« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

47/05/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة وثلاثة عشر): حكم الطفل المسبي منفرداً عن أبويه الكافرين

الموضوع: الدرس (مائة وثلاثة عشر): حكم الطفل المسبي منفرداً عن أبويه الكافرين

[تمهيد: حكم الطفل المسبي منفرداً عن أبويه]

ويمكن أن تذكر ثلاثة أقوال:

[القول الأول: تبعية الطفل للسابي المسلم]

القول الأول: إنه يتبع السابي في الإسلام، وعلى هذا الحكم أجمع المخالفون، وذهب إليه من علمائنا الإسكافي والشيخ في المبسوط والقاضي في المهذب والشهيد الأول في الدروس، وقد مضى الكلام في بيان الأدلة على ذلك.

[القول الثاني: التوقف]

القول الثاني: التوقف، وهو ظاهر المحقق الحلي في شرائع الإسلام، وظاهر العلامة في تحرير الأحكام[1] .

[القول الثالث: عدم التبعية للسابي المسلم]

القول الثالث: عدم تبعية الطفل المنفرد عن أبويه في الإسلام، أي إسلام السابي، وهو قول المحقق الكركي في فوائد الشرائع، والصيمري في غاية المرام، وابن القطان في معالم الدين.

[صور المسألة الثلاثة]

وصور المسألة، أي أصل المسألة، ثلاثة:

الصورة الأولى: الطفل الذي يؤسر مع كلا أبويه، وقد مضى الحديث وأن حكمه الإلحاق بأبويه.

الصورة الثانية: وهي التي نحن فيها، أن ينفرد الطفل عن كلا أبويه.

الصورة الثالثة: أن يُسبى الطفل مع أحد أبويه دون الآخر.

وكلامنا فعلاً في الصورة الثانية، أن يُسبى الطفل بمعزل وبانفراد عن كلا الأبوين، وقلنا توجد ثلاثة أقوال، والصحيح هو القول الثالث: أنه لا يُلحق بالسابي المسلم، بل حكمه حكم أبويه الكافرين، والأصل عدم الإلحاق بالسابي المسلم، وإثبات التبعية للمسلم وإثبات انقطاع التبعيته لأبويه الكافرين بانقطاعه عنهما وإخراجه عن دارهما إلى دار الإسلام يحتاج إلى دليل، ولا يوجد دليل يدل على الإلحاق بالسابي المسلم، كما لا يوجد دليل يثبت انقطاع التبعية عن والديه الكافرين.

[مناقشة القول الأول: التبعية بلا دليل]

على أن القائل بالقول الأول، وهو تبعية الطفل المنفرد عن أبويه إلى السابي المسلم، لا يعتبر في هذه التبعية كونه في دار الإسلام، بل يكفي سبيه والاستيلاء عليه، فلو سبى المسلم الطفل الكافر بمعزل عن أبويه وأبقاه معه في دار الكفر لتجارة وغير ذلك، قالوا: تبعه فيه.

لكن هذا قد يُناقش بهذا الفرض الذي عليه الإجماع، وهو أنه لو انفرد ولد الذميين عنهما تبعاً لمسلم في دار الإسلام، فإنه لا يرتفع الكفر عن ولد الذميين إجماعاً، حتى مع تحقق المفارقة بينه وبين والديه.

[دعوى الشهيد الثاني: العلة المركبة للإلحاق]

ومن هنا قد تُدعى دعوى ذُكرت في مسالك الأفهام للشهيد الثاني[2] ، وهي أن علة الإلحاق، أي إلحاق الطفل بالسابي المسلم، مركبة من ثلاثة أمور:

الأول: مفارقة الطفل الكافر لأبويه.

الثاني: ملك المسلم وسبيه واستيلاؤه عليه.

الثالث: الكون في دار الإسلام.

فإذا تحققت هذه العناصر الثلاثة، أُلحق الطفل بالسابي المسلم.

[مناقشة حديث الفطرة]

وفيها: إنه لا دليل عليها، ونحن أبناء الدليل أينما مال نميل.

كما أن حديث "كل مولود يُولد على الفطرة، وإنما أبواه يُهودانه وينصرانه ويمجسانه"[3] [4] الذي استُدل به على القول الأول في إلحاق طفل الكافرين المنفرد عنهما بسابيه المسلم، لا يُفيد مُدعاهم، إذ أن الحديث يُفيد أن المولود لو خُلي ونفسه مع فطرته لاختار الإسلام عند البلوغ، وليس معناه أن الطفل محكوم بإسلامه لولا تبعيته لأبويه. فهذا الحديث لا ظهور فيه في القول الأول، بل قد يُدعى أنه ظاهر في القول الثالث وإثبات العكس.

والسر في ذلك: أن هذا الحديث يدل على التبعية بمجرد الولادة، ومقتضى الأصل بقاء التبعية حتى لو انفرد الطفل عن والديه، فإذا شككنا استصحبنا بقاء التبعية.

[الاستصحاب وأصالة الطهارة]

فالأصل في الطفل هو الإسلام بناءً على الفطرة، فإذا هوَّده أو نصَّره أو مجَّسه أبواه فيكون قد ثبت أنه تابع لأبيه أو لأبويه في اليهودية أو التنصر أو المجوسية، فإذا شككنا في انتفاء التبعية نستصحب بقاء التبعية: "لا تنقض اليقين بالشك".

قد يُدعى بأن التبعية فيها شرط وهو كون الطفل معهما، فيُجاب بأنه لا دليل على ذلك، بل مقتضى الإطلاق خلاف ذلك، ومقتضى استصحاب التبعية ارتفاع أصال الطهارة. فعندنا أصال الطهارة: "كل شيء لك طاهر حتى تعلم أنه نجس بعينه فتدعه"[5] ، والاستصحاب حاكم على أصالة الطهارة، لأن الاستصحاب أصل محرز بناءً على المشهور (وأمارة بناءً على رأي السيد الخوئي)، فيُقدم على أصالة الطهارة التي هي أصل عادي.

يتضح التعارض يعني: هذا الولد طاهر أو نجس؟ أصالة الطهارة تثبت الطهارة في حقه: "كل شيء لك طاهر"، استصحاب التبعية (تبعيته لوالديه الكافرين) يثبت أنه نجس، فاستصحاب التبعية المثبت للنجاسة حاكم على أصالة الطهارة.

[القول الرابع: التبعية في خصوص الطهارة]

ومن هنا يتضح ما في القول الرابع - يوجد قول رابع - من أن الطفل الكافر المنفرد عن أبويه يتبع السابي المسلم في خصوص الطهارة دون باقي أحكام الإسلام، فنرتب عليه آثار الطهارة دون الباقي من جواز العقد وغير ذلك.

وقد قرَّب هذا القول - وهو اختصاص الطهارة - العلامة الحلي[6] [7] ، وابنه فخر المحققين في كتابه، والمحقق الكركي في حاشيته[8] . وقد حكى الشهيد الثاني هذا القول عن ابن إدريس في مسالك الأفهام[9] .

[أدلة القول الرابع ومناقشتها]

ولعله يُتمسك بتخصيص التبعية في خصوص الطهارة دون باقي الأحكام بثلاثة أمور:

الأول: التمسك بأصالة الطهارة السالمة عن معارضة يقين النجاسة.

وفيه: إن المعارضة متحققة، واستصحاب يقين النجاسة مقدَّم على أصالة الطهارة، فلا تصل النوبة لأصالة الطهارة.

الثاني: التمسك بقاعدة "لا حرج"، فإثبات النجاسة للطفل الكافر الذي بحوزة السابي المسلم وفي مجتمع الإسلام فيه حرج ومشقة على المسلمين.

وفيه: منع تحقق الموضوع الحرج، إذ أن نساء الكفار المسبيات يبقين على كفرهن ونجاستهن ولا حرج في ذلك، كما أنه يجوز استئجار الكافر مع نجاسته ولا حرج ولا مشقة في ذلك.

الأمر الثالث: الاقتصار في الرخصة على موضع اليقين، والقدر المتيقن من الجواز هو ترتيب آثار الطهارة عليه.

وفيه: لو قام الإجماع على موضع اليقين المدعى، وهو خصوص الطهارة وإلحاق الطفل بالمسلم في خصوص الطهارة دون بقية أحكام الإسلام، فإن قام الإجماع فهو، وإن لم يثبت الإجماع فهو محل للمنع، إذ لا دليل على التبعية في خصوص أصالة الطهارة.

[دعوى رياض المسائل: تعارض الاستصحابين]

وهناك دعاوى، منها ما ذُكر في رياض المسائل[10] ، كدعوى شمول إطلاق دليل التبعية للفرض، والاستصحاب إنما يكون حجة حيث يسلم عن المعارض، وفي محل البحث ليس بسالم لمعارضته باستصحاب طهارة الملاقي.

فعندنا استصحابان:

الاستصحاب الأول: استصحاب نجاسة الطفل، إذ كان تابعاً لأبويه ومحكوماً بالكفر، فنشك في ارتفاع هذه النجاسة بسبي المسلم له، فنستصحب بقاء نجاسة الطفل.

ومن جهة أخرى: ما يلاقي الطفلَ - كما لو باشره ولمسه المسلم برطوبة - وكانت يد المسلم طاهرة، وشككنا في تنجسها بملاقاة الطفل، فإننا نستصحب بقاء طهارة يد المسلم الملاقية له.

[تعارض الاستصحاب السببي والمسببي]

إذاً عندنا استصحابان متعارضان: استصحاب بقاء نجاسة الطفل، واستصحاب بقاء طهارة الملاقي للطفل.

لكن هذه الدعوى ليست تامة، والصحيح هو تقديم استصحاب نجاسة الطفل على استصحاب طهارة الملاقي، وتفصيل ذلك في علم الأصول: تقديم الأصل السببي على الأصل المسببي.

ولو سلمنا بجريان كلا الاستصحابين، فإن هذا ـ يعني لم نقدم استصحاب نجاسة الطفل على استصحاب طهارة الملاقي - فإن هذا لا يقتضي طهارة الطفل، بل هذا يقتضي العمل بهما، إذ أن الاستصحاب يثبت الحكم الظاهري لا الحكم الواقعي، ففي عالم الظاهر تحكم بنجاسة الطفل وتحكم بطهارة الملاقي، هاتان نتيجتان للاستصحابين.

وعليه يتضح، حكمك بطهارة الملاقي لا يستلزم طهارة الطفل، فلو قلنا بجريان كلا الاستصحابين فتكون النتيجة: تحكيم نجاسة المسبي وطهارة ملاقيه. وقد التزم بهذا القول القائل نفس القائل في مواضع كثيرة، وهذا غير المدعى من طهارة المسبي.

إذاً فرق بين القول بطهارة المسبي وبين القول بطهارة ملاقي المسبي.

والصحيح عندنا هو جريان استصحاب نجاسة الطفل المسبي وحاكميته على استصحاب طهارة الملاقي.

[مناقشة رأي السيد الطباطبائي]

وقد يتأمل ويستغرب فيما أفاده السيد الطباطبائي في رياض المسائل، إذ أنه بعد اعترافه بأن المتجه بناءً على تعارض الاستصحابين هو ماذا؟ هو جريانهما، فنحكم بنجاسة الطفل وطهارة الملاقي، ولا نحكم بطهارة الطفل المسبي، لكنه قال بعد ذلك ما نصه: "حيث إن المهم هنا هو طهارة الملاقي أو نجاسته، مع عدم وجود الإجماع المركب المقطوع به على تعارض الاستصحابين، تعيَّن القول بطهارته في هذا الفرع"[11] .

وفيه: إن تعارض الاستصحابين والقول بجريانهما معاً لا يثبت طهارة الطفل المسبي، غاية ما يثبت طهارة الملاقي للطفل المسبي، وأما الطفل المسبي فيبقى على النجاسة ببركة استصحاب نجاسة الطفل.

والعمدة في المسألة: وجود الإجماع، فإن ثبت الإجماع المحصَّل الذي هو حجة قلنا به، والحال إنه لا يوجد إجماع في المسألة.

[النتيجة النهائية في الصور الثلاثة]

فتكون النتيجة: أنه

في الصورة الأولى: إذا سُبي الطفل مع كلا والديه - ألحق قطعاً بلا خلاف.

في الصورة الثانية: وإذا سُبي الطفل بمعزل عن والديه توجد ثلاثة أقوال، كما في الصورة الثانية التي بحثناها اليوم.

وأما الصورة الثالثة: وهي إذا سُبي الطفل مع أحد والديه دون الآخر - فهذا حكمه حكم الصورة الأولى: يُلحق بوالديه بلا خلاف.

إذاً: الصورة الأولى - إذا سُبي مع والديه - والصورة الثالثة - إذا سُبي مع أحد والديه - يوجد فيهما إجماع على الإلحاق.

وأما إذا سُبي الطفل بمعزل عن والديه وبانفراد، كما في الصورة الثانية التي بحثناها اليوم، ففيها ثلاثة أقوال، والصحيح أن حكمها عندنا هو حكم الصورة الأولى والثانية والثالثة، فيُلحق الطفل بأبويه في الصور الثلاث.

تفصيل الحديث في الصورة الثالثة - إذا سُبي الطفل مع أحد والديه - يأتي عليها الكلام.

 


[8] . فوائد الشرائع، المحقق الكركي، ج11، من موسوعة آثار المحقق الكركي، ص79.
logo