« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

47/04/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة وأحد عشر): كراهة قتل الأسير صبراً

الموضوع: الدرس (مائة وأحد عشر): كراهة قتل الأسير صبراً

[تمهيد: كراهة قتل الأسير صبراً]

[الأدلة الفقهية والإجماعية]

يُكره قتل الأسير الحربي صبرًا كما صرح به غير واحد من الفقهاء، كالشيخ الطوسي[1] ، وابن إدريس الحلي[2] ، ويحيى بن سعيد الحلي[3] ، والعلامة[4] . ويمكن أن يُدَّعى الإجماع على ذلك، إذ قال صاحب الجواهر: "بل لا أجد فيه خلافًا"، يراجع[5] .

[الدليل الروائي: صحيح الحلبي]

ويمكن أن يُستدل على ذلك بصحيح الحلبي عن الصادق عليه السلام قال: "لم يقتل رسول الله صلى الله عليه وآله رجلًا صبرًا غير عقبة بن أبي معيط، وطعن ابن أبي خلف فمات بعد ذلك"[6] .

لكن هذا الحديث ليس بظاهر، وإنما فيه إشعار بمرجوحية قتل الأسير صبرًا، ولا ينافيها هذه المرجوحية وقوعه من رسول الله صلى الله عليه وآله، والذي يُحتمل رجحان فعله نظرًا لتقارن ذلك مع أمر آخر قدَّره رسول الله صلى الله عليه وآله. على أن الحكم هو الكراهة، والكراهة تشملها أدلة التسامح في أدلة السنن، على أننا لا نبني على كبرى التسامح في أدلة السنن، ولكن عادةً وخصوصًا القدماء يتساهلون في روايات المندوبات والمكروهات، أي الأدلة غير الإلزامية، والحكم هنا هو الكراهة وهو مما يُتسامح فيه.

[معنى القتل صبراً عند الفقهاء]

والمراد بالقتل صبرًا: أن يقيَّد يداه ورجلاه مثلًا حال قتله، وحتى الذبيحة تُفَكّ رباطها عند ذبحها، وهذا إنسان له روح، أتُقيِّده، تُقيِّد يديه ورجليه وتذبحه بعد ما تُخلِّيه يتعفَّر، فهذا يُقتل صبرًا. وحينئذٍ ماذا يرفع الكراهة؟ إذا أُريد رفع الكراهة: أطلقه وقتله.

ولعل هذا هو المراد مما فسَّره به غير واحد من فقهائنا، أي المراد بالقتل صبرًا: أن يقيَّد يداه ورجلاه ويُقتل، كما عن ابن إدريس[7] ، والعلامة[8] ، والمقداد السيوري[9] ، والشهيد الثاني[10] . فقد ذكروا أن القتل صبرًا هو الحبس للقتل ، ونسب السيد الطباطبائي[11] هذا المعنى للكراهة وهو الحبس للقتل إلى المشهور.

[المعنى اللغوي للقتل صبراً]

ولو راجعنا اللغة سنجد أن الفيروز آبادي في القاموس المحيط يقول: "وصبْر الإنسان وغيرُه على القتل: أن يُحبس ويُرمى حتى يموت، وقد قتله صبرًا وصبره عليه"[12] ، إذًا المراد بكراهة القتل صبرًا: أن يُقيَّد ويُقتل حال كونه مقيَّدًا مُضيَّقًا عليه.

[معاني أخرى منسوبة للقتل صبراً ومناقشتها]

وقد ذُكرت عدة معاني للقتل صبرًا لا شاهد عليها، من هذه المعاني ما ذكره الشهيد الثاني في المسالك من أنه التعذيب حتى يموت، أو القتل جهرًا بين الناس، أو التهديد بالقتل ثم القتل تراجع[13] ، وهكذا ذكر صاحب الرياض أنه القتل وينظر إليه آخر، أو لا يُطعَم ولا يُسقى حتى يموت بالعطش والجوع[14] .

ولا شاهد على هذه المعاني، بل إن المعنى الأخير وهو أن لا يُطعَم ولا يُسقى حتى يموت بالعطش والجوع مُنافٍ لما تقدم من وجوب إطعام الأسير وسقيه، فكيف يُقال بكراهته هنا إذا فسّرنا به كراهة القتل صبرًا؟! لكن السيد الطباطبائي رحمه الله - السيد علي الطباطبائي - نفى البأس عن كل هذه المعاني، وذلك للتسامح في أدلة السنن، يُراجع[15] .

[كراهة حمل رأس الكافر المقتول]

وكذا أيضًا يُكره حمل رأس الكافر المقتول من المعركة، لكونه تمثيلًا أو كالتمثيل، ولإشعار عدم نقل رأس كافر قط إلى رسول الله صلى الله عليه وآله بمرجوحيته في الجملة، إذ لم يذكر التاريخ أنه جِيء إلى النبي صلى الله عليه وآله برأس، وحتى ما نُقل من مجيء أمير المؤمنين برأس عمرو بن عبد ود العامري إلى النبي، هذا قد يُناقَش فيه، لكن الأمر سهل بناءً على التسامح في أدلة السنن، فلا يدقَّق في اعتبار روايات المستحبات والمكروهات، فيكفي الامتثال رجاء الثواب.

نعم، لو كان في نقل رأس الكافر الحربي نكبة للكفار وقوة للمسلمين، أمكن القول بزوال الكراهة، وذلك لأمر ثانوي، مصلحة ثانوية قد ترتبت على حمل رأسه، ولعله لهذه المصلحة والأمر الثانوي حُمل رأس أبي جهل، كما في السيرة الحلبية[16] ، شرح السير الكبير للسرخسي[17] ، والمعجم الكبير للطبراني[18] ، بل في بعض الأخبار حمل أمير المؤمنين عليه السلام رأس عمرو بن عبد ود العامري، يُراجع[19] .

هذا تمام الكلام في بيان هذه الأحكام غير الإلزامية (الكراهة).

[الأحكام الإلزامية: دفن القتلى]

الآن نأتي إلى بعض الأحكام الإلزامية: هل يجب مواراة القتلى من مسلمين وكفار أو لا؟

قد يُقال بوجوب دفن الشهيد من المسلمين وحرمة دفن الكافر الحربي من الكفار، وهذه الحرمة سيُناقَش فيها وسيتضح أنها لم تثبت.

[أصالة الحل في دفن الكافر]

يجب مواراة الشهيد وغيره من المؤمنين دون الحربي وغيره من الكفار بلا خلاف ولا إشكال، لا يجب دفن الكافر، بل قيل: لا يجوز دفنه بلا إشكال فيه[20] ، لكن حرمة دفن الكافر وعدم جواز دفنه فيه نظر بل منع، لأن أصالة الحل تشمله: ﴿أَحَلَّ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾[21] ، فيبقى الكلام فيما يعارض أصالة الحل ويرفعها، ولا دليل على حرمة دفن الكافر.

[مناقشة دعوى حرمة التشريع]

وقد يُقال إن المعارض هو حرمة التشريع، فيُقال: حرمة التشريع بالنسبة إلى العبادات، وأما دفن الكافر فهو من المعاملات، وبالتالي الكافر حاله حال الكلب والخنزير، يكون على مقتضى الأصول، فيجوز ويحل دفن الكلب والخنزير والكافر، فتشملهم أصالة الحل، ولا يعارضها دليل يدل على حرمة دفن نجس العين.

[الرواية المعارضة: صحيح حماد بن عيسى]

قد يُقال: يوجد معارض، وهو النفي الوارد في الصحيح الذي سنذكره عن رسول الله صلى الله عليه وآله، لكن كما سيأتي إن صحيح حماد بن عيسى - غريق الجحفة - كان في مقام رفع توهم وجوب مواراة الجميع من كفار ومسلمين ولو للمقدمة، فيما إذا اشتبه الكفار بالمسلمين، فيكون دفنهم جميعًا مقدمة علمية لدفن المسلمين. واضح أو لا؟

[تمييز المسلم من الكافر بعلامة الختان]

يعني: المسلم يجب دفنه، الكافر لا يجب دفنه، اشتبه المسلم بالكافر، فيكون دفن الجميع مقدمة علمية، يعني مقدمة للعلم بدفن المسلمين. فيُراد من الصحيح عدم وجوب دفن الجميع إلا من كان كميشًا، وهو صغير الذكر، يعني: إذا اشتبه بين المسلمين وبين الكفار، تشخَّص المسلم من الكافر بأن المسلم صغير الذكر لأنه يختن، الكافر لا يُختَن، من هنا نبحث هذه المسألة.

[النتيجة: حكم دفن الكافر والمشتبه]

إلى هنا اتضح أنه لا يحرم دفن الكافر، لكن لا يجب دفنه لأنه لا حرمة له، حاله حال الكلب والخنزير، ويجب دفن ومواراة المسلم، فلو اشتبه المسلم بالكافر، يجب مواراة من كان كميش الذكر منهم، كما صرح به جماعة، منهم: العلامة الحلي[22] ، ومختلف الشيعة[23] ، والشهيد الأول[24] ، والدروس الشرعية[25] . بل هو ظاهر كلام الشيخ الطوسي في المبسوط[26] ، والنهاية[27] .

[صحيحة حماد بن عيسى: علامة كميش الذكر]

وقد يُستدل عليه بصحيحة حماد بن عيسى - غريق الجحفة - عن أبي عبد الله عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله يوم بدر: لا تُوارُوا إلا من كان كميشًا، يعني: من كان ذكره صغيرًا، وقال: لا يكون ذلك إلا في كرام الناس"[28] . يعني: لا يكون في كرام الناس إلا الذكر الصغير يعني [المختن]. الختان موجود عند المسلمين واليهود دون المسيحيين والوثنيين، وفي يوم بدر كان المسلمين ومشركوا مكة.

هذا الصحيح قد يعتضد بالمرسل عن علي عليه السلام قال: "ينظر موتاهم فمن كان صغير الذكر يدفن" رواه الشيخ الطوسي[29] .

[مناقشة الحديث وإشكالاته]

وقد يُناقَش في الحديث الأول وهو صحيح حماد بن عيسى بأنه مناف لحرمة النظر إلى العورة، وبأن هذا الحديث قضية في واقعة لا يُعلم مغزاها ولا يعرف النكتة فيها إلا رسول الله صلى الله عليه وآله، ولا عموم في هذه الواقعة إذ أنها فعل من الأفعال.

ويُجاب على هذين الإشكالين: بأن النظر لا تشترط فيه المباشرة، بل يمكن بواسطة جسم شفاف ترتسم فيه العورة، خصوصًا في زماننا هذا، إذ يمكن التشخيص من دون نظر مباشر. كما قد يُقال: إن أصل النظر حرام، لكن في خصوص هذا المورد نلتزم بالجواز للضرورة، لكي نميز المسلم من الكافر.

ومن خلال هذا الحديث الصحيح رجَّحنا جانب الجواز على الحرمة نظرًا لوجود مصلحة أهم وهي تشخيص المسلم وفرزه عن الكافر، إذ لو لاحظنا التعليل الوارد في الرواية فمن الواضح أنه يذكر أنه علامة للمؤمن وكرام الناس.

النتيجة النهائية: الرواية معتبرة وقد نصَّت على أن كميش الذكر يُدفن دون غيره.

هذا تمام الكلام في دفن الموتى.

[تطبيق الحكم على الصلاة على الموتى]

[آراء الفقهاء في الصلاة على المشتبهين]

فهل يُعدَّى هذا إلى الصلاة على الموتى؟ لأن الصلاة لا تكون إلا على المسلم، ولا تكون على الكافر.

من هنا صرّح الشيخ الطوسي في المبسوط بعد أن ذكر مضمون هذا الخبر فقال: "فعلى هذا يُصلَّى على من هذه صفته؟ وإن قلنا: إنه يُصلَّى على كل واحد منهم منفردًا بنية شرط إسلامه كان احتياطًا. وإن قلنا: إنه يُصلَّى عليهم صلاة واحدة ويُنوى بالصلاة الصلاة على المؤمنين منهم كان قويًّا"[30] .

إذًا الشيخ الطوسي في المبسوط يرى أن الملاك المذكور في دفن كميش الذكر أيضًا ثابت في الصلاة على كميش الذكر، لكن مقتضى الاحتياط أن يصلَّى عليهم جميعًا ويُنوى الصلاة على خصوص المسلمين منهم دون الكفار.

لكن ابن إدريس الحلي في السرائر، بعد أن نسب صحيح حماد بن عيسى إلى الشذوذ، أوجب القرعة في الدفن لأنها لكل أمر مشكل، فقال: "فأما الصلاة عليهم فالأظهر من أقوال أصحابنا أن يُصلَّى عليهم بنية الصلاة على المسلمين دون الكفار"[31] .

إذًا ابن إدريس فرَّق بين الدفن وبين الصلاة. الدفن: هو لا يؤمن بأخبار الآحاد فقال: القرعة لكل أمر مشكل. الصلاة: استظهر أقوال بعض الأصحاب يُصلَّى عليهم بنية الصلاة على المسلمين دون الكفار. هذا مقتضى الاحتياط.

[مناقشة القرعة والاحتياط]

فلعل نظر ابن إدريس بناءً على أصله من عدم العمل بأخبار الآحاد، ولزوم العمل بخصوص الأخبار القطعية، فخبر الواحد حتى لو كان معتبر السند ليس بحجة عند ابن إدريس، وبالتالي مع الإعراض عن خبر الواحد الذي ليس بحجة، المتجه هو دفن الجميع، هذا مقتضى الاحتياط، لأنها مقدمة علمية تترفع بها الجهالة.

إذا صلَّيتَ على الجميع، أنت تعلم قطعًا أنك صليت على خصوص المسلمين منهم، وبالتالي الصلاة على الجميع ترفع موضوع القرعة، إذًا القرعة لكل أمر مشكل، وهنا لا يوجد مُشكِل.

قد يُقال: يوجد تعارض بين مقدمة الحرام ومقدمة الواجب، باعتبار حرمة دفن الكافر. وفيه: لم يثبت حرمة دفن الكافر، فلا تعارض في البين.

ومن هنا قال الفاضل المقداد السيوري في التنقيح بعد ذكر الخبر المزبور دليلًا لما في النافع - مختصر نافع -: "ولو قيل بدفن الكل احتياطًا كان حسنًا" - دفن الكل يعني كل واحد على حدة - "أما مع التأذي بهم فيُدفنون جميعًا" - يعني إذا ما يستطيع واحد واحد يدفنهم، كلهم يدفنون جميعًا في حفرة واحدة[32] .

[مقارنة بين دفن الكافر والصلاة عليه]

إذًا لا فرق من جهة الموضوع بين دفن الكافر وبين الصلاة على الكافر، ولو التزمنا بكلام ابن إدريس فإننا نقول: القرعة لكل أمر مشكل، كما تُنقِّح موضوع الدفن أيضًا تُنقِّح موضوع الصلاة، فلما التزمتَ بالقرعة في الدفن ولم تلتزم بها في الصلاة؟

[إشكال في نية الصلاة على المشتبهين]

كما قد يُقال بالنسبة إلى الصلاة: إن إرادة التعليق في نية الصلاة على الإسلام مُنافٍ للجزم في النية، يعني: "أصلي عليهم إن كانوا مسلمين"، هذا يتنافى مع الجزم في النية. نعم، لو جُمع الجميع وصُلِّي على المسلمين منهم بنية واحدة، بنية: "أصلي على المسلمين منهم"، لم يقل: "أصلي على هؤلاء إن كانوا مسلمين"، بل "أصلي على المسلمين من هذا الجمع"، فهنا لا يوجد إشكال.

ومنه يتضح ما في مختلف الشيعة من العمل بالنص في الدفن، بخلاف الصلاة فاختار ما ذكره صاحب السرائر[33] .

[النتيجة النهائية في الدفن والصلاة]

النتيجة النهائية: الصحيح هو العمل بالخبر الصحيح، فيُدفن خصوص كميش الذكر، ويمكن تعديته إلى الصلاة، لكن الاحتياط حسن على كل حال، فيمكن أن يُصلَّى على الجميع بنية الصلاة على خصوص المسلمين منهم، والله العالم.

حكم الطفل يأتي.

 


[20] . رياض المسائل، ج8، ص106.
[21] . سورة البقرة: 29.
logo