47/04/21
الدرس (مائة وستة): حكم الأسير الذكر البالغ
الموضوع: الدرس (مائة وستة): حكم الأسير الذكر البالغ
[مقدمة في حكم الأسرى]
الأسير إن كان من النساء أو الذراري أو الذكر غير البالغ فإنه لا يُقتل بل يسبى، ودلَّ على ذلك السيرة القطعية بين المسلمين في تقسيم الغنائم بالإضافة إلى الروايات الشريفة.
[حكم الأسير الذكر البالغ أثناء المعركة]
وأما إذا كان الأسير الحربي ذكراً بالغاً فإما أن يُؤسَر في أثناء المعركة وقبل انتهائها فحكمه القتل.
[حكم الأسير الذكر البالغ بعد المعركة]
وإما أن يُؤسَر بعد انتهاء المعركة وحينئذ يُخيَّر قائد جيش المسلمين بين ثلاثة أمور: الأول: المنّ عليه وإطلاق سراحه، الثاني: استرقاقه، الثالث: طلب فدية مقابل إطلاق سراحه.
[سقوط الحكم عند إسلام الأسير]
وهذان الحكمان للأسير البالغ الذكر الذي يُؤسَر في أثناء المعركة أو بعدها يسقطان، عند إسلام الأسير فإذا أسلم سقط عنه القتل، فلا يُقتل.
[تفصيل التخيير الثلاثي]
يبقى الكلام في تفاصيل التخيير الثلاثي وهو المنّ أو الاسترقاق أو الفدية، ولا شك ولا ريب في ثبوت المنّ، لكن هل يثبت أيضاً الاسترقاق والفدية؟ فيه خلافٌ بين الأصحاب، ومنشأ ذلك اختلاف الدليل، فلا بد من النظر إلى الأدلة من آيات وروايات لنرى دلالتها على الأحكام التي ذكرناها.
هذا هو المشهور والمعروف بين الفقهاء من القدماء إلى يومنا هذا، وقد ذكر هذا الحكم بتفصيلاته السيد الخوئي[1] رحمه الله.
ولنشرع في بيان الأدلة من آيات وروايات، ونقول: لا يشرع أسر الحربي قبل الإثخان، والإثخان من ثخن يثخن أي كثّف، فالإثخان في الحرب أي تكثيف الحرب، وهذا كناية عن اشتداد المعركة، فإذا قيل أثخن في الحرب يعني كثُر القتل واشتدت المعركة.
[الآية الأولى: عدم مشروعية الأسر قبل الإثخان]
فلا يشرع الأسر قبل الإثخان أي قبل وقوع المعركة لقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾ يعني حتى يُقاتِل إلى أن يقاتل في الأرض ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ۗ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ لَّوْلَا كِتَابٌ مِّنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا ۚوَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾[2] .
وقد دلت هذه الآيات المباركة على عدم مشروعية الأسر بقولها ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ﴾ قبل القتال، إذ قالت ﴿حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾، ثم أنبت هذه الآية المسلمين: لماذا تأسرون قبل القتال؟! فقالت: ﴿تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾.
من هنا استظهر صاحب الجواهر[3] رحمه الله، فقال: كما أن الظاهر توجيه اللوم فيها على من أشار على النبي صلى الله عليه وآله بالفداء يعني أخذ الفدية في السبعين أسيراً يوم بدر الذين كان أسرهم قبل الإثخان، ثم تاب الله عليهم.
هذا تمام الكلام في مفاد الآية الأولى.
[الآية الثانية: ضرب الرقاب وشد الوثاق]
الآية الثانية: قوله تبارك وتعالى: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾[4] .
[تفسير الفقهاء للآية الثانية]
وقد ذكرت هذه الآية الكريمة أربعة أمور:
الأول: قتل الكفار حيث قالت ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾
الثاني: أسر الكفار حيث قالت ﴿فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾
الثالث: المنُّ عليهم بإطلاق سراحهم إذ قالت ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ﴾ يعني بعد المعركة
الرابع: الفدية حيث قالت ﴿وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾.
فالآية الكريمة اشتملت على أربعة أحكام: القتل والأسر والفداء والمنّ.
فلا بد أن نستنطق الآية لنفهمها جيداً ولنرجع إلى كلمات الفقهاء خصوصاً في تفسير آيات الأحكام.
[رأي الفاضل المقداد في كنز العرفان]
ومن أبرزها كتاب "كنز العرفان في فقه القرآن" للفاضل المقداد السيوري رحمه الله، إذ قال ما نصه: "المنقول عن أهل البيت عليهم السلام أن الأسير إن أُخِذ والحرب قائمة تعيَّن قتله، إما بضرب عنقه أو قطع يديه ورجليه ويُترك حتى ينزف ويموت، وإن أُخِذ بعد انقضاء الحرب تخيَّر الإمام بين المنِّ والفداء والاسترقاق، ولا يجوز القتل، ولو حصل منه الإسلام في الحالين مُنِع القتل خاصة"[5] .
أقول: هذا المضمون الذي ذكره ورد في خبر طلحة بن زيد عن الإمام الصادق عليه السلام، وذكر أن للحربي حكمين: فإذا كانت الحرب قائمة قُتِل الأسير، وإذا وضعت الحرب أوزارها فالإمام مخيَّرٌ بين المنِّ والاسترقاق والفداء.
[التقديم والتأخير في الآية]
لكن يمكن أن يُستظهَر كلام "كنز العرفان" وما ورد في خبر طلحة بن زيد من نفس الآية الكريمة بدعوى أن فيها تقديماً وتأخيراً كما قاله الحسن البصري، وقد نقل عنه الفضل الطبرسي في "مجمع البيان"[6] ، فذكر أن في الآية تقديماً وتأخيراً، فـ تقديره: ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾، ثم قال: ﴿حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾.
توضيح التقديم والتأخير، ولنذكر نص الآية بالكامل ثم نقدم ونؤخر، فالآية تقول: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾.
هذا المقطع الأخير في الآية ﴿حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ يُقدَّم ويُجعَل بعد ﴿فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾، فتصير الآية هكذا: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ يعني إلى أن تنتهي الحرب، فهذا حكم قتل الأسير الذي يُؤسَر في أثناء المعركة وقبل انتهائها، ثم كمل الآية: ﴿حَتَّىٰ إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ﴾ يعني قويت المعركة ﴿فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾، هذه فاء تفيد التعقيب والتفريع، يعني إذا أوغلتم في المعركة وانتهت فشدوا الوثاق أي أسروهم ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾ يعني إما تَفْدونهم وإما تَمُنُّون عليهم.
وليس في الآية الاسترقاق، ما موجود في الآية الاسترقاق، هذا الاسترقاق يثبت بالسنة كما سيأتي في المناقشة.
[مذاهب الفقهاء في حكم الأسير]
فقول الحسن البصري بالتقديم والتأخير موافقٌ للرواية، وأولى مما ذهب إليه الشافعية من أن الإمام مخيَّرٌ مطلقاً بين القتل والمنِّ والفداء والاسترقاق، يُراجَع[7] .
بل أولى مما عن الحنفية من تخير الإمام بين القتل والاسترقاق، يُراجَع[8] .
إذاً الشافعية خيَّروا بين أربعة: القتل والمنّ والفداء والاسترقاق، والحنفية خيَّروا بين أمرين: بين القتل وبين الاسترقاق.
فما هو وجه قولهم مع وجود الآية الكريمة؟ قيل كما في "كنز العرفان": "فعلى قولهم الآية منسوخة أو مخصصة بواقعة بدر، وظاهر الآية قريب من مذهب الشافعية"[9] .
[مناقشة النسخ والتخصيص]
أقول: أما القول بالنسخ فلا معنى له، إذ ثبت عندنا أن النسخ في القرآن الكريم لم يثبت إلا في خصوص آية النجوى، وما أكثر دعاوى النسخ في تفاسير العامة ولم تثبت عندنا، فالآية الأولى والثانية ليست منسوخة وليست مخصصة.
نعم، ظاهر الآية قريب من مذهب الشافعية، إذ ورد في الآية ضرب الرقاب وهو القتل، وشدُّ الوثاق وهو الأسر، والمنُّ والفداء، لكن لم يرد في الآية الاسترقاق، وقد ذكروا الاسترقاق.
هذا إذا ركنا إلى ظاهر الآية.
لكن يُناقَش بأن ظاهر الآية منع القتل بعد الإثخان والأسر لقوله تعالى ﴿فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً﴾، فالآية نصت على أنه بعد الأسر، بعد انتهاء الحرب، يُخيَّر بين أمرين فقط: المنّ والفداء، وأما القتل فهذا قبل أن تضع الحرب أوزارها، بل ظاهر الآية عدم الاسترقاق، إذ لم يُذكَر فيها الاسترقاق، لكن الاسترقاق ثبت بالسنة.
وربما قيل كما في "كنز العرفان"[10] ، إن الأسر كان محرماً بقوله تعالى: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ﴾[11] ، ثم نُسِخت حرمة الأسر بهذه الآية استناداً لقوله تعالى: ﴿فَشُدُّوا الْوَثَاقَ﴾.
لكن هذا الكلام ليس بتام، لأن الآية لم تحرم الأسر مطلقاً وإنما نفته قبل الإثخان في الأرض، أي قبل اشتعال المعركة، فتنزيل الآية على الأسر قبل الإثخان هو المتعين ، يعني ليس للنبي أن يأسر قبل أن يُثخِن في الأرض وأن تقوم المعركة.
ويوجد احتمال وهو أن يُراد بعدم الإثخان في الأرض أي أنه قبل أن يقوى الإسلام لقلة المسلمين يومئذ، فالإثخان بمعنى الكثافة، "قبل أن يُثخِن في الأرض" قبل أن يكثف وجوده في الأرض، وليس المراد بالإثخان اشتداد الحرب، وهذا هو الذي هو محل بحثنا، لكن هذا الاحتمال خلاف ظاهر الآية الكريمة، فالآية الكريمة فيها إشعار بعدم جواز الأسر قبل الإثخان أي قبل المعركة، والله العالم.
[خاتمة البحث]
هذا تمام الكلام في حكم الأسير البالغ عند أسره في أثناء الحرب فإنه يُقتل، وعند أسره بعد أن تضع الحرب أوزارها يُخيَّر الإمام بين المنِّ والفدية والاسترقاق، لكن إذا أسلم الأسير سقط القتل بالإجماع.
هذا ما يأتي عليه الكلام.