« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

47/04/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة واثنان): حكم ما لو مات حاكم التحكيم قبل الحكم

الموضوع: الدرس (مائة واثنان): حكم ما لو مات حاكم التحكيم قبل الحكم

 

[الموضوع لغرض الإدراج في الملف العلمي:

التحكيم في الفقه الإسلامي: دراسة في موت الحاكم، شروط الحكم، وتعدد الحكام

ضوابط نفاذ حكم الحاكم في التحكيم بين المسلمين والكفار: دراسة مقارنة بين آراء الفقهاء]

[موت الحاكم قبل صدور الحكم]

لو تم اختيار الحاكم لكنه قبل الحكم قد مات، فحينئذٍ يبطل الأمان، لكن يُردّون إلى مأمنهم. قال صاحب الجواهر: "بلا خلاف أجده فيه"[1] . إذ لا إشكال في ذلك، ضرورة عدم ما اتفقوا عليه من الحاكم الشخصي، والفرض أنهم نزلوا على حكم الحاكم الشخصي، فهم في الأمان حتى يُردّوا إلى مأمنهم.

[اختيار حاكم جديد بعد موت الأول]

نعم، لو اتفقوا ثانيةً على حاكم آخر جامع للشرائط بعد موت الحاكم الأول، جاز اتفاقهم ونفذ حكم الحاكم الجديد لعموم الأدلة.

فمن يختار الحاكم؟ إما جيش الإسلام فبإمضاء ولي الأمر أو قائد المسلمين يكون حكم الحاكم نافذاً، وإما أن يكون باختيار أهل الحرب، وحينئذٍ قد يختارون صالحاً مُمضىً من قِبل المسلمين فيكون حكمه أيضاً نافذاً، وقد يختاروا غير الصالح فلا ريب في عدم قبول حكمه.

[اختيار غير الصالح للتحكيم وأثره على عقد الهدنة]

لكن يقع الكلام: هل اختيارهم لغير الصالح للتحكيم يقتضي بطلان عقد الهدنة، أو يبقى عقد الهدنة على مقتضاه ويبطل اختيارهم، فلا بد أن يختاروا حاكماً آخر تتوفر فيه الشرائط؟

الصحيح هو الثاني، فعقد الهدنة لا يبطل بسوء اختيارهم لحاكم غير صالح، وإنما يبطل خصوص ذلك الاختيار، ويمكن أن يستأنفوا اختياراً جديداً لحاكم تتوفر فيه الشرائط.

[خطأ الحاكم في الحكم]

فرع: لو اختاروا حاكماً تتوفر فيه الشرائط، وأمضاه ولي أمر المسلمين، لكن الحاكم قد أخطأ في حكمه وحكم بخلاف الشرع، فحينئذٍ لا ينفذ حكمه لأنه مخالف للشرط وهو موافقة الشرع.

سؤال: لكن باشتباه الحاكم، هل يبطل تحكيمه مطلقاً؟ أو يبطل خصوص حكمه الشخصي الذي لم يستند إلى الشرع؟

الجواب: يبطل خصوص حكمه الشخصي، ولا يبطل أصل تحكيمه ما دامت الشرائط متوفرة فيه كالعدالة والإلمام بالشرع. غاية ما في الأمر أنه اشتبه أو أخطأ، فالأقوى بقاء الحكومة للحاكم لو فرض حكمه بخلاف الشرع خطأً، فينفذ حكمه بعد ذلك إذا حكم بالمشروع، خلافاً لأبي حنيفة الذي ذهب إلى بطلان حكمه، يُراجع[2] .

هذا تمام الكلام في اختيار حاكم واحد.

سؤال: هل يجوز اختيار أكثر من واحد؟ وإذا جاز اختيار أكثر من واحد، هل يُشترط أن يحكموا بنحو المجموع أو بنحو الجميع على نحو الاستقلال؟ فهل يُشترط في حكمهم اتفاق مجموعهم بحيث لو خالف واحد لم يثبت الحكم؟ أو أن المراد بالمجموع ليس المجموع بل الجميع على نحو الانحلال والاستقلال، فلكل واحد من الاثنين أو الثلاثة أو الخمسة أن يحكم بشكل مستقل؟

الجواب: لو رجعنا إلى أدلة التحكيم، أمكن القول أنها تشمل جميع هذه الصور، فتشمل الحاكم الواحد، وتشمل حكم الجميع بنحو المجموع، وبنحو الاستقلال، كما في قوله صلى الله عليه وآله: "ولكن أنزلهم على حكمكم"، وفي مقطع آخر: "ولكن أنزلهم على ذممكم وذمم آبائكم وإخوانكم"، ولا خصوصية للمخاطَب "أنزلهم أنت"، يعني لا بد أن تكون واحداً، هنا النزول على حكمكم أو على ذمم آبائكم وذممكم، والنزول على الحكم وعلى الذمم، كما يكون بالواحد يكون بأكثر من واحد، وإذا كان بأكثر من واحد قد يكون بالمجموع وقد يكون بنحو الاستقلال.

إذاً يجوز أن يستند الحكم إلى اثنين أو أكثر مع ملاحظة الاجتماع، أي بنحو المجموع. قال صاحب الجواهر: "بلا خلاف أجده فيه"[3] ، بل في المنتهى[4] الإجماع عليه.

قال صاحب الجواهر: "وهو الحجة بعد إطلاق الخبر المزبور"، يعني يكون الدليل دليلان: الأول: التمسك بإطلاق الخبر، والثاني: الإجماع، أي أن الفقهاء هكذا فهموا.

فيعتبر حينئذ لاحظنا الاجتماع اتفاق المجموع على الحكم، فلو مات واحد منهم - أحدهما إذا كانوا اثنين، أو أحدهم إن كانوا أكثر من اثنين - بطل حكم الباقي، مثل الأوصياء إذا كان الوصي هو المجموع ومات أحدهم، لا تتم الوصية إلا إذا عيّنوا مكانه وصياً واتفقوا عليه وتمّ المجموع.

[الخلاف في مشروعية تعدد الحكام: المجموع والاستقلال]

وهل يجوز إسناد الحكم إلى اثنين أو أكثر على أن يكون كل واحد مستقلاً ولكن التخيير بيد المسلمين أو الكفار؟

وجهان: وجه للجواز ووجه لعدم الجواز، والأقوى هو الجواز تمسكاً بالإطلاق.

إذاً في الحكم بنحو المجموع يوجد إجماع، الحكم بنحو الاستقلال يوجد اختلاف، ولكن إذا تمسكنا بإطلاق الخبر فإنه يشمل كلتا الصورتين: صورة المجموع وصورة الاستقلال.

[شروط صحة الحكم]

ولا يجوز النزول على حكم اثنين أحدهما كافر، كما صرح به العلامة في المنتهى[5] . وكذا لا يجوز النزول على حكم من فقد شرطاً من شرائط الحكم، فالدليل يقتضي عدم الفرق بين الاستقلال والانضمام، فلا بد من توفر الشرائط.

ولو نزلوا على حكم حاكم معين فمات قبل الحكم، لم يحكم عليهم غيره إلا إذا اتفقوا عليه. هذه كلها تفريعات العلامة في المنتهى، أكثر هذه الفروع ذكرها صاحب الجواهر نقلاً من تفريعات العلامة رضوان الله عليه.

ولو طلب الكفار الحكم ممن لا يصلح للحكم، لم يُجابوا إليه، لكن يُردّون إلى مأمنهم. وكذلك لو نزلوا على حكم معين فبان أنه غير صالح للحكم، وتراضيهم على حاكم غير صالح لا ينفع ولا يفيد.

[نماذج تاريخية: حكم سعد بن معاذ]

إذا تم هذا وتوفرت الشرائط في الحاكم، فحكمه ملزم. فلا خلاف ولا إشكال بعد مشروعية التحكيم في أنه يجب اتباع ما يحكم به الحاكم إلا إذا تبين أنه أخطأ أو اشتبه، كأن يحكم بما ينافي الشرع، كما لو حكم بالرد إلى مأمنهم.

نعم، لو اشترطوا في عقد الهدنة بأنهم إن لم يحكم فلان يجب أن تُردّونا إلى مأمننا، فإنه في هذه الحالة إذا لم يحكم يجب العمل بالشرط الذي تم الاتفاق عليه ويُردّون إلى مأمنهم.

إذاً يُشترط في الحاكم ملاحظة الشرع ومصلحة المسلمين، يعني بعد إحراز عدالته لا بد أن يكون حكمه موافق لأمرين: موافق للشرع، وموافق لمصلحة المسلمين، أن يحكم بما فيه مصلحة للمسلمين.

إذا تم هذا ينفذ حكمه، كما نفذ حكم سعد بن معاذ في بني قريظة بقتل الرجال وسبي الذرية واغتنام المال، حتى قال النبي صلى الله عليه وآله: "لقد حكم بحكم الله من فوق سبعة أرفعة" (لماذا كلامه موافق؟)، هذا موافق لعمومات الأمر بالقتل والسبي، يُراجع النص في تفسير جوامع الجامع[6] [7] .

[صور الحكم: القتل، السبي، المنّ، عقد الذمة، الفداء]

فرع: لو حكم الحاكم باسترقاق الرجال وسبي النساء والذرية وأخذ الأموال، فحكم بهذه الأمور الثلاثة، فحكمه حينئذٍ نافذ، إذ له سلطنة على ذلك.

ولو حكم بالمنّ على الرجال والنساء والذرية وترك السبي مطلقاً، فحكمه أيضاً نافذ، إذ له المنّ عليهم إذا كانت مصلحة الإسلام تقتضي ذلك. فكما يجوز للإمام المعصوم عليه السلام المنّ، كذلك يجوز للحاكم المنّ إذا افترضنا مشروعية حكمه.

لكن عن بعض الجمهور والعامة عدم الجواز، لأن الإمام لا يملك ذلك في الذرية مع السبي[8] ، فعند السبي وتحقق السبي لا يملك الإمام ذلك والعفو عنه.

وفيه: فرق بين مورد تحقق السبي المقتضي للتملك - يصيرون إماء - وبين ما نحن فيه من التحكيم عند إعطاء الأمان، فالسبي ما تحقق، فلم يتحقق السبي حتى يتحقق مقتضاه وهو التملك، فقياس السبي على ما نحن فيه قياس مع الفارق ، فللإمام أن يمنّ وأن يعفو عنهم.

[مشروعية عقد الذمة بإلزام الجزية في التحكيم]

فرع: لو حكم الحاكم بأن يعقد عقد الذمة ويؤدوا الجزية، جاز حكمه ولزمهم أن ينزلوا على حكمه، وقد صرح الشيخ الطوسي بذلك في المبسوط[9] .

لكن عن الشافعي في أحد قوليه: عدم جواز عقد الذمة، لأن عقد الذمة عقد معاوضة فلا يثبت إلا بتراضي الطرفين، إذ قوام المعاوضة الطرفين أو الأطراف، ولذلك لم يجز أن يُجبر الأسير على قبول عقد الذمة[10] .

وفيه: يوجد فرق بين المقام وما نحن فيه، إذ هو مسبوق بالرضا بالحاكم وحكمه، ومن حكم الحاكم عقد الهدنة، بخلاف الأسير الذي لم يسبق منه التراضي المعتبر في العقد، فالأسير لم يرضَ ابتداءً بعقد الذمة، بخلاف حال الأمان وتحكيم الحاكم، هنالك رضا بحكم الحاكم، فإذا حكم الحاكم بأخذ الجزية وإجراء شرائط الذمة، نفذ حكمه.

وهكذا لو حكم بالفداء ولزوم أن يدفعوا الفدية، لزم حكمه.

[الخلاصة في ضوابط نفاذ الحكم]

الخلاصة:

حكم الحاكم العادل الذي تراضوا عليه، إذا توفر فيه أمران: الأول: موافقة الشرع، الثاني: موافقة الغبطة أي مصلحة المسلمين - فقد يكون الشيء موافقاً للشرع لكن في هذا الوقت ليس من صالح المسلمين - فإذا كان حكم الحاكم موافقاً للشرع والمصلحة، مضى ونفذ حكمه.

[الحكم بعد الحكم: العفو أو الاسترقاق]

فرع آخر: الحكم بعد الحكم. لاحظ هذه المسألة: لو أراد الحاكم المن على من حكم عليه بالقتل، جاز ذلك. أول شيء حكم عليه بالقتل، أخذوه لمقصلة الإعدام، لاحظ أن المصلحة في العفو عنه، قال: كفّوا، عفونا عنه، جاز ذلك.

كما يُحكى عن ثابت بن قيس الأنصاري أنه سأل النبي صلى الله عليه وآله أن يهب له الزبير بن باطا اليهودي، ففعل، بعد حكم سعد عليهم بقتل الرجال. سعد بن معاذ حكم بقتل جميع الرجال اليهود، لكن لما شفع ثابت بن قيس الأنصاري للزبير بن باطا، عفا عنه النبي صلى الله عليه وآله، يراجع[11] .

نعم، لو حكم على الكافر بالقتل ثم أراد استرقاقه، قال العلامة في المنتهى: لم يكن له ذلك، لأنه لم يدخل على هذا الشرط[12] .

وناقشه صاحب الجواهر قائلاً: "ولكن لا يخلو من نظر"[13] .

وتأمل صاحب الجواهر في محله، إذ أن هذا من صلاحيات الحاكم، فله أن يأمر بقتله ثم بعد ذلك إما يعفو عنه كما في المورد الأول، أو يسترقّه كما في المورد الثاني، إذا كان موافقاً للشرع والمصلحة، الضابطة تشمله.

[وجوب الحكم على الحاكم بعد قبوله التحكيم]

الفرع الأخير: لو توافقوا على حاكم، فهل يجب عليه أن يحكم بينهم؟

الجواب: لا يجب الحكم على الحاكم وإن كان قد قبل التحكيم، للأصل، الأصل عدم الوجوب. توافقوا عليه، وافق، لما وجد الأمر صعب، أعرض عن الحكم، له ذلك، ولا يجب عليه أن يحكم، والله العالم.

فرع الحكم بالقتل والسبي وأخذ المال ثم إسلامهم، يأتي عليه الكلام، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.


[2] الفتاوى الهندية، مجموعة من المؤلفين، ج2، ص201.. [لم أعثر على الموضوع في الموقع]
logo