« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

47/05/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة وخمسة عشر): انفساخ النكاح وعدمه بالأسر

الموضوع: الدرس (مائة وخمسة عشر): انفساخ النكاح وعدمه بالأسر

[مقدمة المسألة]

إذا أُسر الزوج البالغ لم ينفسخ النكاح بمجرد الأسر، للأصل إذ الأصل عدم الانفساخ. قال صاحب الجواهر[1] :

بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل عن ظاهر المنتهى الإجماع عليه، بل في المسالك هو موضع وفاق عندنا[2] .

[أقوال الفقهاء في عدم الانفساخ]

ومِمَّن قال بعدم الانفساخ: الشيخ الطوسي[3] ، القاضي ابن البراج الطرابلسي[4] ، ابن إدريس[5] ، العلامة[6] ، الشهيد الأول[7] ، هؤلاء أقطاب المذهب.

[رأي أبي حنيفة]

وعن أبي حنيفة النعمان: الانفساخ بناءً على ملك البالغ بالأسر، وهذا باطل عندنا، فمَن قال أنه بمجرد الأسر تحصل الرقية والملكية؟ إذ أن الأسير لو أسر بعد تقضي حرب فإن الإمام مخيّر فيه بين المنّ والفداء والاسترقاق، يراجع رأي أبي حنيفة[8] [9] .

[انفساخ النكاح بالاسترقاق]

نعم، لو استُرِقَّ باختيار الإمام للرقية من بين الخيارات الثلاثة انفسخ النكاح نظراً لتجدد الملك الموجب لانفساخ نكاحه، قال صاحب الجواهر:

بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل لعله إجماع [10]

يراجع[11] .

فيكون الإجماع هو الحجة، وإلا لو خُلِّينا وظاهر المسألة فإنه لا تنافي بين تجدد الملك وبقاء النكاح، كما لا ينافي بقاء النكاح بعد الملك، فالمحكم هو الإجماع.

[مناقشة الإجماع وحجيته]

أقول: الإجماع درجات، فمنه ما يرقى إلى درجة التسالم أي أنه من بديهيات وأوليات المذهب، فإذا وصل الإجماع إلى درجة التسالم كان حجة. وأما ما دون ذلك فإنه يقال الإجماع على قسمين: منقول ومحصَّل، والمنقول ليس بحجة فتنتفي الكبرى، والمحصَّل حجة لكنه لم يحصل فتنتفي الصغرى، هذا هو الكلام المشهور في مناقشة الإجماعات.

[تطور الاستدلال بعد الشيخ الأعظم الأنصاري]

وكان يُستدلّ بالإجماع منذ زمان شيخ الطائفة الطوسي في المبسوط وغيره إلى زمن السيد علي الطباطبائي صاحب رياض المسائل، وبعد مجيء الشيخ الأعظم الأنصاري رحمه الله ومناقشته لحجية الإجماع كَثُرَ من بعده الاستدلال بسيرة المتشرعة وسيرة العقلاء، بل الارتكاز العقلائي والارتكاز المتشرعي، فهذه أربعة أمور، والفارق بينها أن الارتكاز العقلائي أو المتشرعي في مرتبة العلة، وسيرة المتشرعة وسيرة العقلاء في مرتبة المعلول.

لذلك نجد أنه كَثُرَ الاستدلال في كتب المعاصرين من بعد متأخري المتأخرين بالارتكاز والسيرة نظراً لذهابهم إلى عدم حجية الإجماع، لكن في مورد بحثنا قد يُقال: إن هذا الإجماع قد وصل إلى درجة التسالم، فلو خُلِّينا نحن والمسألة فإن تجدد الملكية لا ينافي بقاء النكاح، لكن نظراً لأن هذا الرأي عليه تسالم أي من بديهيات المذهب فإننا نرفع اليد عن هذا المطلب.

ومن هنا فإننا نرى السيد أبا القاسم الخوئي رحمه الله الذي لا يرى حجية الإجماع يستشهد كثيراً بالتسالم، بالتالي الفقيه ووجدانه إن رأى أن هذا الإجماع في مسألتنا يرقى إلى درجة التسالم كان حجة في حقه، وإن لم يصل إلى درجة التسالم فليس بحجة ويعمل بمقتضى القاعدة إلا إذا أراد الاحتياط.

[فرع: حكم الزوج الأسير إذا كان طفلاً أو امرأة]

فرع يترتب على هذا: لو كان الزوج الأسير طفلاً أو امرأة انفسخ النكاح لتحقق الرق بمجرد السبي فيهما، وقد اتضح اقتضاء الرق لانفساخ النكاح، بل في ظاهر المنتهى والتذكرة للعلامة الحلي الإجماع عليه في المرأة، بل في المنتهى والتذكرة توجد دعوى صريحة على الإجماع على الانفساخ لو سُبيت المرأة وحدها، بل قال: ولا نعلم فيه خلافاً، وظاهره وجود إجماع بين المسلمين، بل قد يُدَّعى أنه من مسلّمات المسلمين سنة وشيعة، يُراجَع[12] [13] .

ومن هنا قال صاحب الجواهر[14] :

وهو الحجة - يعني الإجماع هو الحجة لأن هذا الإجماع تسالم بين المسلمين - هو الحجة بعد قوله تعالى: ﴿وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ﴾[15] ، بناءً على كون المراد منها: إلا ما ملكت أيمانكم بالسبي من ذوات الأزواج، كما عن ابن عباس[16] .

بل عن أبي سعيد الخدري أنه: أصبنا سبايا يوم أوطاس ولهن أزواج في قومهن، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وآله فنزلت - أي الآية[17] [18] .

وعن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال في سبي أوطاس: لا توطأ حامل حتى تضع، ولا حائل - أي طاهرة - حتى تحيض، وهو ظاهر في انفساخ النكاح[19] .

[مناقشة قوة ملك الرقبة على ملك النكاح]

والعمدة في هذا الكلام هو التمسك بإطلاق الآية والرواية، إذ الإجماع لا لسان له حتى يُتمسك بإطلاقه. وقد يؤيد مفاد الآية والرواية والإجماع بهذا الأمر الذي هو أشبه بالاستحسان وهو: أن ملك الرقبة أقوى من ملك النكاح، إذ بالنكاح يملك الزوج البضع في مقابل المهر، وأما في الرقبة فإنه يملك الجميع، فملك الرقبة أقوى من ملك النكاح، فإذا طرأ ملك الرقبة على ملك النكاح أزاله، لكنه مجرد استحسان إذ لا ندرك ملاكات الأحكام. ومن هنا قال صاحب الجواهر: مؤيداً ذلك كله، إذ هذا يشكّل مؤيداً وليس بدليل.

ولا فرق عند الإمامية في انفساخ نكاح المرأة لو سُبيت وحدها بين أن يُسبى زوجها بعدها بيوم أو بأزيد أو بأنقص، تمسكاً بإطلاق الأدلة الشامل لهذه الموارد، خلافاً لأبي حنيفة إذ قال: فلا ينفسخ إن سُبي زوجها بعدها بيوم[20] . وهو واضح الضعف إذ لا دليل عليه.

[فرع: انفساخ النكاح عند أسر الزوجين معاً]

فرع آخر: ينفسخ النكاح عند الشيعة الإمامية لو أُسر الزوجان معاً نظراً لحدوث الملك للزوجة بمجرد السبي، وهو مقتضٍ لانفساخ النكاح، وإن لم يحصل الملك للزوج، كما لو فُرض أنه شيخ كبير ولم يختر الإمام استرقاقه بل مَنَّ عليه وعفا عنه. هذا رأي الإمامية وهو انفساخ النكاح، يُراجَع[21] .

[مناقشة رأي أبي حنيفة وأحمد بن حنبل]

خلافاً لأبي حنيفة وأحمد بن حنبل إذ قالا: لا ينفسخ، لأن الرق كالعتق لا يمنع ابتداءً فلا يقطع استدامة. وهذا الوجه مُناف للآية والرواية، وبإطلاقهما يشمل هذا المورد وهو أسر الزوجان معاً.

كذلك لو تمسكنا بالإطلاق نقول: لا فرق في ذلك بين أن يسبيهما رجل أو رجلان، لكن في المنتهى للعلامة ما نصه: والوجه أنه إذا سباهما رجل واحد وملكهما معاً أن النكاح باقٍ وله فسخه، وكذا لو بيعا من واحد[22] .

وفيه: أنه مُناف لما هو كالمجمع عليه باعتراف العلامة واعتراف غيره، بل قد يُدَّعى التسالم على انفساخ النكاح بتجدد الملك، وكون المالك واحداً لا يقتضي عدم الانفساخ.

[فرع: حكم الزوجين إذا كانا مملوكين قبل الأسر]

نعم، لو كان الزوجان مملوكين لم ينفسخ عقد النكاح بينهما لأنه لم يحدث رق يقتضي انفساخ النكاح، وإنما هو تبديل مالك بمالك آخر كالبيع ونحوه. لكن لو قيل بتخيير الغانم في الفسخ وعدمه كان حسناً كما يتخير لو ملكهما بالبيع ونحوه، بل جزم به غير واحد ممن تأخر عن صاحب الشرائع كالعلامة[23] ، وابن القطان[24] ، والمحقق الكركي[25] ، والشهيد الثاني[26] .

والوجه في ذلك: عموم ولاية السيد على مملوكه الذي هو كَلٌّ على مولاه بمقتضى الآية ستة وسبعين من سورة النحل، والعبد لا يقدر على شيء بمقتضى الآية خمسة وسبعين من سورة النحل، خلافاً للمحكي عن المبسوط[27] ، والسرائر[28] ، إذ قالوا: بأنه لا لم يحدث رق فلا ينفسخ، ويمكن أن يريدا عدم الانفساخ قهراً لا عدم الانفساخ مطلقاً.

أقول: أدلة عموم ولاية السيد على مملوكه تشمل مورد سبيه للزوجين المملوكين، فهما كَلٌّ على مولاهما ولا يقدران على شيء، فله فسخ عقد نكاحهما، والله العالم.

[فرع: الصلح على إطلاق الأسير مقابل المرأة المسبية]

فرع أو فرعان أخيران: لو سُبيت امرأة فصولح أهلها على إطلاق أسير في يد أهل الشرك فأُطلق الأسير لم يجب إعادة المرأة، كما في قواعد الأحكام[29] ، وإرشاد الأذهان[30] ، ومعالم الدين[31] .

قال صاحب الجواهر: بل لا أجد فيه خلافاً لفساد الصلح بحرية أحد العوضين الذي لا يستحقون أسره. (توجد نسختان في الجواهر بحرمة، بعض النُسَخ تقول "بحرية" وذكرنا "بحرية" لأنها تشير إلى وجه الانفساخ). لأنه المصالحة بين عوضين ينبغي أن يقبلا التصالح: العوض الأول المرأة المسبية، العوض الثاني الأسير المسلم الذي وقع في أيدي الكفار الحربيين وهو حر وحقه الحرية فلا يقع عوضاً في مقابل المرأة المسبية، فيكون هذا الصلح باطلاً لبطلان أحد العوضين: مسلم حر حقه الحرية وليس برقّ، فكيف يُجعل في مقابل المرأة المسبية؟

[فرع: الصلح بعوض مالي]

ومن هنا يتضح الفرع الثاني أنه لو أُعتقت وأُطلقت المرأة بعوضٍ مالي، بأن صولح أهلها بمال، جاز لعموم أدلة الصلح. هنا العوضان: المرأة المسبية والمال، يمكن التصالح، فيمكن التصالح ما لم يكن قد استولدها مسلم، فلا يجوز له حينئذ نقلها بالصلح، وسواء استولدها هو أو غيره من المسلمين.

لذلك قال المحقق الكركي في حاشيته على إرشاد الأذهان: "متى استولدها مسلمٌ بحال من الأحوال لم تُرَد"[32] [33] .

والوجه في ذلك: إذا كانت أم ولد، ما دلّ على عدم جواز نقل أمهات الأولاد.

هذا تمام الكلام في هذه المسألة، تتمة البحث تأتي.


[24] المعالم، ابن القطان، ج1، ص292.
[25] فوائد الشرائع، المحقق الكركي، ج11، من آثار المحقق الكركي، ص79.
[31] معالم الدين، ابن القطان، ج1، ص292.
[33] . حاشية الكركي، ج9، ص301.
logo