« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

47/04/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (مائة وواحد): الكلام في التحكيم

الموضوع: الدرس (مائة وواحد): الكلام في التحكيم

[مقدمة في مشروعية التحكيم]

التحكيم وهو العقد مع الكفار بعد التراضي معهم على أن ينزلوا على حكم حاكم فيُعمل على مقتضى حكمه، وإلى هذا أشار المحقق الحلي في الشرائع بقوله: يجوز أن يُعقد العهد على حكم الإمام عليه السلام أو غيره ممن نصبه للحكم، ولا خلاف في مشروعية التحكيم، وقد دلت على ذلك روايات العامة والخاصة.

[التحكيم في السيرة النبوية وروايات العامة والخاصة]

ففي رواية الجمهور والعامة إن النبي صلى الله عليه وآله لما حاصر بني قريظة رضوا بأن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأجابهم النبي صلى الله عليه وآله إلى ذلك، فحكم عليهم بقتل رجالهم وسبي ذراريهم، فقال له النبي صلى الله عليه وعلى آله: لقد حكمت بما حكم الله تعالى به فوق سبعة أرفعة. في الكثير من المصادر[1] [2] [3] [4] [5] بدل أرفعة أرقعة، أي سبع سماوات.

[رواية مسعدة بن صدقة ودلالتها على حكم الله الواقعي]

وفي خبر مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله عليه السلام في وصية النبي صلى الله عليه وآله لمن يأمره على سرية: وَ إِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ‌ فَأَرَادُوكَ عَلَى أَنْ يَنْزِلُوا عَلَى حُكْمِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ فَلَا تَنْزِلْ لَهُمْ ، وَ لَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكُمْ ثُمَّ اقْضِ فِيهِمْ بَعْدُ مَا شِئْتُمْ فَإِنَّكُمْ إِنْ تَرَكْتُمُوهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ لَمْ تَدْرُوا تُصِيبُوا حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لَا ومن الواضح أن هذا المقطع ناظر إلى حكم الله الواقعي لا الظاهري وأنى لغير المعصوم أن يدرك حكم الله الواقعي.

وجاء أيضاً في خبر مسعدة بن صدقة: وَ إِذَا حَاصَرْتُمْ أَهْلَ حِصْنٍ فَإِنْ آذَنُوكَ عَلَى أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى ذِمَّةِ اللَّهِ - هكذا في نسخة التهذيب، في نسخة الكافي للكليني والوسائل للحر العاملي بدل "فأرادوك" "فإن آذنوك" - أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى ذِمَّةِ اللَّهِ وَ ذِمَّةِ رَسُولِهِ فَلَا تُنْزِلْهُمْ وَ لَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى ذِمَمِكُمْ وَ ذِمَمِ آبَائِكُمْ وَ إِخْوَانِكُمْ فَإِنَّكُمْ إِنْ تُخْفِرُوا - يعني تنقصوا - ذِمَمَكُمْ‌ وَ ذِمَمَ آبَائِكُمْ وَ إِخْوَانِكُمْ كَانَ أَيْسَرَ عَلَيْكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أَنْ تُخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَ ذِمَّةَ رَسُولِهِ ص‌[6] .

وورد نحو خبر مسعدة بن صدقة في رواية العامة[7] [8] [9] [10] [11] أيضاً، يعني تكرر هذا الحديث في كذا صحيح من الصحاح الستة عند أهل السنة.

[آراء الفقهاء من العامة والخاصة في النزول على حكم الله]

إذا نظرنا إلى هذه الرواية التي ذكرها العامة أيضاً يتضح ما حُكي عن محمد بن الحسن الشيباني من العامة، فقد ذهب إلى عدم جواز إنزال الإمام لهم على حكم الله تعالى[12] [13] . وذكر العلامة في المنتهى ما نصه: الذي رواه علماؤنا المنع، وقال أبو يوسف: يجوز ذلك، إلى أن قال: لأن حكم الله معلوم إذ هو في حق الكفرة المقاتلين القتل والاسترقاق في ذراريهم والاستغنام لأموالهم[14] .

وقد ناقش في ذلك المحقق صاحب جواهر بحق إذ قال: لا ينبغي التأمل في جواز ذلك للنبي صلى الله عليه وآله والإمام عليه السلام الذي هو معصوم عن الخطأ، نعم هو غير جائز لأئمتهم أي أئمة العامة وأئمة الكفر، فلا وجه لما يظهر من الفاضل أي العلامة الحلي من المنع خصوصاً بعد قوله صلى الله عليه وآله لمعاذ: قد حكم الله بذلك فوق سبعة أرفعة. وما ذكره أبو يوسف من جواز الحكم بحكم الله لأن حكم الله معلوم يدفعه أن المراد بالنزول على حكم الله هو تعيين أحد أفراد التخيير المذكورة عند الله تعالى شأنه، ولا ريب في كونه غير معلوم لغير النبي صلى الله عليه وآله والإمام عليه السلام عندنا كما هو واضح، إذاً ليس المراد حكم الله الظاهري، المراد حكم الله الواقعي، ولا يعرف حكم الله الواقعي إلا المعصوم عليه السلام كالنبي والإمام صلوات الله وسلامه عليهم.

هذا تمام الكلام في أصل التحكيم وأنه مشروع.

[شروط الحاكم في التحكيم]

ما يُعتبر في حاكم التحكيم:

[الشرط] الأول: كمال العقل، إذ لا عبرة بحكم الصبي لسلب عبارته، والمجنون والسكران ونحوهم لسلب عبارتهم.

الشرط الثاني: الإسلام.

الشرط الثالث: العدالة. وقد يُستغنى بقيد العدالة عن قيد الإسلام، فإذا اشترطنا العدالة فلا بد أن يكون مسلماً. واشتراط العدالة لعدم كون الفاسق محل الائتمان، بل الفاسق ظالم لنفسه ومنهي عن الركون إليه كما في سورة هود: ﴿وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾[15] .

قد يُشكل بحكومة أبي موسى الأشعري في واقعة صفين والمعلوم فسقه، وكذلك من ناظره في التحكيم وهو عمرو بن العاص المعلوم فسقه.

والجواب: هذه الحكومة لم تكن برضا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كما هو معلوم من كتب السير والتواريخ، أمير المؤمنين كان يريد عبد الله بن العباس ولكن الخوارج حالوا دون ذلك، يراجع[16] [17] [18] .

الشرط الرابع: الذكورة.

الشرط الخامس: الحرية.

[مناقشة اشتراط الذكورة والحرية]

وفيهما خلاف، فهناك من ذهب إلى اشتراط الذكورة والحرية لقصور المرأة والعبد عن هذه المرتبة وهي مرتبة التحكيم، وظهور قوله صلى الله عليه وآله: "أنزلوهم على حكمكم" في غيرهما أي في غير العبد والمرأة، ما كان متعارف عند العرب أن يُقرر وأن يحكم امرأة أو عبد. يُراجع[19] [20] [21] العلامة في القواعد حيث اشترط الذكورة والحرية.

وهناك من تردد في اشتراط الذكورة والحرية، فمن قال: إن العبد والمرأة يقصران عن التحكيم مع وجود القابلية لهما على ذلك، كما أن فتاوى الفقهاء مطلقة. ولو قيل بوجود قصور فإنه ينجبر باشتراط العدالة والمعرفة بالمصالح الحاضرة والمتأخرة، بل واعتبار المعرفة في الأحكام الشرعية كي لا يكون حكمه مخالفاً للشرع.

وفي المنتهى: ويُشترط في الحاكم شروط سبعة: أن يكون حراً مسلماً بالغاً عاقلاً ذكراً فقيهاً عدلاً[22] . وناقشه صاحب الجواهر رحمه الله قائلاً: إن شرط العدالة يُغني عن اشتراط البلوغ والإسلام، وأما اشتراط الذكورة والحرية فقد عرفت الكلام في اشتراطهما، ولعل الأقوى عدمه لما عرفت[23] .

أقول: لم ينهض دليل على اشتراط الذكورة والحرية فيمكن التمسك بإطلاق الروايات والفتاوى. نعم، الاحتياط حسن على كل حال، والعبرة في شروط التحكيم هو توفر شروط التكليف: البلوغ والعقل والإسلام - شروط التكليف العامة - والعدالة والإلمام بطرق التحكيم، فإذا توفرت هذه الشروط كفى ذلك في إمكانية التحكيم.

ومن هنا الظاهر جواز كونه أعمى أو محدوداً في قذف مثلاً وتاب أو أسيراً معهم، خلافاً لبعض العامة إذ نفوا ذلك لوجوه اعتبارية وهي مدفوعة باشتراط العدالة والمعرفة والفقاهة، يراجع[24] [25] .

هذا تمام الكلام في شروط الحاكم.

[نفوذ حكم الحاكم والالتزام به]

وجوب الالتزام بحكم الحاكم

فلو حكم الحاكم بمهادنة أو صلح وجب اتباعه ونفذ حكمه، ولا خلاف في أنه تجوز المهادنة على حكم من يختاره الإمام عليه السلام، بل في المنتهى[26] الإجماع عليه.

والسر في ذلك: أن الإمام المعصوم عليه السلام لا يختار إلا الصالح للحكم، فلما أمضى النبي تحكيم اليهود لسعد بن معاذ فهذا يعني أنه يراه أنه أهل للتحكيم.

لكن لا تجوز المهادنة على حكم من يختاره أهل الحرب إلا أن يعينوا رجلاً تجتمع فيه شروط الحاكم، كما وقع من بني قريظة حيث اختاروا سعد بن معاذ فقبل النبي صلى الله عليه وآله منهم، لكن في اختيار يهود بني قريظة لسعد بن معاذ هذا ليس مهادنة هذا تحكيم، والنبي صلى الله عليه وآله أمضى حكم سعد بن معاذ.

وفي المنتهى: لو نزلوا على حكم رجل غير معين وأُسندوا التعيين إلى ما يختارونه لأنفسهم قُبل ذلك منهم، ثم يُنظر فإن اختاروا من يجوز أن يكون حاكماً قُبل منهم، وإن اختاروا من لا يجوز تحكيمه كالعبد والصبي والفاسق لم يجز، اعتباراً للانتهاء بالابتداء. وقال الشافعي: لا يجوز إسناد الاختيار إليهم لأنهم ربما يختارون من لا يصلح لذلك، والأول مذهب أبي حنيفة، وعندي فيهما تردد"[27] .

أقول: إن كان الحاكم قد عُين من قبل الإمام المعصوم أو ولي الأمر فحكمه نافذ، وإن كان الحاكم قد عُين من قبل أهل الكفر والشرك فحكمهم غير نافذ، لكن يُنظر فيمن حكّموه، فإن توفرت فيه الشرائط وأمضاه ولي أمر المسلمين فهو وإلا فلا.

هذا تمام الكلام في شروط الحاكم ونفوذ حكمه.

[الفروع المتصلة بموت الحاكم قبل تنفيذ الحكم]

تبقى فروع: أنه مثلاً لو مات الحاكم قبل أن يُنفذ حكمه، فهل يبقى حكمه نافذاً أو لا؟ يأتي عليه الكلام، وصلى الله على محمد وآله الطيبين الطاهرين.


[21] فوائد الشرائع، المحقق الكركي، ج11، ص74.
logo