« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

47/04/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة وأربعة): جعل والي الجيش الجعائل لمصلحةٍ

الموضوع: الدرس (مائة وأربعة): جعل والي الجيش الجعائل لمصلحةٍ

[المسألة الرئيسة]

لو جعل قائد الجيش جعالة من الأعيان كجارية أو غلام، ثم فتح البلد على أمان، فكانت الجارية أو الغلام من جملة ما تعلق بها الأمان، فهل يبطل الأمان بالنسبة لهما أو لا؟

الصحيح: مضي الأمان وأنه لا يبطل.

[قول أبي اسحاق والرد عليه]

خلافاً لأبي إسحاق من الشافعية حيث ادّعى أن الأمان يبطل حينئذٍ نظراً لاستحقاق المجعول له العين، والمفروض أن الأمان قد تعلق بها، يُراجع[1] [2] [3] .

لكن يرد عليه أن مجرد استحقاق الشخص المجعول له للعين التي تعلق بها الأمان - كالجارية أو الغلام - لا يقتضي بطلان الأمان بالنسبة لهما.

وهنا توجد صورتان:

الصورة الأولى: اتفاق المجعول له مع أرباب الجارية أو الغلام.

الصورة الثانية: عدم اتفاق المجعول له مع أرباب الجارية والغلام بأن وقع التعاسر بينهما.

أما الصورة الأولى كما لو اتفق من جُعلت له الجارية كجعالة مع أرباب الجارية على بذل هذه الجارية للمجعول له ولو بعوض، أو على العكس وهو إمساك أرباب الجارية للجارية في مقابل عوض يدفع لهم، فإذا حصل اتفاق بين المجعول له وبين أرباب الجارية جاز الأمان ولم يبطل.

إذاً الصورة الأولى في صورة الاتفاق لا إشكال في مضي الأمان.

إنما الكلام في الصورة الثانية

لو تعاسروا ولم يتفق أرباب الجارية مع من جُعلت له، وهنا قولان:

القول الأول: فسخ الهدنة، وصرّح بذلك الشيخ الطوسي في المبسوط[4] ، والشافعي من العامة[5] [6] .

والسر في ذلك: هو تعذر الإمضاء عند التعاسر نظراً لسبق تعلق حق الدال، فمن جُعلت له الجارية لأنه دلّ على الطريق مثلاً، هذا حقه سابق على إعطاء الأمان، والمفروض تعذر الجمع بين حق من له الجعالة وبين الأمان المتأخر عنه، فتكون النتيجة بطلان الأمان والهدنة، لكن يُردّون إلى مأمنهم تجنباً عن الغدر، بعد فرض نزولهم على الأمان، بل يُردّون حتى إلى حصنهم كما لو كانوا في قلعة، فإنهم يُردّون إلى تلك القلعة وذلك الحصن.

القول الثاني: تقديم بقاء الهدنة والأمان، واستحقاق المجعول له القيمة، فحق المجعول له وإن سبق، لكن سبق حقه لا ينفي الهدنة، فيكون حاله حال ما لو تعذر تسليم الجارية أو الغلام إليه بسبب الإسلام، فترجح هذه المصلحة على الفسخ المحتمل. ويظهر من العلامة الحلي اختيار هذا القول في مختلف الشيعة[7] ، ومال إليه بعض من تأخر عنه كالمحقق الكركي في جامع المقاصد[8] ، والشهيد الثاني في المسالك[9] .

أقول: الصحيح هو القول الأول دون القول الثاني الذي يصعب تطبيق قواعد الإمامية عليه، ففرق بين مورد بحثنا وهو سبق الجعالة على الجارية وتأخر الأمان بعد الفتح وتعاسر من له الجعالة مع أرباب الجارية، فهذا المورد وهذا الموضوع لا يُقاس مع جارية لمسلم أو كافر وأسلمت، ففرق كبير بين الموضوعين والموردين، ولا يقاس هذا على ذاك، فيُرجع إلى مقتضى القواعد، والقول الأول أوفق بالقواعد، إذ أن الجارية أو الغلام أُعطي لهم الأمان، فخرجوا من الحصن أو القلعة في أمان، وتعارض الأمان اللاحق مع الجعالة السابقة، فإن أمكن الوفاق فهو - وهو الشق الأول - لو توافق من له الجارية مع أرباب الجارية، وأما إن حصل التعاسر ولم يحصل التوافق، فحينئذ يبطل هذا الأمان لتنافيه مع الجعالة السابقة، لكن يُردّون إلى مأمنهم لأنهم قد خرجوا بشبهة الأمان.

[فرع: إسلام الجارية قبل الفتح]

فرع: لو كانت الجعالة جارية فأسلمت قبل الفتح، لم تُدفع إليه سواء كان مسلماً أو كافراً، نظراً لخروجها عن قابلية الاسترقاق، فهي حرة مسلمة غير قابلة للاسترقاق، لكن تدفع له قيمة الجارية التي تحررت عوضاً عنها، كما صرّح به غير واحد كالشيخ الطوسي[10] ، والعلامة[11] ، وابن القطان[12] . وهذا العوض الذي يُدفع له بمثابة استحقاق أجرة المثل، فهو قد استحق الجارية لكن لا يمكن دفعها إليه فتدفع قيمتها إليه.

[الاستدلال بدفع القيمة عند بعض العامة]

وربما استُدل على دفع القيمة من قبل بعض العامة وكما في تذكرة الفقهاء[13] بأن النبي صلى الله عليه وآله صالح أهل مكة عام الحديبية على أن من جاء منهم ردّه إليهم، فلما جاء نساء مسلمات منعه الله تعالى من ردهن إلى أزواجهن وأمره برد مهورهن وفسخ ما وقع من الهدنة، يُراجع[14] .

[نقد الاستدلال بصلح الحديبية]

ولا يخفى أن الاستدلال بهذه الواقعة فيه ما فيه، إذ هو أجنبي عن موضوع بحثنا، فموضوع بحثنا الجارية المجعولة التي أسلمت قبل الفتح فيقال بدفع قيمتها لتعذر تسليمها، وأين هذا من موضوع الدليل وهو اتفاق النبي في صلح الحديبية على أن من جاء من المشركين من مكة إلى المدينة فإن النبي يرده إلى مكة، فلما جاءت المسلمات الأحرار، المسلمات اللائي جئن إلى النبي لم يكنّ من الجواري، كنّ أحراراً، وأين هذا الموضوع من موضوع الجارية؟! فلا يصلح للاستدلال.

[إسلام الجارية بعد الفتح]

ولو أسلمت الجارية المجعولة بعد الفتح وكان المجعول له كافراً، فإنها لا تُسلّم إليه لعدم ملك الكافر للمسلم ابتداءً ووجوب نقله عنه استدامة بقاعدة السبيل: ﴿وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾[15] .

نعم، لو أسلمت الجارية بعد الفتح وكان المجعول له مسلماً، دُفعت إليه لأن الإسلام لا يرفع الملك الحاصل بالفتح، فيصير المورد كما لو أسلم المسبي بعد سبيه.

[فرع: موت الجارية]

فرع: لو ماتت الجارية المجعولة قبل الفتح أو بعده ولم يحصل تفريط في دفعها إلى المجعول له، لم يكن له عوض عنها، كما صرّح بذلك الشيخ الطوسي[16] ، وغيره[17] [18] .

بل ذهب إلى ذلك الشافعي في أحد قوليه، لأن حقه فيها ففات بفواتها، أي أنه قد انتفى الموضوع، فيصير من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فهذه الجارية جُعلت له وماتت قبل التسليم من دون تفريط، فحينئذٍ يسقط حقه لفوات الموضوع وانتفاء الموضوع.

خلافاً للشافعي في قوله الثاني حيث قال: تُدفع له القيمة كما لو تعذر تسليمها بالإسلام، يُراجع[19] .

لكن كلامه ليس بتام، إذ أن التسليم في المسلمة ممكن ولكن منع منه الشرع فجُبر بالقيمة جمعاً بين الحقين، بخلاف فرض المسألة وهو أنه لو ماتت قبل دفعها إليه من دون تفريط، إذ تعذر التسليم فيه عقلاً من دون تفريط، ولا دليل على أنه يستحق غير دفعها إليه، فلا دليل على لزوم دفع القيمة له، ولا أقل من الشك فتجري أصالة البراءة، فالأصل ينفي وجوب دفع القيمة له.

هذا تمام الكلام في الجعالة.

البحث في الأسارى وأحكام الأسرى، يأتي عليه الكلام.


[3] حلية العلماء، ج7، ص675. [لم أعثر علي الموضوع].
[6] حلية العلماء، ج7، ص676.
[12] معالم الدين، ابن القطان، ج1، ص290.
logo