبغي الخلاف في أن رؤية الهلال في بعضها يوجب الرؤية أي خروج القمر عن المحاق بحيث يكون قابلاً للرؤية في البعض الآخر، وبالتالي فإن قيام البينة على الرؤية في البلد الآخر تكفي الحكم بثبوت الهلال في نفس البلد، وأن الاتحاد في الطول يوجب التوافق والتقارب في الطلوع والغروب ورؤية الهلال.

الصورة الثانية اختلاف البلدين في خطّ العارض لكن رؤي الهلال في البلد الشرقي ولا شكّ ولا ريب أن رؤية الهلال في البلد الشرقي يوجب كون القمر خارجاً عن المحاق في البلد الغربي فتكون البينة على الرؤية في البلد الشرقي بينة على الرؤية في البلد الغربي.

الصورة الثالثة وهي موطن الخلاف إذا اختلف البلدان أو البلدان في الطول والعرض، ولم يرى في البلد الشرقي لكنه رؤي في البلد الغربي، فهل تكون رؤية الهلال في البلد الغربي موجبة للحكم بدخول الشهر ورؤية الهلال في البلد الشرقي؟

خلاف بين الفقهاء، وهذه المسألة لم يتطرق إليها أحد من المتقدمين منذ زمن الكليني والصدوقين وابن الجنيد الإسكافي والعماني إلى زمن سلار الذي توفي قبل الشيخ الطوسي نعم تطرق إليها من المتقدمين الشيخ الطوسي في المبسوط فقط، وتبعه من جاء بعده من المتأخرين إلى زمن صاحب المدارك.

القول الأول فقد ذهب مشهور الفقهاء من الشيخ الطوسي من المتقدمين فقط ثم من جاء بعده من المتأخرين كالعلامة الحلي والشهيد الأول والشهيد الثاني إلى زمن المقدس الأردبيلي وصاحب المدارك إلى أن لكل بلد أفقه الخاص فإن اتحد البلد غربي والشرقي في الأفق أي كانت مشارقهما ومغاربهما واحدة أو متقاربة ثبت الهلال في البلد الشرقي إذا رؤي في البلد.

هذا هو القول الأول للمشهور وهو لزوم الاتحاد في الأفق والقول بتعدد الآفاق في البلدان فإذا رؤي الهلال في بلد غربي لا يتحد في الأفق مع البلد الشرقي فإن الرؤية في البلد الغربي لا تثبت شهر رمضان في البلد الشرقي.

القول الثاني عدم اعتبار تعدد الأفق فإذا رؤي الهلال في بلدٍ ثبت شهر رمضان في بلدٍ آخر حتى لو لم يتحدا في الأفق.

وهذا الرأي شاع منذ زمن الفيض الكاشاني في الوافي ثم الشيخ يوسف البحراني في الحدائق الناظرة فهو شاع بين متأخر المتأخرين.

وأما بالنسبة إلى المعاصرين فقد شاع بينهم أيضاً فذهب إلى ذلك السيد محسن الحكيم[1] ، وذهب إلى ذلك أيضاً السيد أبو القاسم الخوئي لكنه أضاف قيداً وهو لزوم اشتراك البلد الغربي مع البلد الشرقي ولو في جزء يسير من الليل.

وتبعه على ذلك جملة من أعاظم تلامذته كشيخنا الأستاذ الميرزا جواد التبريزي[2] ـ الله يرحمه ـ .

والعمدة فيما ذهب إليه المشهور وما ذهب إليه متأخر المتأخرين والمعاصرون من عدم تعدد الأفق هو الروايات الشريفة فمن تمسك بإطلاق الروايات الشريفة ذهب إلى القول الثاني وهو عدم اشتراط وحدة الأفق بين البلدين كما يقول السيد الخوئي.

ومن ذهب إلى انصراف هذه الروايات إلى خصوص البلدان المتقاربة والمتحدة في الأفق ذهب إلى ما ذهب إليه المشهور بعد الشيخ الطوسي ـ رضوان الله عليه ـ .

ومن هنا لابد من عرض الأدلة والروايات لنرى مقتضى الصحيح منها، وسيتضح أن الصحيح ما ذهب إليه المشهور المنصور من أن هذه الروايات لا يمكن التمسك بإطلاقها بل هي منصرفة إلى خصوص البلد وما جاوره من البلدان المتحدة معهم في الأفق، والله العالم.

ومن هنا لابد من التطرف إلى الأدلة التي يمكن الاستدلال بها على عدم لزوم تعدد على عدم اشتراط وحدة الأفق، والعمدة فيما ذكر ما ذكره السيد الخولي ـ رحمه الله ـ فلنقرأ ما ذكره من أدلة وروايات واستدلالات ومناقشات تباعاً[3] .

ويمكن يستدل على أن الهلال إذا ثبت في قطرٍ كان كافٍ لجميع الأقطار وإن اختلفت آفاقها بعدة أدلة:

الدليل الأول التمسك بإطلاقات نصوص البينة الواردة في رؤية الهلال ليوم الشك في رمضان أو شوال وأنه في الأول يقضي يوماً لو أفطر فإن مقتضى إطلاقها عدم الفرق بينما إذا كانت الرؤية في بلد الصائم أو غيره المتحد معه في الأفق أو المختلف.

ودعو الانصراف إلى أهل البلد كما ترى سيما مع التصريح في بعضها بأن الشاهدين يدخلان مصر ويخرجان كما تقدم فهي طبعاً تشمل الشهادة الحاصلة من غير البلد على إطلاقها.

وفيه: إننا لا ندعي انصراف هذه الإطلاقات إلى خصوص أهل البلد نظراً لأن بعض الروايات أشارت إلى أن الشاهدين لم يكونا في البلد وإنما رأي الهلال خارج البلد ودخلا إلى البلد فهذه الروايات قطعاً لا تنصرف إلى خصوص أهل البلد.

ولكن بملاحظة دخول وخروج الشاهدين من البلد فإن يلاحظ زمن الخروج في زمن النص، وفي ذلك الزمان لا يستطيع الإنسان أن يقطع مسافة أكثر من ستين كيلو متراً بالدابة كالحصان أو الحمار أو البغل.

ومثل هذه المسافة إنما تكون في البلدان المتحدة أو متقاربة في الأفق، ولا تشمل البلدان غير المتحدة في الأفق.

والمراد من الاتحاد في الأفق هو الاتحاد والتقارب في المشارق والمغارب فلو رؤي الهلال في البلد الغربي يكون كأنه قد رؤية في البلد الشرقي، كما هو الحال في تقارب النجف الأشرف والكوفة وبعض البلدان القريبة دون مصر والأندلس اللذان يقعان في الغرب بعيداً جداً عن العراق.

ولنقرأ هذه الروايات المطلقة التي أشار إليها السيد الخوئي ـ رحمه الله ـ ولم يذكرها لنرى أنها هل يمكن العمل بإطلاقها بحيث تشمل مطلق البلدان على وجه الكرة الأرضية فيما إذا اتفقت في جزء من الليل حتى لو لم تتفق في الأفق أو أنها ناظرة إلى خصوص البلد وما جاوره من البلدان المتحدة معه في الأفق.

ويمكن التمسك بإطلاق جملة من الرواية نذكر بعضها:

الرواية الأولى صحيحة عبد الله بن سنان قال: «سألت أبا عبد الله ـ عليه السلام ـ عن الأهلة، فقال: هي أهلة الشهور فإذا رأيت الهلال فصم وإذا رأيته فافطر. قلت: إن كان الشهر تسعة وعشرين يوماً اقضي ذلك اليوم؟ قال: لا، إلا أن تشهد لك بينة عدول فإن شهدوا أنهم رأوا الهلال قبل ذلك فاقض ذلك اليوم»[4] .

فهنا قد وتمسك بمقتضى إطلاقها أنه عدم الفرق في الرؤية سواء كانت الرؤية في بلد الصائم أو غيرها اتحد الأفق أو لم يتحد.

الرواية الثانية صحيحة الحلبي عن أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ في حديث قال: «قلت: أرأيت إن كان الشهر تسعة وعشرين يوماً اقضي ذلك اليوم؟ قال: لا، إلا أن يشهد بذلك بينة عدول فإن شهدوا أنهم رأوا الهلال قبل ذلك فاقض ذلك اليوم»[5] .

الرواية الثالثة رواية صابر مولى أبي عبد الله ـ عليه السلام ـ قال: «سألته عن الرجل يصوم تسعة وعشرين يوماً ويفطر للرؤية ويصوم للرؤية أيقضي يوماً؟ فقال: كان أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ يقول: لا إلا أن يجيء شاهدان عدلان فيشهدا أنهما رأياه قبل ذلك بليلة فيقضي يوماً»[6] .

رواية صابر فيها خصوصية وهي مجيء شاهدين ورؤيتهما الهلال قبل ذلك بليلة فيستشف منها اختلاف محل الرؤية لمحل الصائم[7] .

تقريب الاستدلال:

إن هذه الروايات مطلقة فهي علقت القضاء على مجيء شاهدين فيما بعد، وهذان الشاهدان قد يكونا في بلد غربي مختلف الأفق مع نفس البلد، وقد يكونا في بلد متقارب الأفق أو متحد الأفق مع نفس البلد، فيتمسك بإطلاق هذه الرواية.

وفيه:

إن التمسك بالإطلاق إنما يكون ببركة مقدمات الحكمة وهي أن يكون المتكلم حكيم وفي مقام البيان من هذه الجهة، ونحن لا نحرز أن الإمام ـ عليه السلام ـ في مقام بيان أن مجرد الشهادة ولو كانت في أي بلدٍ تكفي في إثبات الهلال في نفس البلد خصوصاً إذا تمسكنا بقرينة دخول وخروج الشاهدين، وفي ذلك الزمان لا يكون إلا في البلدان المتجاورة والمتحدة في الأفق بخلاف البلدان المتباعدة والمختلفة في الأفق.

ففي ذلك الزمان قد يطول السفر يوم أو يومين أو ثلاثة غايته يكون يعني بين النجف وكربلاء، ولا يشمل البلدان المتباعدة.

ومن هنا لم يتمسك السيد محسن الحكيم[8] بإطلاق الروايات، وإنما تمسك بالأدلة الخاصة.

وهكذا لم يتمسك حفيده الوفي المرحوم السيد محمد سعيد الحكيم[9] فقد رد التمسك بإطلاقات أدلة البينة وقال: إن العمدة في الاستدلال هو الروايات التي دلت على الشهادة في الأمصار المتعددة.

إذا الدليل الأول وهو التمسك إطلاقات الأدلة ليس بتام.

ومن هنا ناقش السيد الخوئي الشيخ مرتضى بني فضيل بالنسبة إلى الروايات العامة والروايات الخاصة، قال[10] :

«والجواب عن الاستدلال بهذه الروايات أنها محمولة على ما إذا رؤي الهلال في البلاد القريبة المتفقة في الأفق، وذلك بقرينة التصريح في بعض الأخبار بأن الشاهدين يدخلان لمصر ويخرجان كما في صحيحة أبي أيوب إبراهيم بن عثمان بن الخزاز عن أبي عبدالله ـ عليه السلام ـ[11] ».

وهكذا لم يقبل الاستدلال بإطلاقات الأدلة والروايات التي ادعي خصوصيتها سماحة الشيخ جعفر السبحاني[12] ـ حفظه الله ـ إذ قال ما نصّه:

«يلاحظ عليه ـ ما أفاده السيد الخوئي ـ إنما إدعاه من الإطلاق صحيح حيث بلد الرؤية وغيرها، وأما إطلاقه بالنسبة إلى المتحد في الأفق أو المختلف بعيد جداً خصوصا بالنسبة إلى الوسائل النقلية مثلاً قوله في منصور بن حازم: «صم لرؤية الهلال وأفطر لرؤيته وإن شهد عندك شاهدان مرضيان بأنهما رأياه فاقضه»[13] ناظر إلى شاهدين مرضيين رأيا الهلال إما في نفس البلد أو في بلد يقاربه على وجه يكون بينهما مسافة يوم.

ومن المعلوم أن الإنسان في الأدوار السابقة حيث وسائط النقل المتاحة آنذاك لا يقطع في يوم واحد أكثر من ستين كيلو متراً.

ومن المعلوم أن هذا المقدار في الفاصل المكاني لا يؤثر في وحدة الأفق بل نفترض أن الفاصل المكاني بين الولدين حوالي خمسمائة كيلو متر وهي منطقة واحدة في ثبوت الهلال على وجه الأرض وليست منطقتين، فإن هذا ونظائره منصرف إلى البلاد التي كان يقطعها الإنسان في يوم أو يومين ومثل ذلك لا يخرج البلد من وحدة الأفق».

هذا تمام الكلام في الدليل الأول على عدم اشتراط وحدة الأفق، واتضح أنه ليس بتام، فالتمسك بإطلاق أدلة البينة على عدم شرطية وحدة الأفق ليس بتام.

الدليل الثاني النصوص الخاصة، يأتي عليها الكلام.


[2] تنقیح مبانی العروة- الصوم، التبريزي، الميرزا جواد، ج1، ص168 إلى 170.
[3] موسوعة الامام الخوئي، الخوئي، السيد أبوالقاسم، ج22، ص119 إلى 122.
[7] مدارك تحرير الوسيلة(كتاب الصوم)، بني فضل، الشيخ مرتضى، ج1، ص312. ص311 و 312.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo