« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

47/03/30

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (السابع والتسعون): الضابط في مشروعية إعطاء الأمان

الموضوع: الدرس (السابع والتسعون): الضابط في مشروعية إعطاء الأمان

من الواضح أن الأمان إنما يكون في حالة قيام حرب فعلية بين الإسلام والكفار، أو لا أقل توجد حالة حرب بين المسلمين والكفار وإن لم تكن فعلية، كما هو الحال بيننا اليوم وبين الكيان الصهيوني الإسرائيلي، إذ لا توجد بيننا وبين الصهاينة الإسرائيليين هدنة أو عقد صلح، فنحن في حالة حرب معهم، فالأمان إنما ندرسه في كتاب الجهاد والقتال، فالأمان يكون في حالة الحرب أو عند قيام حرب فعلية.

والضابط في مشروعية إعطاء الأمان هو وجود مصلحة للإسلام في إعطاء الكافر الأمان، أو لا أقل عدم وجود مفسدة في ذلك.

تعريف الأمان

فلا بد من تعريف الأمان بشكل دقيق ومفصل، ثم بعد ذلك نشرع في بيان عدة مسائل وتفريعات تترتب على ثبوت المعيار والضابطة في إعطاء الأمان وهي المصلحة.

ولعل من أفضل التعاريف للأمان ما ذكره ولي أمر المسلمين السيد علي الخامنئي حفظه الله في كتابه[1] ، إذ قال في التعريف الذي اختاره ما نصه:

"فالأولى في تعريف الأمان أن يقال: هو القرار الصادر عن المسلمين بشأن رفع الخوف والخطر الناشئ من الحرب الفعلية أو من حالة الحرب في حق واحد من الكفار أو أكثر، وبذلك يفارق عقد الهدنة:

إذ الهدنة لا تصدر إلا من أمير المسلمين أولاً.

ولا تكون في حق الآحاد ثانياً.

ولا تختص بالكافر ثالثاً.

ولا يقتصر فيها برفع الخطر الناشئ من الحرب بل توقف الحرب رأساً رابعاً.

ولا ترفع آثار حالة الحرب خامساً".

هذه خمسة فروق بين الأمان وبين عقد الهدنة.

الفرق بين الأمان وعقد الذمة

كما توجد فروق بين الأمان وبين عقد الذمة:

الفارق الأول: عقد الذمة لا يصدر إلا من ولي أمر المسلمين أو أمير المسلمين.

الفارق الثاني: عقد الذمة لا يكون في حق الآحاد.

الفارق الثالث: عقد الذمة لا يقتصر فيه على رفع الخطر الناشئ من الحرب، بل يوقف الحرب بين المسلمين وأهل الذمة رأساً ويدخلون في ذمة المسلمين والدولة الإسلامية.

الفارق الرابع: عقد الذمة يكون في مقابلة شيءٍ وهي الجزية بخلاف الأمان.

من له صلاحية إعطاء الأمان

إذا اتضح هذا التعريف المختار للأمان وأنه من صلاحيات آحاد المسلمين، فكما يشمل أمير المسلمين يشمل كل فرد فرد من المسلمين في حق آحاد وأفراد الكافرين لا في حق أمة الكفر، فلا بد من وجود مصلحة تترتب على إعطاء الأمان وإلا فلا يكون الأمان مشروعاً.

[الفروع التطبيقية لمشروعية الأمان]

الفرع الأول: إشراف جيش الإسلام على الانتصار

بناءً على ذلك نأتي إلى التفريع الأول: لو أشرف جيش الإسلام على الظهور والانتصار على الكفار فاستذّم الخصم وطلبوا الدخول في ذمة المسلمين، جاز الأمان مع نظر مراعاة المصلحة المعتبرة في صحة أصل الأمان.

وقد صرح باعتبار المصلحة في صحة أصل الأمان المحقق الكركي في "جامع المقاصد"[2] ، لكن العلامة الحلي في "قواعد الأحكام"[3] ذكر عدم المفسدة. والفارق بينهما أن وجود المصلحة ناظر إلى وجود المقتضي، وعدم المفسدة ناظر إلى انتفاء المانع.

ولو راجعنا أدلة الأمان سنجد أنها لعلها أوفق بكلام العلامة الحلي في "القواعد"، إذ لم يذكر الكثير منها وجود مصلحة في إعطاء الأمان، لكن من الواضح أن إعطاء الأمان لا يجوز مع وجود المفسدة، فما ذكره العلامة الحلي من ضابط لإعطاء الأمان وهو عدم وجود المفسدة أوفق بإطلاقات أدلة الأمان.

ففي الفرع الأول لو أشرف جيش الإسلام على الانتصار وطلب بعض أفراد الكفر الأمان ولم تترتب مفسدة على إعطائهم الأمان جاز ذلك حتى لو لم توجد مصلحة. المهم لا توجد مفسدة.

الفرع الثاني: إعطاء الأمان للجاسوس

لو أمن المسلم كافراً جاسوساً أو فيه مضرة لم ينعقد الأمان للأصل والعموم بعد انسياق الأدلة إلى غيره، كما أفاد صاحب الجواهر[4] رحمه الله.

فعندنا عموم الأمر بالقتل أو الأسر للكفار الحربيين، وإعطاء الأمان خلاف هذا العموم، فالأصل عدم الأمان، خرجنا عن هذا الأصل لوجود دليل على خلاف الأصل وهو أدلة مشروعية الأمان، وإذا رجعنا إليها سنجد أن المنساق منها هو عدم وجود مفسدة، فلو ترتبت مفسدة على إعطاء الأمان لم يكن مشروعاً.

الفرع الثالث: طلب الأمان بعد الأسر

لو استذّم الكفار بعد حصولهم في الأسر فأُذّم لهم لم يصح، كما يقول صاحب الشرائع رحمه الله.

والسر في ذلك أن إعطاء الأمان له وقت، وقد أُعطي الأمان في غير وقته، فوقت الأمان قبل الأسر، وبعد الأسر ينتفي موضوع الأمان، فوجود هذا الأمان كعدمه ولا عبرة به.

الفرع الرابع: إقرار المسلم بإعطاء الأمان

لو أقر المسلم أنه أذّم لمشرك، فإن كان في وقت يصح فيه إنشاء الأمان قبل إجماعاً، كما في "منتهى المطلب" للعلامة الحلي[5] ، لقاعدة "من ملك شيئاً ملك الإقرار به".

وإن كان إقراره بأنه أعطى الأمان بعد الأسر فلا عبرة بإقراره، لأنه لم يملك إعطاء الأمان في هذا الوقت بعد الأسر، فهو لا يملك الأمان حتى يملك الإقرار به، فلا عبرة بهذا الإقرار.

الفرع الخامس: قيام البينة على الأمان

لو قامت بينة للمشرك على أن المسلم قد أعطاه الأمان ثبت الأمان وجرى عليه حكم الأمان، إذ أن الأشياء تثبت بالإقرار أو البينة بعد العلم، كما في روايات الجبن وخبر مسعدة بن صدقة: "والأشياء كلها على ذلك حتى تستبين"، يعني تعلم "أو تقوم به البينة".

هذه أدلة إثبات عامة: إذا تريد تثبت شيء إما يحصل قطع علم أو بينة شهادة عادلين أو إقرار، وما عدا ذلك لا يثبت، ومن هنا يتضح أن تسجيل الصوت أو الفيديو لا يثبت القضية أو الجريمة، وكان البعض يتعجب من ذلك، إلى أن جاء الذكاء الاصطناعي وأتى بنفس الأصوات بل فبرك الكثير من الأفلام والفيديوات والتصاوير، ولا عبرة ولا حجية للفيديو أو الصوت، بل لا بد من الإقرار أو البينة.

الفرع السادس: إقرار الجماعة بإعطاء الأمان

لو أقرت جماعة بإعطاء الأمان لكافر ثبت الأمان له، لكن لا من باب الشهادة بل من باب حجية الإقرار، فتعدد المقر لا يقتضي كون إقرار المقر من الشهادة، إذ أن موضوع الشهادة هو الإخبار الجازم بحق الغير، ولا يشمل فعل النفس، بينما الإقرار ناظر إلى فعل النفس. إذا لو تعدد المقر ثبت الأمان ببركة الإقرار لا الشهادة.

ومن هنا يتضح فساد ما عن بعض الجمهور من القبول لكونهم عدولاً غير متهمين[6] .

نعم لو شهد بعض منهم ـ هؤلاء المقرين ـ أنه أَمَّنه بعض آخر، فهو لم يقر بالنسبة إلى إعطائه الأمان هو، بل شهد أن غيره من المسلمين قد أعطى الكافر الأمان، اتجه قبول شهادته مع توفر الشرائط كالعدالة وتعدد الشهود وغير ذلك.

الفرع السابع: دعوى الحربي الأمان على المسلم

لو ادعى الحربي على المسلم الأمان فأنكر المسلم ولا بينة، فالقول قول المسلم، كما في "قواعد الأحكام"[7] و"جامع المقاصد"[8] ، و"معالم الدين"[9] .

والسر في ذلك التمسك بالأصل إذ أن الأصل أصيل حيث لا دليل، والأصل عدم إعطاء الأمان، ولم يقم الدليل على إعطاء الأمان وهو نفس إقرار المسلم أو قيام البينة، فهنا القول قول المسلم ولا يُعطى الكافر الأمان بمجرد دعواه، بل صرح العلامة في "القواعد" كما عن جماعة بعدم اليمين عليه، أي أن المسلم لا يتوجه إليه الحلف ولا حاجة للحلف على إنكاره.

 

وجه عدم توجه اليمين

فما هو الوجه في عدم توجه اليمين إلى المسلم المنكر لدعوى الأمان من قبل الكافر؟

قيل: إن الأسر والقتل حكمان ثابتان على الحربي وبمجرد دعواه لا يسقطان، وأن إنكار المسلم لا يأتي على حق يترتب عليه بل على ما يقتضي سقوط ما قد علم ثبوته من الأسر والقتل، يُراجع "جامع المقاصد"[10] ، "فوائد الشرائع"[11] .

تعليق الشهيد الثاني على كلام المحقق الكركي

لكن كلام المحقق الكركي رحمه الله قابل للتأمل والنظر، كما اعترف به الشهيد الثاني في "المسالك"[12] ، إذ قال ما نصه:

"لأنه إن كان في حالة يمكن المسلم فيها إنشاء الأمان ينفعه إقراره له، فيبقى على القاعدة المشهورة: البينة على المدعي واليمين على من أنكر.

وإن كان في وقت لا ينفعه، كما لو كان أسيراً، لم يثبت عليه يمين لأن إقراره في تلك الحال لا ينفعه، بل إنشاؤه كذلك".

وما أفاده الشهيد الثاني متين وفي محله، إذ العبرة بتحقق الموضوع، وموضوع الإقرار قبل الأسر لا بعده، فإن كان دعوى الكافر أن المسلم قد أعطاه أماناً بعد الأسر فهذا من السالبة بانتفاء الموضوع، فلا يحتاج أن يحلف المسلم على عدم إعطاء الأمان للكافر.

وأما إذا كان الموضوع متحققاً، كما لو ادعى الحربي أن المسلم قد أعطاه الأمان قبل الأسر، فهذه دعوى من الكافر والمسلم ينكرها، فيشملها عموم القاعدة: البينة على المدعي وعلى المنكر اليمين.

هذا تمام الكلام في هذه الفروع السبعة. توجد فروع أخرى يأتي عليها الكلام.


[1] ثلاث رسائل في الجهاد الأمان والصابئة والمهادنة، ص6.
[9] . معالم الدين، ابن القطان، ج1، ص300.
[11] . فوائد الشرائع، المحقق الكركي، ج11، ص72.
logo