« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

47/04/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة وسبعة): حكم الأسير الذكر البالغ لو أسلم

الموضوع: الدرس (مائة وسبعة): حكم الأسير الذكر البالغ لو أسلم

[مقدمة الدرس]

الكافر الحربي إذا أُسر في أثناء المعركة فحكمه القتل، وإذا أُسر بعد الانتهاء من المعركة فالإمام مخير بين المنّ والفداء والاسترقاق.

[سقوط حكم القتل بالإسلام]

لكن حكم القتل مقيد بما إذا لم يُسلم الحربي، فإذا أسلم الحربي سقط حكم القتل، ويمكن أن يُدّعى الإجماع على ذلك.

[إجماع الفقهاء على سقوط القتل بالإسلام]

قال صاحب الجواهر[1] : "بلا خلاف أجده فيه، بل عن التذكرة والمنتهى الإجماع عليه، بل ولا إشكال ضرورة حقن الدم بالإسلام الذي أمر النبي صلى الله عليه وآله بالقتال عليه حتى يحصل، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ"[2] .

يُراجع[3] [4] .

[الروايات الدالة على حقن الدم بالإسلام]

وفي خبر الزهري عن علي بن الحسين عليهما السلام: "الأسير إذا أسلم فقد حقن دمه وصار فيئاً"[5] [6] [7] المصدر الذي ذكرناه: الكافي والتهذيب والوسائل لهذه الرواية.

أما الرواية الأولى رواية عامية، خرّجنا مصادرها في درس سابق، من هذه المصادر.[8] [9]

إلى هنا ذكرنا أن من يُؤسر في أثناء المعركة قبل انتهائها فحكمه القتل، وإذا أسلم يسقط حكم القتل، لكنه أسير.

[حكم المنّ على الأسير إذا أسلم]

فهل يثبت المنّ بالنسبة له؟ أي أن الإمام هل يمكن أن يمنّ على هذا الأسير الحربي الذي أسلم ويمنّ عليه بفك أسره وإطلاق سراحه؟

لا شك ولا ريب في جواز المنّ، ويمكن أن يُدّعى الإجماع على ذلك. قال صاحب الجواهر: "كما لا خلاف أجده في أن له المنّ عليه حينئذ -يعني حينئذ أسلم بعد أن أُسر في أثناء المعركة- بل ولا إشكال ضرورة أولويته بذلك من الأسر بعد تقضّي الحرب ولمّا يُسلم"[10] .

بيان وجه الأولوية:

الكافر الحربي إذا أُسر بعد انتهاء المعركة وبقي على كفره ولم يُسلم، فللإمام عليه السلام المنّ عليه، إذ الإمام مخيّر بين ثلاثة أمور: المنّ أو الاسترقاق أو الفدية. فكيف إذا أسلم حينئذ أُسر في أثناء المعركة؟ فثبوت المنّ على الكافر الحربي الذي أُسر في أثناء المعركة وأسلم أولى من ثبوت المنّ على الكافر الحربي الذي بقي على كفره لكنه أُسر بعد انتهاء المعركة.

وجه الأولوية: في المورد الأول أسلم، وفي المورد الثاني لم يُسلم وبقي على كفره، فإذا ثبت المنّ بلا إشكال في المورد الثاني حيث لم يُسلم، فثبوت المنّ في المورد الأول يثبت بالأولوية. ستأتي المناقشة في هذه الأولوية.

إذاً لا إشكال في حكمين وقد يُدّعى عليهما الإجماع:

الحكم الأول: سقوط حكم القتل إذا أسلم.

الحكم الثاني: ثبوت المنّ للإمام على الكافر الحربي إذا أسلم.

[التخيير بين المنّ والاسترقاق والفداء]

[أقوال الفقهاء في التخيير]

إنما الكلام في ضمّ أمرين آخرين وهما الاسترقاق والفداء. فعن الشيخ الطوسي التخيير بين الثلاثة: المنّ والاسترقاق والفداء، يُراجع[11] .

ولعل التخيير بين الثلاثة يُستفاد من إطلاق كلام المحقق الحلي في شرائع الإسلام إذ قال: "ولو أسلموا بعد الأسر لم يسقط عنهم هذا الحكم"، أي التخيير بين المنّ والفداء والاسترقاق. بل هو مختار الشهيد الثاني[12] .

ولعل التخيير بين الثلاثة منشأه الجمع بين ثلاثة أمور:

الأول: الاسترقاق الثابت في خبر طلحة بن زيد.

الثاني: الخبر المرسل في المنتهى وغيره من أن النبي صلى الله عليه وآله فادى أسيراً أسلم برجلين، يُراجع[13] .

يُراجع[14] منتهى المطلب بالنسبة إلى المرسل.

والثالث: هو التمسك بأولوية ما نحن فيه وهو الكافر الذي أُسر في أثناء المعركة وقد أسلم من الكافر الذي أُسر بعد تقضّي الحرب وبقي على كفره، فإذا ثبتت الثلاثة في الكافر الذي بقي على كفره بعد انتهاء المعركة تثبت بالأولوية بالنسبة إلى الكافر الذي أُسر في أثناء المعركة وقد أسلم.

[رأي المحقق الكركي: تعيّن الفداء]

لكن قال المحقق الكركي بحق: أنه يتعين الفداء، وقد جعل هذا القول قوياً متيناً في فوائد الشرائع، يُراجع[15] .

والسر في تعيّن الفداء عدم وجود دليل معتدّ به على جواز الاسترقاق والفداء بعد عدم جمع الخبرين المزبورين لشرائط الحجية، إذ الخبر الثاني مرسل ورواه العامة، والخبر الأول وهو خبر طلحة بن زيد يمكن التأمل في سنده، وإن قوّاه بعض الأعلام وعبّر عنه السيد الخوئي في منهاج الصالحين بمعتبرة طلحة بن زيد. راجع[16] .

إذاً: أولاً قال المحقق الكركي: لا دليل معتدّ به على ثبوت الاسترقاق والفداء.

يتعين المنّ، وهذا الذي سنقوية، تعين المنّ، يسقط القتل، ويتعين المنّ، ولا دليل على ثبوت الاسترقاق والفداء.

[مناقشة الأولوية بين الأسر أثناء الحرب وبعدها]

الآن نناقش الأولوية: قد يُقال بمنع أولوية من الأسر بعد تقضّي الحرب وقد أسلم. يلا لاحظ معي: الآن سنعمل مقارنة بين المورد الأول والمورد الثاني ونفترض فيهما الإسلام.

في المورد الأول: أُسر الحربي في أثناء المعركة وقد أسلم، فإسلامه يحقن دمه.

المورد الثاني: أُسر الحربي بعد المعركة وقد أسلم أيضاً. وسواء أسلم أو لم يُسلم، التخيير ثابت للإمام بين ثلاثة أمور: الاسترقاق أو الفداء أو المنّ.

الآن نتكلم عن المورد الثاني: لو أسلم بعد أسره بعد انتهاء المعركة. هنا نقول: إن إسلامه قد وقع بعد تعلّق حق الاسترقاق به ولو على نحو التخيير، فهو ما دام كافراً وأُسر بعد انتهاء المعركة، تعلّق بهذا الكافر قبل أن يُسلم حق الاسترقاق وأيضاً حق الفداء وحق المنّ، فالإمام له هذه الحقوق الثلاثة أن يختار بينها، وبإسلامه لا تسقط هذه الحقوق الثلاثة، فللإمام أن يسترقه حتى لو أسلم، أو يطالبه بفدية حتى لو أسلم، أو يمنّ عليه.

بخلاف الفرض الأول والمورد الأول، إذا أُسر في أثناء المعركة فحكمه واحد وهو القتل، إما يضرب عنقه أو يُقطع من خلاف كما سيأتي، ولا يثبت مع القتل شيء آخر كالاسترقاق أو الفداء، فإذا أسلم سقط هذا الحكم الواحد وهو ماذا؟ القتل.

ففي المورد الأول يوجد حكم واحد وهو خصوص القتل، ولو لإهانته، وقد سقط هذا الحكم بدخوله الإسلام، وهذا الإسلام كما يمنع من القتل يمنع أيضاً من الاسترقاق، ولا أقل من الشك: هل يصبح قِنّاً وعبداً أو يبقى حراً؟ فتجري أصالة الحرية.

إذاً لا يمكن أن نقيس المورد الأول على المورد الثاني ونثبت هذه الموارد الثلاثة من استرقاق وفداء ومنّ أولوية، الأولوية غير تامة هنا.

طبعاً نحن أجرينا الأولوية بلحاظ أنه أسلم في الموردين.

بل يمكن أن يُناقش أيضاً في ثبوت الفداء، إذ ثبوته فرع تعلّق حق به يُؤخذ الفداء عنه، وهذا الحق لم يثبت ولا دليل على ثبوت الفداء.

[مناقشة أدلة الفداء والاسترقاق]

إن قلت: يمكن أن نتمسك بالمرسل السابق: "فادى النبي صلى الله عليه وآله أسيراً أسلم برجلين".

وفيه: أنه مرسل ولا جابر له، ولا يوجد وجه ظاهر لرد المسلم إلى الكفار، اللهم إلا أن يكون ذا عشيرة تمنعه أو غير ذلك، ولكن حكمه: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾[17] ، تجري قاعدة نفي السبيل ولا يجوز تسليمه إلى الكفار.

نعم، لو قلنا بجواز استرقاق الحربي في تلك الحالة - يعني إذا أُسر في أثناء المعركة - أو جواز فدائه أو المنّ عليه، أمكن حينئذ استصحابه. ولكن ظاهر الفقهاء عدمه، بل الثابت هو حكم واحد فقط وهو القتل، فإذا أسلم سقط هذا الحكم.

[رأي صاحب الجواهر: الاسترقاق والفداء تبع للأسر]

لكن صاحب الجواهر رحمه الله قوّى في الأخير ثبوت الثلاثة، وإن احتاط بثبوت المنّ فقط، فقال: "اللهم إلا أن يُقال: إن الأسر مقتضٍ للاسترقاق باعتبار كونهم فيئاً للمسلمين ومماليك لهم، كما يأتي في بعض النصوص النافية للربا بينهم وبين المسلم، وإن تعيّن قتله شرعاً، فيصح حينئذ استصحابه بعد سقوط القتل بالإسلام ويتبعه الفداء والمنّ، ولعله لا يخلو من قوة، ولكن الاحتياط بالاقتصار على المنّ أولى، والله العالم". انتهى كلامه، زيد في علو مقامه.

يُراجع[18] .

 

توضيح وتقريب ما أفاده صاحب الجواهر:

أن يُقال: إن الأسر يقتضي الاسترقاق، وإن تعيّن قتل الكافر الحربي إذا أُسر في أثناء المعركة، فإذا أسلم الحربي سقط حكم القتل عنه، لكن لا يسقط اقتضاء الأسر للاسترقاق.

وقد دلت الروايات على كون الكفار حين إذ أُسروا أنهم يصبحون فيئاً للمسلمين، ويتبع الأسر الفداء والمنّ، فإذا شككنا في سقوط الأسر والفداء والمنّ نجري الاستصحاب، إذ كنا على يقين سابق بثبوت الاسترقاق بمجرد الأسر، وبإسلام الكافر الحربي نشك في سقوط الاسترقاق، فنجري الاستصحاب: لا تنقض اليقين بالشك، فيبقى حق الاسترقاق ويتبعه المنّ والفداء. وإن كان صاحب الجواهر احتاط قال: الأولى الاقتصار على المنّ دون الاسترقاق والفدية.

أقول: لا دليل على تبعية الفداء والمنّ للاسترقاق، فهذه التبعية تحتاج إلى دليل، كما لا دليل على أن الأسر يقتضي الاسترقاق في كل مورد.

[مناقشة روايات الربا بين المسلمين والمشركين]

ولنرجع إلى الروايات الشريفة الواردة في الربا التي استند إليها صاحب الجواهر، وسنرى أنها لا تدل على ذلك، يُراجع.

 

ولنذكر روايتين:

الرواية الثانية (التي هي الرواية الأولى، وهي تُعد الثانية في الوسائل): [19] قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "ليس بيننا وبين أهل حربنا ربا، نأخذ منهم ألف درهم بدرهم ونأخذ منهم ولا نعطيهم".

ولا دلالة في هذه الرواية على ما نحن فيه، لا الرواية الأولى ولا الرواية الثانية.

الرواية الأولى: [20] عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين: "ليس بين الرجل وولده ربا، وليس بين السيد وعبده ربا"، هذه أجنبية عن مورد بحثنا.

قد يُتمسك بالرواية الثالثة لكنها لا تدل:

الرواية الثالثة: [21] عن أبي جعفر الباقر عليه السلام قال: "ليس بين الرجل وولده وبينه وبين عبده ولا بين أهله ربا، إنما الربا فيما بينك وبين ما لا تملك". قلت: فالمشركون بيني وبينهم ربا؟ قال: "نعم". قال: قلت: فإنهم مماليك؟ فقال: "إنك لست تملكهم، إنما تملكهم مع غيرك، أنت وغيرك فيهم سواء، فالذي بينك وبينهم ليس من ذلك، لأن عبدك ليس مثل عبدك وعبد غيرك".

والرواية الرابعة: [22] مثلها إلا أنه قال: "لأن عبدك ليس عبد غيرك".

هنا الرواية ثبتت أنه ليس بين المسلم والمشرك ربا لأن المشركين مماليك، لكن لم تثبت أن نفس الأسر يقتضي الاسترقاق. دعوى صاحب الجواهر أن نفس الأسر يقتضي ماذا؟ الاسترقاق، هذا غير موجود في الرواية. الموجود في الرواية: الإمام جوّز أخذ الربا على المشركين لأنهم ماذا؟ مماليك للمسلمين.

وبالتالي لا دليل على ثبوت الاسترقاق كما لا دليل على ثبوت الفداء، نعم يتعين المنّ، والله العالم.

[خاتمة البحث]

فتكون النتيجة: الكافر الحربي، إذا أُسر في أثناء المعركة فحكمه القتل إلا إذا أسلم، فحينئذ ينتفي عنه حكم القتل، وللإمام أن يمنّ عليه، ولم يثبت حق الاسترقاق والفداء، والله العالم.

يبقى الكلام فيما لو أُسر بعد المعركة.

 


logo