47/03/27
الدرس (الرابع والتسعون): الأمان في الفقه الإسلامي: المفهوم والأحكام والأدلة
الموضوع: الدرس (الرابع والتسعون): الأمان في الفقه الإسلامي: المفهوم والأحكام والأدلة
التفريق بين المصطلحات الثلاثة
يبحث الأمان والذمام في كتاب الجهاد في الفقه الإسلامي، ولا بد من التفرقة بين ثلاثة مصطلحات:
الأول: إعطاء الأمان (الذمام)
وهو أن يُعطي بعض المسلمين أماناً لبعض الكفار المحاربين لاستماع حقيقة الإسلام والتعرف على الدين والحيلولة دون نشوء الحرب أو الواقعة. وإعطاء الأمان لا يختص بولي أمر المسلمين، بل هو يشمل كل فرد في جيش المسلمين حراً كان أو عبداً، نعم لا يحق للفرد المسلم أن يُعطي أماناً لدولة بأكملها، بل يُعطي أماناً لبعض الأفراد، وقد يُقال إنها دون العشرة، وقد يُقال أنها قد تعم حصناً من حصون الكفار، كما سيأتي.
الثاني: الهدنة
المصطلح الثاني: الهدنة، وهي الصلح المؤقت بين المسلمين والعدو الكافر لتحقيق مصالح الإسلام العليا ودرء المفاسد، وقرار الهدنة يختص بولي أمر المسلمين ولا يعم آحاد أفراد المسلمين.
الثالث: الذمة وأهل الذمة
المصطلح الثالث: الذمة، ومصطلح أهل الذمة، ودخول بعض الكفار الكتابيين في ذمة المسلمين، يُراد به قرار الحفاظ على نفوس وأعراض وأموال غير المسلمين بعد هزيمة دولتهم في الحرب أو استسلامهم من غير حرب، وبناءً على ذلك يدخل أبناء الكفار تحت ذمة الدولة الإسلامية مع الحفاظ على ديانتهم والقيام بشرائط الذمة كدفع الجزية.
[الفرق بين الأمان والهدنة والذمة]
إذاً يوجد فرق بين إعطاء الأمان والهدنة والذمة، وبحثنا في الأمان حالياً.
معنى الأمان في اللغة والاصطلاح
معنى الأمان في اللغة
يُعبر عن الأمان بالذمام والجوار، وهذه المصطلحات الثلاثة ترجع إلى معنى واحد. الأمان والأمن نقيض الخوف[1] . يُقال أمَّنت غيري أي حفظته من الخوف والخطر، ويُقال جعله في اطمئنان أي أمَّنه مما يستقبله. والجوار بمعنى العهد والأمان، وأجاره أي أمَّنه وأعاذه[2] . والذمام عبارة عن الحق والحرمة، فكل حرمة إذا ضيعتها تلزمك المذمة، كما يُستعمل الذمام بمعنى العهد والكفالة، كما في قوله عليه السلام: "ذمتي بما أقول رهينة"[3] أي ضماني وعهدي رهن في الوفاء به.
إذاً كل عهد وضمان يوجب الطمأنينة والأمن لأحد يكون أماناً وجواراً وذماماً له، هذا تمام الكلام في بيان المعنى اللغوي للأمان، ومن الواضح أن معنى الأمان في اللغة لم يُؤخذ فيه قيد الكون في معركة، فيُراد بالأمان إعطاء الاطمئنان والدخول في الذمة والتعهد بحفظ النفس وعدم إتلافها.
معنى الأمان في الاصطلاح
وقد عُرف بتعاريف مختلفة في كلمات الفقهاء، منها ما ذكره العلامة الحلي في التذكرة إذ قال: "ترك القتال إجابة لسؤال الكفار بالإمهال"[4] .
ويُمكن المناقشة في هذا التعريف، إذ أُخذ فيه قيد سؤال الكفار بالإمهال، ومن الواضح أن الأمان هو إعطاء الضمان بعدم إتلاف نفس الغير سواء طلب أو لم يطلب. كما أُخذ في هذا التعريف ترك القتال، ويُمكن المناقشة فيه بناءً على أن الأمان لا يختص بالقتال في المعركة، فيشمل العلاقات الدولية والسفارات وإعطاء الفيزا، فإعطاء الفيزا أو الإقامة لأجنبي في البلد الإسلامي إنما هو إعطاء أمان، وإن لم تكن الدولة الكافرة محاربة ولم نكن في حالة حرب معها. فلو قلنا إن الأمان لا يختص بالمعركة بل يعم غيرها، بل هو مطلق إعطاء الأمان لكافر لمصلحة، فحينئذ يُمكن المناقشة في هذا التعريف.
ومنها تعريف الشهيد الثاني في الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية إذ قال رحمه الله ما نصه: "وهو الكلام وما في حكمه الدال على سلامة الكافر نفساً ومالاً إجابة لسؤاله ذلك"[5] .
وناقشه صاحب الجواهر في "جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام"[6] فقال صاحب الجواهر ما نصه: "وفيه أن الظاهر عدم اعتبار السؤال فيه، ولا كونه على النفس والمال، بل هو على حسب ما يقع فيهما أو في أحدهما أو في غير ذلك، ولعله لا يريد اختصاصه بما ذكره".
مناقشة الجواهر
وخلاصة مناقشة صاحب الجواهر في أمرين:
الأمر الأول: عدم اعتبار السؤال في إعطاء الأمان، فيُمكن إعطاء الأمان للكافر سواء سأل ذلك أو لم يسأل.
الأمر الثاني: الأمان حسب ما يقع عليه، سواء كان النفس أو المال أو كلاهما أو غيرهما.
لكن كلام صاحب الجواهر رحمه الله قابل للتأمل، إذ المتبادر من الأمان هو الأمن على خصوص النفس، والأمن على العرض أو المال فرع الأمن على النفس.
لذلك ناقشه ولي أمر المسلمين السيد علي الحسيني الخامنئي في رسالة مطبوعة تحت عنوان "ثلاث رسائل في الجهاد: الأمان والصابئة والمهادنة"[7] ، إذ قال ما نصه: "أقول: ما أفاده من أنه على حسب ما يقع كلام غريب لم أر من اعترف به من الفقهاء، وسوف نستظهر من الأدلة أن الأمان هو أمان النفس أصالة من القتل أو الأسر، ويتبعه أمان المال وربما أمان غيره، بمعنى أن المتبادر من الأمان والمتفاهم من أدلته هو حفظ نفس المستأمن من الخطر والخوف، وأما ما عداها فأمانها فرع أمان النفس".
وما أفاده السيد القائد الخامنئي حفظه الله متين وفي محله، إذ أن المتبادر من الأمان إذا أجار شخص شخصاً هو أمنه على نفسه وحفظه لنفسه من القتل أو الوقوع في الأسر.
[مشروعية الأمان عند الفقهاء]
مشروعية الأمان
وكيف كان، لا خلاف في مشروعية الأمان بين الشيعة الإمامية، بل بين المسلمين قاطبة، كما في "منتهى المطلب" للعلامة الحلي[8] ، بل نقل العلامة الحلي الإجماع بقسميه المنقول والمحصل على مشروعية إعطاء الأمان يُراجع تذكرة الفقهاء[9] .
هذا تمام الكلام في بيان معنى الأمان في اللغة والاصطلاح والفرق بينه وبين العهد.
[الأدلة الشرعية على الأمان]
أدلة المسألة
ويُمكن أن يُستدل على مشروعية الأمان بالكتاب والسنة:
من الكتاب
فمن الكتاب قوله تبارك وتعالى:
﴿وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ﴾[10] .
وقوله تعالى:
﴿إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ ۚ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا﴾[11] .
الأدلة من السنة
ويُمكن الاستدلال بعدة روايات من أهمها:
معتبرة السكوني: قلت لأبي عبدالله عليه السلام: ما معنى قول النبي صلى الله عليه وآله: " يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ "؟ قَالَ عليه السلام: " لَوْ أَنَ جَيْشاً مِنَ الْمُسْلِمِينَ حَاصَرُوا قَوْماً مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَأَشْرَفَ رَجُلٌ فَقَالَ أَعْطُونِي الْأَمَانَ حَتَّى أَلْقَى صَاحِبَكُمْ وَ أُنَاظِرَهُ فَأَعْطَاهُ أَدْنَاهُمُ الْأَمَانَ وَجَبَ عَلَى أَفْضَلِهِمُ الْوَفَاءُ بِهِ "[12] .
وخبر حبة العرني: قال أمير المؤمنين عليه السلام: " من ائتمن رجلا على دمه ثم خاس به فأنا من القاتل بريء ، وإن كان المقتول في النار "[13] أي من الكفار المستحقين والمستوجبين النار، لكن قُتل بغير حق.
وجاء في خبر مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق عليه السلام إن عليا أجاز أمان عبد مملوك لاهل حصن من الحصون ، وقال : "هو من المؤمنين"[14] .
وجاء في خبر عبدالله بن سليمان: سمعت أبا جعفر صلوات الله عليه يقول: "ما من رجل امن رجلا على ذمة ثم قتله إلا جاء يوم القيامة يحمل لواء الغدر"[15] .
ويكفينا معتبرة السكوني، وقد استند السيد أبو القاسم الخوئي رحمه الله في "منهاج الصالحين"[16] كتاب الجهاد إلى معتبرة السكوني وصحيحة جميل بن دراج في إثبات الأمان.
صحيحة جميل بن دراج
فقد جاء في صحيحة جميل بن دراج ومحمد بن حمران عن أبي عبدالله عليه السلام قال: " كَانَ رَسُولُ اللَّهِ ص إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً بَعَثَ أَمِيرَهَا فَأَجْلَسَهُ إِلَى جَنْبِهِ وَ أَجْلَسَ أَصْحَابَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ قَالَ سِيرُوا بِسْمِ اللَّهِ وَ بِاللَّهِ وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ عَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّهِ ص لَا تَغْدِرُوا وَ لَا تَغُلُّوا وَ لَا تُمَثِّلُوا وَ لَا تَقْطَعُوا شَجَراً إِلَّا أَنْ تُضْطَرُّوا إِلَيْهَا وَ لَا تَقْتُلُوا شَيْخاً فَانِياً وَ لَا صَبِيّاً وَ لَا امْرَأَةً "[17] .
هذا تمام الكلام في إعطاء الأمان.
[شبهة إعطاء الأمان وأحكامها]
شبهة إعطاء الأمان
يلحق بحكم الأمان شبهة إعطاء الأمان، ويدل على ذلك ما جاء في خبر محمد بن الحكم كما في الكافي، ومحمد بن الحكيم كما في التهذيب للشيخ الطوسي، عن الصادق عليه السلام أنه قال: " لَوْ أَنَّ قَوْماً حَاصَرُوا مَدِينَةً فَسَأَلُوهُمُ الْأَمَانَ فَقَالُوا لَا فَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَالُوا نَعَمْ فَنَزَلُوا إِلَيْهِمْ كَانُوا آمِنِينَ "[18] أي أنهم ظنوا الأمان ونزلوا فلا يُقتلون لكونهم صاروا آمنين.
وفي خبر أبي حمزة الثمالي عن رسول الله صلى الله عليه وآله: " وَ أَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أَدْنَى الْمُسْلِمِينَ أَوْ أَفْضَلِهِمْ نَظَرَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَهُوَ جَارٌ ﴿حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ﴾ فَإِنْ تَبِعَكُمْ فَأَخُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ إِنْ أَبَى فَأَبْلِغُوهُ مَأْمَنَهُ وَ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ عَلَيْهِ "[19] .
هذا تمام الكلام، أيضاً في خبر جميل جاء فيه: " وَ أَيُّمَا رَجُلٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ نَظَرَ إِلَى رَجُلٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فِي أَقْصَى الْعَسْكَرِ وَ أَدْنَاهُ فَهُوَ جَارٌ "[20] .
[الحديث المشهور في تكافؤ دماء المؤمنين]
الحديث المشهور
إلى غير ذلك من الروايات، وأبرزها الحديث المروي عند العامة والخاصة والمشهور عند الشيعة والسنة عن النبي صلى الله عليه وآله: " الْمُؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ أَكْفَاءُ بَعْضٍ "[21] ، " الْمُؤْمِنُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، يَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ "[22] .
هذا تمام الكلام في الأدلة على مشروعية الأمان، تفصيل الكلام يأتي.