« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

47/03/29

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (السادس والتسعون): لزوم الوفاء بالأمان والذمام

الموضوع: الدرس (السادس والتسعون): لزوم الوفاء بالأمان والذمام

إذا أعطى المسلم أماناً لكافر وجب عليه الوفاء به، فلا خلاف في أنه يجب الوفاء بالذمام والأمان حسب ما وقع لمعطي الأمان ولغيره من المسلمين، وفي المنتهى الإجماع عليه[1] .

والوجه في ذلك ما تقدم من الأدلة من آيات وروايات، والتي منها أنه غدرٌ مع عدم الوفاء. نعم لو تضمّن الأمان ما يخالف الشارع لا يلزم الوفاء به لفساده، وقد ادّعى صاحب الجواهر الإجماع على ذلك إذ قال: "بلا خلاف أجده فيه، كما اعترف به الفاضل"[2] ، والمراد به العلامة الحلّي[3] .

 

حكم الأمان الفاسد

لكن لو اتّضح فساد الأمان وجب ردّ الكافر إلى مأمنه إذا كان لا يعرف فساد الأمان، فهو حينئذٍ يكون ممن دخل تحت شبهة الأمان، ومن الواضح أن الدخول ضمن شبهة الأمان يقتضي وجوب ردّ الكافر إلى مأمنه.

عموم وجوب الوفاء بالأمان

إذاً يجب الوفاء بالذمام والأمان والجوار، بلا فرق بين المُذمَّ وغيره حتى الإمام عليه السلام، والوجه في ذلك إطلاق الأدلة، إطلاق الأدلة يشمل الإمام المعصوم عليه السلام وسائر المسلمين بما فيهم معطي الذمام.

رأي الشيخ الطوسي المخالف

لكن لو رجعنا إلى النهاية للشيخ الطوسي لربما نجد ما يخالف ذلك، إذ جاء في النهاية ما نصه: "لا يجوز لأحد أن يُذمّ عليه - أي الإمام المعصوم - إلا إذنه"[4] .

ثم ذكر الشيخ الطوسي رحمه الله في نكت النهاية - ذيل النهاية - ما نصه: "إن المراد أن يُذمّ الواحد لقومٍ، فهذا لا يمضي ذمامه على الإمام عليه السلام"[5] .

 

توجيه كلام الشيخ الطوسي

إذاً وجّه الشيخ الطوسي هذا الرأي المخالف بأن المراد لو أحد آحاد وأفراد المسلمين أعطى الأمان لقوم من الكفار، فهذا لا يلزم الإمام عليه السلام، فخرج من هذا إعطاء أحد آحاد المسلمين لأحد آحاد الكافرين.

مناقشة صاحب الجواهر

وناقشه صاحب الجواهر رحمه الله في جواهر الكلام قائلاً: " وفيه أنه بناء على اعتبار الآحاد في الذمام وفرض خروج القوم عن الآحاد لكثرتهم لم يمض لا على الإمام عليه‌السلام ولا على غيره "[6] .

وما أفاده صاحب الجواهر تامّ ومتين وفي محله، فإذا كان المبنى أن الأمان لأي فردٍ من المسلمين لكن في حق أفراد الكفار وآحادهم ولا يشمل القوم والدولة والأمة، فحينئذٍ هذا الأمان فاسد، إذا أعطى الفرد المسلم أماناً لأمة من الكفار، فهذا أمان فاسد ليس من صلاحياته، فلا يشمل الإمام ولا يشمل أي فرد من أفراد المسلمين.

تأويل آخر لكلام الشيخ الطوسي

ثم حاول صاحب الجواهر رحمه الله تأويل كلام الشيخ الطوسي قائلاً: "ويمكن أن يكون الشيخ نظر إلى ما في خبر مسعدة عن أبي عبد الله عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وآله في آداب السرايا إلى أن قال: 'وإذا حاصرتم أهل حصن فأرادوك كما في تهذيب الأحكام، وفي نسخة الكافي والوسائل بدلها 'فإن آذنوك 'على أن تنزلهم على ذمة الله وذمة رسول الله فلا تنزلهم، ولكن أنزلهم على ذممكم وذمم آبائكم وإخوانكم، فإنكم إن تخفروا ذممكم - يعني تنقضون، تنفضوا ذممكم - وذمم آبائكم وإخوانكم كان أيسر عليكم يوم القيامة من أن تخفروا ذمة الله وذمة رسوله'"[7] .

مناقشة هذا التأويل

لكن هذا التأويل قابل للمناقشة، وناقشه صاحب الجواهر قائلاً: "ولكن فيه أنه يمكن كون المراد عقد الصلح ونحوه مثل الهدنة مما لا يجوز إلا للإمام عليه السلام أو منصوبه، لا ما نحن فيه وهو إعطاء الأمان".

فمن يقرأ الرواية قد يستظهر بقوة أن المراد بها إعطاء الصلح أو الهدنة - لاحظ: " وَ إِذَا حَاصَرْتُمْ أَهْلَ حِصْنٍ فَإِنْ آذَنُوكَ عَلَى أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى ذِمَّةِ اللَّهِ وَ ذِمَّةِ رَسُولِهِ "[8] - واضح هذا أنهم يريدون هدنة أو صلح، فهذه الرواية خارجة تخصصاً عن بحث الأمان.

الخلاصة في المسألة

وكيف كان، الظاهر عدم الفرق في الذمام وإعطاء الأمان بين الإمام عليه السلام وبين غيره، ولا فرق في لزومه ونفوذه على نفس معطي الأمان أو غيره ومنهم الإمام عليه السلام.

هذا تمام الكلام في لزوم الوفاء بالأمان.

[ألفاظ عقد الأمان وصيغته]

عبارات عقد الأمان

هناك عبائر صريحة في الأمان كقول المسلم للكافر: "أمّنتك" أو "أجرتك" أو "أنت في ذمة الإسلام"، قاصداً بهذه الألفاظ إنشاء الأمان والذمام والجوار، واللفظان الأولان - الأمان والأجارة - وردا في الآية الكريمة: ﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾[9] ، فلفظ الأمان والأجارة وردا في الآية الكريمة.

عدم الاختصاص بألفاظ معيّنة

لكن لا يُستفاد الاختصاص، بل هذا يشمل كل لفظ دلّ على معنى الأمان والذمام صريحاً، وقد ورد لفظ الأمان في قول النبي صلى الله عليه وآله: " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابهُ فَهُوَ آمِنٌ "[10] .

لكن لا فرق بين لفظ الأمان والذمام والجوار، وهذه الألفاظ وردت - الذمام وردت في "يسعى بذمتهم أدناهم"[11] - لكن لا خصوصية لهذه الألفاظ، فكل ما دلّ على معنى الأمان صريحاً يوجب ثبوت الأمان.

[الأمان بغير العربية والإشارة والكناية]

الأمان بغير العربية

ومن هنا يُعلم أنه لا فرق في اللفظ بين اللفظ العربي وغيره، المهم صراحة اللفظ في أي لغة من اللغات على الأمان والذمام، وجاء في كتاب دعائم الإسلام عن جعفر بن محمد الصادق عليه السلام ما نصه: "الأمان جائز بأي لسان كان"[12] .

 

الأمان بالإشارة

وجاء أيضاً في دعائم الإسلام للقاضي النعمان عن علي عليه السلام: " إِذَا أَوْمَى أَحَدٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَشَارَ بِالْأَمَانِ إِلَى أَحَدٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَنَزَلَ عَلَى ذَلِكَ فَهُوَ فِي أَمَانٍ "[13] .

وهذا يعني - بناءً على اعتبار دعائم الإسلام، وإلا فيه كلام، وتمام البحث بحثناه في الرجال - هذا إذا أردنا أن نتمسك بخصوص دليل، ولكن يمكن التمسك بعموم قوله صلى الله عليه وآله: "يسعى بذمتهم أدناهم"[14] .

الأمان بالكناية

بل يمكن أن يُستفاد من الأدلة أن كل ما دلّ على الأمان يُثبته، سواء كان بالصراحة أو بالكناية إذا عُلم من الكناية قصد العاقد إنشاء الأمان ولو بالكتابة، في بعض الروايات فيها أومأ وأشار.

عبارات لا تفيد الأمان إلا بالقرينة

ولو قال: "لا بأس عليك" أو "لا تخف" أو نحو ذلك لم يكن ذماماً ما لم ينضم إليه من قرائن حالية أو مقالية ما يدل على إنشاء قصد الأمان بذلك، هكذا ذكر صاحب الشرائع المحقق نجم الدين الحلّي رحمه الله، ووافقه صاحب الجواهر.

لكن تأمّل فيه ابن أخته العلامة الحلّي في القواعد إذ قال: "على إشكال إذ مفهومه ذلك"[15] .

 

مناقشة العلامة الحلّي

وناقش صاحب الجواهر العلامة الحلّي قائلاً: "وفيه منع كون مفهومه الإنشاء المزبور على الوجه المذكور"[16] .

أقول: من يتأمل في هاتين الكلمتين "لا بأس عليك" أو "لا تخف" فإنه يظهر جلياً لديه نفي أي بأس أو أي خوف، والأمان له مدلول مطابقي وله مدلول التزامي، فالمدلول المطابقي إعطاء الأمان للشخص على نفسه من القتل أو الأسر بأن يدخل في ذمة المسلم العاقد للذمام والأمان، ومدلوله الالتزامي أنه لا خوف عليه ولا بأس عليه.

إذاً هاتان اللفظتان "لا بأس عليك"، "لا تخف" يُفهم منهما الأمان والذمام إذ هما مدلولان التزاميان لإنشاء عقد الأمان أو لفظ الأمان، وبالتالي يكفيان لإثبات الأمان.

نعم، لو قامت قرينة حالية أو مقالية مخالفة لهذا المدلول الالتزامي فحينئذٍ نقول لا يثبت الأمان.

عبارات أخرى لا تفيد الأمان

وهكذا يأتي الكلام لو أومأ مسلم إلى مشرك بالمجيء أو قال له: "قف" أو "قم" أو "ارم سلاحك"، فهذه الكلمات لا تدل - لا بالمدلول المطابقي ولا بالمدلول الالتزامي - على إعطاء الأمان، ففي مثل هذه الكلمات نشترط قيام قرينة حالية أو مقالية على ذلك.

حكم الشبهة في الأمان

نعم، لو زعم المشرك أنه فهم منها الأمان قال لي: "ألق سلاحك" وألقيت سلاحي فهمت الأمان، فهذا الكافر يكون ممن دخل تحت شبهة الأمان، وحكمه أن لا يُعطى الأمان لكن لا يُقتل ولا يُؤسر بل يُرجع إلى مأمنه.

هذا تمام الكلام في عبارة الأمان.

وقت الأمان

متى يُعطى الأمان؟ وقت الأمان قبل الأسر، وأما بعد الأسر فانتفى موضوع الأمان، وأما بعد القتل فالأمر أوضح من أن يوضح، فالكافر يشمله عموم الأمر بالقتل أو الأسر، وإعطاء الأمان إنما يكون قبل القتل وقبل الأسر.

قال صاحب الجواهر: "وأما وقته فقبل الأسر بلا خلاف أجده فيه"[17] .

وممّن صرّح بذلك الشيخ الطوسي في المبسوط[18] ، وابن حمزة في الوسيلة[19] ، والعلامة في الإرشاد[20] . فلا يجوز لآحاد المسلمين إعطاء الأمان بعد الأسر هذا بالنسبة إلى الآحاد.

استثناء ولي الأمر

وأما بالنسبة إلى ولي أمر المسلمين فهذا من صلاحياته، يجوز أن يعطي الأمان قبل الأسر وبعد الأسر.

وفي المنتهى نسبة عدم جواز إعطاء الأمان قبل الأسر إلى علمائنا والشافعي وأكثر أهل العلم[21] ، فما عن الأوزاعي من صحة عقد الأمان بعد الأسر واضح الفساد، إذ أن الأمان إنما يكون قبل الأسر.

 

إشكال أمان زينب بنت الرسول صلى الله عليه وآله

لكننا ربما يُشكل علينا بإعطاء زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وآله الأمان لزوجها أبي العاص بن الربيع بعد الأسر، والجواب: هذا الأمان إنما صح لإجازة النبي صلى الله عليه وآله لأمان ابنته زينب، فمن المعلوم ضرورة أن للنبي صلى الله عليه وآله صلاحية إعطاء الأمان قبل وبعد الأسر، بل للنبي صلاحية إطلاق سراح الأسير، وبذلك يختلف النبي والإمام المعصوم عن غيره.

ومن هنا لو رجعنا إلى التاريخ سنجد أن عمر بن الخطاب لزعمه أنه خليفة رسول الله وله ما لرسول الله وأنه يقوم مقام النبي، نجده أمّن الهرمزان بعد الأسر، يراجع المغني لابن قدامة[22] .

الخلاصة:

الأمان يثبت لآحاد المسلمين، يعني لا يُشترط في الأمان الفرد الواحد، يعني لأفراد المسلمين، ولا يختص إعطاء الأمان بخصوص ولي أمر المسلمين، لكن إعطاء الأمان من المسلمين لا يشمل قوم الكافرين وأمة الكفر ودولتهم، بل يشمل آحادهم وأفرادهم.

نعم، الصلح والعهد من مختصات إمام المسلمين. والأمان إنما يكون قبل الأسر لا بعده، نعم الإمام المعصوم له أن يؤمّن الكافر قبل وبعد الأسر، بل له إطلاق سراحه.

تتمة الكلام تأتي.


logo