47/04/26
الدرس (مائة وتسعة): لو أسلم الكافر بعد الأسر لم يسقط الحكم بالتخيير الثلاثي
الموضوع: الدرس (مائة وتسعة): لو أسلم الكافر بعد الأسر لم يسقط الحكم بالتخيير الثلاثي
[المسألة الرئيسة]
الكافر الحربي إذا أُسِر بعد انتهاء الحرب تخيَّر الإمام بين ثلاثة أمور: المنّ عليه، أو طلب الفدية، أو الاسترقاق.
[سؤال:] فلو فرضنا أن الكافر أسلم بعد أسره، فهل إسلامه يُسقط الحكم بالتخيير بين الثلاثة؟
الجواب: إسلامه لا يُسقط ذلك الحكم.
قال صاحب الجواهر[1] : "بلا خلاف معتدّ به أجده فيه، بل ولا إشكال، للأصل والإطلاق".
فالأدلة على الحكم بالتخيير بين الثلاثة مطلقة تشمل ما لو أسلم فيما بعد أو لم يُسلم، كما في خبر طلحة بن زيد.
ويمكن أن يُتمسَّك أيضاً بالاستصحاب، فإذا وقع الكافر الحربي في الأسر بعد الحرب ثبت التخيير بين الأمور الثلاثة، فحينئذ نتيقن بالتخيير، فإذا أسلم نشك في ارتفاع التخيير، فنُجري الاستصحاب: "لا تنقض اليقين بالشك"، نستصحب اليقين بثبوت الحكم بالتخيير بين الثلاثة: المنّ، أو الفداء، أو الاسترقاق.
نعم، ذكر الشيخ الطوسي في المبسوط ما نصه: "قيل: إن أسلم سقط عنه الاسترقاق، لأن عقيلاً أسلم بعد الأسر ففداه النبي صلى الله عليه وآله ولم يسترقه"[2] .
وناقشه صاحب الجواهر بحق فقال: "وفيه أن ذلك حكاية حال فلا تعمّ"، أي أن هذا مجرد فعل، والفعل لا إطلاق له، الألفاظ هي التي لها عموم أو إطلاق، بخلاف الفعل، يُقتصر فيه على القدر المتيقن، لأن الفعل لا لسان له.
كما أن الفداء أحد الأمور الثلاثة المُخيَّر فيها، فلما لا نقول أن النبي صلى الله عليه وآله قد اختار المفادات التي هي إحدى الثلاث؟ فاختار المفادات لا لأجل عدم جواز الاسترقاق، بل لاختياره أحد الثلاثة المخير فيها.
ولو رجعنا إلى ظاهر متن شرائع الإسلام للمحقق الحلي[3] ، فإن الظاهر منها أن الحكم بالتخيير بين الثلاثة: المنّ والفداء والاسترقاق، إنما هو لخصوص الأسير بعد انقضاء الحرب.
وربما احتُمل عموم هذا الحكم للأسير قبل انقضاء الحرب، كالمحكي عن الإسكافي من مضمون الخبر: " الْأَسِيرُ إِذَا أَسْلَمَ فَقَدْ حُقِنَ دَمُهُ وَ صَارَ فَيْئاً "[4] ، نقله عنه العلامة[5] ، فإذا صار فيئاً، أي يمكن استرقاقه أو طلب الفداء أو المنّ عليه.
لكن تقدم الكلام فيما سبق في أن الكافر الحربي إذا أُسِر فحكمه القتل فقط، وإذا أسلم سقط حكم القتل وكان للإمام عليه السلام المنّ عليه، ولا دليل على ثبوت الاسترقاق أو الفداء.
[فرع: الأسير العاجز عن المشي]
فرعٌ: لو عجز الأسير عن المشي لم يجب قتله لأنه "لا يُدرى ما حكم الإمام عليه السلام فيه"، كما في المنتهى والتذكرة وسائر كتب العلامة، يُراجع[6] [7] [8] [9] [10] .
ولعل المراد عدم جواز القتل، كما هو ظاهر النهاية[11] ، والسرائر[12] ، والمختصر النافع[13] ، واللمعة الدمشقية[14] ، والدروس الشرعية[15] ، والروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية[16] ، والمهذب[17] ، بل صرح بعضهم بذلك كابن القطان[18] ، والمحقق الكركي[19] ، والشهيد الثاني[20] ، بل صرح السيد علي الطباطبائي بوجوب الإرسال[21] .
بعد أقطاب المذهب على هذا القول، من الشيخ الطوسي والقاضي ابن البراج الطرابلسي من المتقدمين إلى المتأخرين كالعلامة والشهيد الأول، يُنقل هكذا عن السيد الخوئي رحمه الله: "لو جاز تقليد الميت وأوجبنا الرجوع إلى الأعلم، لأوجبنا الرجوع إلى الشهيد الأول".
ويقول الشيخ جعفر كاشف الغطاء رحمه الله: "الفقهاء ثلاثة: الشهيد الأول، وأنا، وابني موسى".
على كل حال، صاحب فقاهة راقية الشهيد الأول أقوى من الشهيد الثاني رضوان الله عليهم.
ما هو الدليل على هذا الكلام؟
حينما يُقال "الأصل فيه"، يعني الدليل عليه، وليس المراد بالأصل يعني الأصل العملي، والأصل في ذلك، أي الدليل على ذلك، قول علي بن الحسين عليهما السلام في خبر الزهري:
" إِذَا أَخَذْتَ أَسِيراً فَعَجَزَ عَنِ الْمَشْيِ وَ لَيْسَ مَعَكَ مَحْمِلٌ فَأَرْسِلْهُ وَ لَا تَقْتُلْهُ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا حُكْمُ الْإِمَامِ فِيهِ "[22] .
إن قيل: هذا الخبر ضعيف، فيُقال: إنه منجبر بعمل الأصحاب الذين عرفت فتاواهم فيما ذكرناه، خصوصاً ابن إدريس الحلي الذي يعمل بخصوص الأخبار القطعية ولا يرى حجية أخبار الآحاد، فهو لا يعمل بالخبر المعتبر من أخبار الآحاد، فضلاً عن غيره من الأخبار غير المعتبرة.
وهذا يتم بناءً على كبرى الجابرية، والأقوال في ذلك ثلاثة:
[أقوال العلماء في جابرية عمل الأصحاب لضعف الخبر]
«الشهرة العملية جابرة لضعف الخبر» (رأی المشهور)
القول الأول: ما ذهب إليه المشهور من أن الشهرة العملية جابرة لضعف الخبر وكاسرة لقوة الخبر، فشهرة العمل جابرة للضعف، وإعراض المشهور كاسر لقوة الخبر الصحيح. هذا رأي المشهور، وعليه السيد الإمام الخميني رضوان الله عليه.
«الشهرة العملية ليست جابرة» (رأی السيد الخوئي)
القول الثاني: في مقابل ذلك، الشهرة العملية ليست جابرة لضعف الخبر، إذ هي من باب ضمّ اللا حجة إلى اللا حجة، كما يقول السيد الخوئي رحمه الله. كما أن إعراض المشهور ليس كاسراً لصحة الخبر، إذ أن الخبر ما دام قد توفرت فيه شرائط الحجية فحينئذ لا يكون الإعراض الذي ليس بحجة كاسراً للخبر الذي استجمعت فيه شرائط الحجية.
«الشهرة ليست جابرة، لكن الإعراض كاسر» (رأی الشهيد الصدر)
القول الثالث: للسيد الشهيد الصدر، وقد يُستشف من كلمات شيخنا الأستاذ الوحيد الخراساني حفظه الله: الشهرة العملية ليست جابرة لضعف الخبر، إذ هي من باب ضمّ اللا حجة إلى اللا حجة، لكن إعراض الأصحاب كاسر لقوة الخبر، إذ أن إعراضهم يوجب سلب الوثوق.
والقول الثالث ليس ببعيد، والمدار على المبنى في حجية الخبر وحجية الشهرة:
فإذا قلنا إن المدار كل المدار على حجية خبر الواحد الثقة، فحينئذ لا تضرّ الشهرة ولا تنفع إذا قلنا بعدم حجيتها، وبالتالي يصير قول السيد الخوئي هو الحاكم.
وإذا قلنا بحجية الخبر الموثوق كما عليه المشهور والسيد السيستاني حفظه الله السيد علي السيستاني والشيخ الأعظم الأنصاري، فحينئذ الأنسب بهذا المبنى هو قول المشهور: الشهرة العملية جابرة وكاسرة، لأنه عند العمل يحصل الوثوق فيُجبر الضعف، وعند الإعراض يُسلب الوثوق.
وأما إذا قلنا إن الحجية ثابتة لخبر الثقة الموثوق، كما عليه الشهيد الصدر رضوان الله عليه، أي أن موضوع الحجية يتألف من جزئين: الجزء الأول كون الخبر خبر ثقة، الجزء الثاني حصول الوثوق كما لو اجتمعت القرائن الموجبة للوثوق والاطمئنان، فعلى مبنى حجية خبر الثقة الموثوق يرجح القول الثالث.
فإذا أعرض الأصحاب عن خبر ثقة يكون الجزء الأول قد تحقق وهو خبر الثقة، لكن الجزء الثاني وهو الوثوق لم يتحقق بالإعراض، فيُسلب الوثوق، فيكون إعراضهم كاسراً.
لكن لو كان الخبر ضعيفاً وعمل به الأصحاب، فحينئذ لا يمكن العمل بالخبر لأن الشرط الأول لم يتحقق وهو كون الخبر خبر ثقة، وإن تحقق الشرط الثاني وهو الوثوق.
[القول المختار في جابرية الشهرة العملية: حجية الخبر الموثوق المعتضد بالقرائن]
وقد ذكرنا في مباحث الأصول والرجال أن الصحيح ما ذهب إليه المشهور والقدماء من حجية الخبر الموثوق، فالمدار كل المدار على حصول الوثوق والاطمئنان بالخبر، وهذا معنى الخبر الصحيح عند القدماء، الخبر الصحيح يعني المُعتضد بقرائن توجب الوثوق بالصدور.
نعم، من أبرز القرائن كون الخبر صحيحاً وخبر ثقة، والأوفق بهذا المبنى - وهو حجية الخبر الموثوق - هو ما ذهب إليه المشهور من أن الشهرة العملية جابرة وكاسرة، فيتعين القول الأول دون الثاني والثالث.
إنما الكلام في الصغرى: هل تحقق الإعراض أو لا؟ هل تحقق العمل أو لا؟ كلامنا الآن في تنقيح الكبرى.
نرجع إلى أصل مطلبنا خبر الزهري عن علي بن الحسين عليهما السلام.
في الدروس الشرعية[23] للشهيد الأول نُسبة الأمر بإطلاقه إلى النهاية بعد أن حكم بعدم حلّ قتله وكأنه مُشعر بتردد الشهيد الأول فيه.
ومن هنا قال صاحب الرياض: "قيل: ولعله لضعف الخبر، ولأن القتل يتعين عليه فلا يجوز للمسلم أن يتركه وينصرف، لما فيه من الإخلال بالواجب وتقوية الكفار"، بل ربما يؤدي ذلك إلى الاحتيال في الخلاص[24] .
ورد بأنه اجتهاد في مقابلة النص المعتبر بالعمل ممن عرفت، يُراجع.
والتحقيق ما قاله صاحب الجواهر[25] ، فكلامه وفق الأصول، إذ قال ما نصه:
"قلت: إن كان المراد من الأسير في محل البحث الذي أُسِر بعد انقضاء الحرب، فلا إشكال في عدم جواز قتله على كل حال - يعني أسلم أو لم يُسلم - لما سمعته من النص والفتوى، ولعله هو الظاهر منهما هنا، ضرورة كونه الذي لا يُعلم حكم الإمام فيه: المنّ أو الفداء أو الاسترقاق".
إذاً هذا المورد الأول الذي هو الشق الثاني، وهنا جعله مورد أول، هذا هو الظاهر، لما تقول: "لا يُعلم حكم الإمام"، يعني يختار الإمام الاسترقاق أو المنّ أو الفداء.
ثم قال رحمه الله: "وإن كان المراد الذي أُسِر قبل انقضاء الحرب على معنى عدم العلم بحكم الإمام في كيفية قتله" - الحكم معلوم، حكمه القتل، لكن الإمام يختار أي كيفية لقتله، هذا غير معلوم - "بل ربما فُسر به نحو عبارة المتن" - يعني أنه لا يُعلم حكم الإمام، يعني في كيفية القتل - "فقد يُقال إن عدم جواز قتله لكونه من الحد المختص بالإمام عليه السلام كالزاني المحصن، وإن كان لا يخلو من نظر أو منع لكونه مشركاً مأموراً بقتله أينما وُجد".
أقول: كلام صاحب الجواهر وفق الأدلة والموازين الفقهية، فالأسير الذي يُؤسر بعد انتهاء المعركة لا يُقتل أسلم أو لم يُسلم، وإنما يُخيَّر الإمام بين الفداء والاسترقاق والمنّ، فهذا الذي لا يُعلم حكم الإمام فيه.
وأما الذي يُؤسر في أثناء المعركة فحكمه القتل، لكن لا يُعلم رأي الإمام في كيفية قتله، وإجراء الحد بيد الإمام عليه السلام.
هذا تمام الكلام في هذا الأسير الذي لم يستطع المشي، وهناك روايات ربما تؤيد ما ذكرناه، يأتي عليها الكلام.