47/04/04
الدرس (الثامن والتسعون): ثبوت الأمان بإقرار المسلم والبينة العادلة
الموضوع: الدرس (الثامن والتسعون): ثبوت الأمان بإقرار المسلم والبينة العادلة
لو ادعى الحربي أن المسلم قد أعطاه الأمان، فرجع إلى المسلم، وحيل بينه وبين الجواب بموت أو إغماء، لم تُسمع دعوى الحربي إلا بالبينة، لعدم ما يدل عليها، فيبقى عموم الأمر بقتل المشرك وأسره على حاله من دون معارض.
لكن هل يُرد الحربي إلى مأمنه بدعوى الأمان أو لا؟
احتمالان:
الاحتمال الأول: يُرد إلى مأمنه نظرًا لوجود الشبهة، وشبهة الأمان بدعواه إعطاء المسلم الأمان له توجب رد الحربي إلى مأمنه.
الاحتمال الثاني: لا يُرد إلى مأمنه لعدم وجود شبهة الأمان، فدعواه الأمان مجرد دعوى لا دليل عليها، ولم تقم البينة على إثباتها، ولا يوجد إقرار من المسلم إذ هو في حالة إغماء أو موت، فيجري حكم القتل والأسر عليه.
إن قلت: "هذه شبهة، والحدود تُدرأ بالشبهات".
قلنا: هذا يختص بخصوص الحد، فالحدود تُدرأ وتُدفع بوجود الشبهة، وهذا لا يشمل عموم الأمر بقتل الكافر الحربي أو أسره. نعم، ورد في أدلة إعطاء الأمان للحربي أن الحربي يدخل بشبهة الأمان، فلا بد من تحقق هذا العنوان، وهو شبهة الأمان، وشبهة الأمان لا تتحقق بمجرد دعوى الحربي.
إن قلت: "هذه دماء، ولابد من الاحتياط فيها، إذ أن الشارع يحتاط في أمور ثلاثة، وهي: الدماء، والأعراض، والأموال".
قلنا: إن هذه الثلاثة إنما تكون بالنسبة إلى المسلم المحترم دمه وماله وعرضه، فالاحتياط إنما هو بالنسبة إلى الدم المسلم، ولا يشمل دم الكافر الحربي، فهو غير محترم. نعم، إذا أمكن رعاية الاحتياط، فالاحتياط حسن على كل حال.
[الفروع المتعلقة بثبوت الأمان]
فرعٌ ذكره العلامة في "المنتهى"...
من الواضح أن الرأي الثاني هو الصحيح، فلا تُقبل دعوى الحربي بمجرد دعواه الأمان، إذ عنونا البحث بعنوان: "ثبوت الأمان بإقرار المسلم والبينة العادلة". وهنا المسلم في حالة موت أو إغماء، ولم تُقم البينة العادلة، ولا يوجد ما يقتضي شبهة الأمان، والدعوى من الحربي وجودها كعدمها، فلا يرجع الحربي إلى مأمنه، بل يُؤسر، والله العالم.
هذا الفرع الأول.
الفرع الثاني: ذكر العلامة في "المنتهى" أنه لو جاء المسلم بمشرك، فادعى أنه أسره، وادعى الكافر أنه أمنه، قال: "فالقول قول المسلم لأنه معتضد بالأصل، وهو إباحة دم الحربي وعدم الأمان.
وقيل: يُقبل قول الأسير لأنه يحتمل صدقه، فيكون هذا شبهة يمنع من قتله.
وقيل: يرجع إلى من يعضده الظاهر، فإن كان الكافر ذا قوة ومعه سلاحه، فالظاهر صدقه، وإن كان ضعيفًا مسلوباً سلاحه، فالظاهر كذبه.
والوجه الأول"[1] .
والصحيح ما رجحه العلامة، إذ أن القول الأول هو على مقتضى القاعدة، إذ أن الكافر في يد المسلم وقد ادعى أنه أسره، فيقدم قول المسلم لأنه موافق للأصل والقاعدة، وهي عموم الأمر بقتل الكافر أو أسره، فدمه مباح، والأصل عدم الأمان للكافر الحربي. وأما دعوى الكافر أن المسلم قد أمنه فهي على خلاف القاعدة، إذ أن الأصل عدم الأمان، فيُقدم قول المسلم، والله العالم.
الفرع الثالث: لو صدّقه المسلم وقال: "نعم، إنني قد أمنت الكافر"، والكافر في يده.
قال أصحاب الشافعي: لا يُقبل، لأنه لا يقدر على أمانه ولا يملكه، فلا يُقبل إقراره.
وقيل: يُقبل، لأنه كافر لم يثبت أسره، ولا نازعه فيه منازع، فيُقبل قوله في الأمان[2] .
والصحيح هو القول الثاني، إذ لم يثبت كون الكافر في أسر مسبق هذا أولاً.
وثانيًا جاء به المسلم وهو في يده ، وأمضى إقرار الكافر بأنه أمنه، أي أن المسلم يُقر بأنه أعطى الأمان للكافر، فيُقبل قول المسلم في عقد الأمان للكافر مع كون الحربي في يد المسلم وتحت سلطانه، إذ الحق راجع إليه، كما يقول صاحب الجواهر[3] .
وفي ختام هذه الفروع، نقول إن المسألة بتفاصيلها وفروعها غير محررة في كلمات الفقهاء. نعم، في المروي في "دعائم الإسلام" عن علي (عليه السلام) قال: " إِنْ ظَفِرْتُمْ بِرَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ فَزَعَمَ أَنَّهُ رَسُولٌ إِلَيْكُمْ فَإِنْ عُرِفَ ذَلِكَ مِنْهُ وَ جَاءَ بِمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ فَلَا سَبِيلَ لَكُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يُبَلِّغَ رِسَالاتِهِ وَ يَرْجِعَ إِلَى أَصْحَابِهِ وَ إِنْ لَمْ تَجِدُوا عَلَى قَوْلِهِ دَلِيلًا فَلَا تَقْبَلُوا مِنْهُ "[4] ، يُراجع[5] .
هذا تمام الكلام في هذه الفروع، وهذه الرواية موافقة للقواعد، إذ أنه إذا جاء بما يقتضي شبهة الأمان، يرجع إلى مأمنه.
ولكن شبهة الأمان موجودة من القرائن.
فإن عرف ذلك وجاء بما يدل عليه، فلا سبيل لكم عليه. يعني وجاء بما يدل عليه، إما يدل على الأمان، أو لا أقل يوجب شبهة الأمان.
أي لا بما يدل على أنه رسول، الرسول لا يُقتل، واضح هذا. هذا مضى الحديث فيه، هناك استثناءات: الرسول لا يُقتل، فإذا جاء بما يدل على أنه رسول. فهنا بعد شبهة الأمان يُؤمّن، الرسول مؤمن.
[مدة الأمان وحدوده الزمنية]
هل للأمان مدة معينة ومحددة أم أنها مطلقة؟
قال العلامة في "القواعد": "ولا يعقده أكثر من سنة"[6] .
لكن لو رجعنا إلى الأدلة، سنجد أن أدلة الأمان مطلقة، ولم نجد ما يدل على أن الأمان مقيد بسنة من الزمان.
وقال العلامة في "المنتهى": "إذا انعقد الأمان وجب الوفاء به بحسب ما شرط فيه من وقت وغيره إجماعًا، ما لم يكن متضمنًا لما يخالف الشرع بلا خلاف"[7] .
وكلام العلامة في "المنتهى" موافق لإطلاق الأدلة، فيجب الوفاء بعقد الأمان، ولا يُقيد بمدة إلا إذا تضمن الأمان شرطاً فاسدًا يُفسده.
هذا تمام الكلام في الأمان على النفس.
[الأمان على المال والعرض تبعًا للنفس]
الأمان على مال الحربي:
ذكرنا فيما سبق أن الأصل في الأمان هو إعطاء الكافر الأمان على نفسه، وبتبع ذلك يحصل الأمان على ماله وعلى عرضه، فالأصل في الأمان هو النفس، والمال والعرض يدخلان في الأمان بالتبع.
فرع: إذا عقد الحربي لنفسه الأمان ليسكن في دار الإسلام، دخل ماله تبعًا في وجوب الوفاء له وعدم جواز التعرض له، وإن لم يذكره.
وقد ادعي على ذلك الإجماع، إذ قال صاحب الجواهر[8] : "بلا خلاف أجده فيه، كما اعترف به في المنتهى[9] ".
ضرورة اقتضاء الأمان الكف عنه، وأخذ ماله منافٍ للكف عنه. مقتضى الأمان الكف عن الحربي، إذا تتناول ماله وعرضه فأنت لم تكف عنه. نعم، لو ذكر في عقد الأمان: الأمان على نفسه وماله وعرضه، كان ذلك من باب التأكيد، ولا يلزم ذكر الأمان على المال أو العرض.
ولو التحق الكافر بعد أمانه بدار الحرب أخذ الأمان ورجع إلى دار الحرب، فإن كان لتجارة أو رسالة أو تنزه وغير ذلك، وكان في نيته العود إلى دار الإسلام، فالأمان باقٍ له لبقاء نيته على الإقامة، في زماننا هذا لو أخذ الإقامة من الدولة الإسلامية وأخذ تأشيرة خروج ورجع إلى بلده الحربي، لكن لم يعرض عن الدولة الإسلامية، بل ذهب لحاجة، لم يسقط الأمان.
الاحتمال الثاني: وإن كان قد ذهب إلى دار الحرب للاستيطان، انتقض أمانه لنفسه لأنه نقض الشرط الذي اشترط عليه، ولكن بانتقاض أمانه لنفسه، هل ينتقض أمانه لماله أو لا؟
[احتمالات انتقاض الأمان عند الاستيطان في دار الحرب]
احتمالان:
الاحتمال الأول: إذا استوطن دار الحرب، انتقض خصوص أمانه لنفسه دون أمانه لماله.
والسر في ذلك: أنه قد ثبت أمانه لنفسه وقد انتقض باستيطانه لدار الكفر، وقد ثبت أيضًا أمانه لماله تبعًا لأمانه لنفسه، لكن لم ينتقض أمانه لماله بالاستيطان، فنشك في انتقاض أمانه لماله، فنستصحب، إذ كان على يقين من ثبوت أمانه لماله وشك في انتقاض الأمان لماله، "لا تنقض اليقين بالشك".
فتكون النتيجة: إذا استوطن دار الحرب، انتقض خصوص أمانه لنفسه، ولا ينتقض أمانه لماله.
قد يقال: هذا ينافي تبعية المال للنفس.
فيقال: إن تبعية أمان المال لأمان النفس يقتضي ثبوت الأمان التبعية في خصوص ثبوت الأمان، فإذا ثبت الأمان للنفس ثبت الأمان للمال، ولا تقتضي التبعية دوران أمان المال على أمان النفس.
وبعبارة أدق: حدوث أمان المال فرع حدوث أمان النفس، ولكن من يقول إن بقاء أمان المال فرع بقاء أمان النفس؟ فإذا حصل ما يوجب انتفاء بقاء النفس (وهو الاستيطان في دار الكفر)، فهذا لا يعني أنه قد ثبت ما يقتضي انتفاء بقاء أمان المال.
وعلى هذا الاحتمال: يجب رد المال إلى الكافر لو طلبه، ويصح بيعه وهبته وغير ذلك من التصرفات.
نعم، لو أخذ ماله إلى دار الكفر ودار الحرب، انتقض الأمان بالنسبة إلى المال. وهكذا لو اشترط عليه عدم الأمان لماله إذا استوطن دار الحرب، فإذا أخل بالشرط واستوطن دار الحرب، انتفى أمان ماله كما ينتفي أمان نفسه.
الاحتمال الثاني: انتفاء أمان المال أيضًا.
والسر في ذلك: أن التبعية لا تختص بخصوص حيثية الحدوث، بل التبعية مطلقة تشمل المال أيضًا، أي حيثية الحدوث والبقاء معًا، فإذا ثبت الأمان للنفس، ثبت الأمان للمال، وإذا انتفى الأمان عن النفس، انتفى أيضًا الأمان عن المال.
ولا يبعد الاحتمال الثاني، إذ أن أصل الأمان للنفس، والأمان على البقية كالمال والعرض، إنما هو من تبعات أمان النفس، فإذا فرّ الحربي واستقر في دار الكفر، انتفى الأمان عن نفسه، فضلاً عن الأمان عن ماله، والله العالم.
فروع أخرى يأتي عليها الكلام.