46/11/15
الدرس (السابع والثمانون): لا كفارة على مَن قتلَ التُّرسَ مُتعمِّدًا عندَ الضرورة
الموضوع: الدرس (السابع والثمانون): لا كفارة على مَن قتلَ التُّرسَ مُتعمِّدًا عندَ الضرورة
قلنا: ذهبَ المشهورُ إلى أنَّ الكفارَ إذا تترَّسوا بالنساءِ والصبيانِ والأسارى، سواءٌ كانوا من المسلمينَ أو الكفارِ، وجبَ الكفُّ عنهم، ولا يجوزُ قتلُ التُّرسِ إلا عندَ الضرورةِ في ساحةِ المعركةِ. فلو قتلَ المسلمُ التُّرسَ المسلمَ عندَ الضرورةِ، فلا ديةَ عليه ولا قصاصَ ولا عَاقلةَ.
ووقعَ الخلافُ في ثبوتِ الكفارةِ: فذهبَ الأكثرُ إلى ثبوتِ الكفارةِ، ولعلَّه المشهورُ، ويوجدُ قولٌ يرى عدمَ ثبوتِ الكفارةِ، وهي عتقُ رقبةٍ، ومع عدمِ توفرِ الرقبةِ، أي عدمِ تحقُّقِ الموضوعِ، فإذا لم يجدْ عبدًا يعتقه، فحينئذٍ لا بديلَ ولا عدل لهذه الكفارةِ، فتسقطُ بناءً على ثبوتِها.
وقد ذهبنا إلى عدمِ ثبوتِ الكفارةِ، ومستندُنا ومدركُنا موثقةُ حفصِ بنِ غياثٍ، قال: كتبَ بعضُ إخواني إليَّ أن أسألَ أبا عبدِ اللهِ عليه السلام عن مدينةٍ من مدائنِ أهلِ الحربِ: هل يجوزُ أن يُرسَلَ عليهم الماءُ، أو يُحرَقوا بالنارِ، أو يُرمَوا بالمنجنيقِ حتى يُقتَلَ فيهم النساءُ والصبيانُ والشيخُ والأسارى من المسلمينَ والتجارِ؟ فقال: "تفعلُ ذلكَ ولا تمسكْ عنهم لهؤلاءِ، ولا ديةَ عليهم ولا كفارةَ".[1] [2]
وهذه الروايةُ معتبرةٌ، إذ هي موثَّقةٌ من جهةِ السندِ، وصريحةٌ من جهةِ الدلالةِ، إذ قال: "ولا ديةَ عليهم ولا كفارةَ"،
[مناقشة المشهور للرواية والجواب عنها]
سؤال: فكيف ذهبَ المشهورُ؟ بل ادُّعِيَ الإجماعُ على عدمِ ثبوت الديةِ وثبوتِ الكفارةِ؟
الجوابُ: ناقشَ البعضُ في روايةِ حفصِ بنِ غياثٍ فقال: إنَّ هذا الحديثَ غيرُ جامعٍ لشرائطِ الحجيةِ، إذ فيه الجوهريُّ، ولم يردْ فيه توثيقٌ، لكننا على مبنانا نُوثِّقُه نظرًا لروايةِ بعضِ المشايخِ الثلاثةِ عنه، فتكونُ الروايةُ موثَّقةً؛ لأنَّ الجوهريَّ -على ما قيل- من الواقفةِ، وحفصُ بنُ غياثٍ من العامةِ.
من هنا قالَ البعضُ بأنَّ هذه الروايةَ قد أُعرِضَ عنها الأكثَرُ أو الجميعُ، فحتى لو صحت سندًا فإنها لا تصلحُ أن تُعارضَ ما دلَّ على وجوبِ الكفارةِ.
وفيه: لم يثبتْ لدينا هذا الإعراضُ، بل استدلَّ الكثيرُ من الفقهاءِ على عدمِ ثبوتِ الديةِ بموثَّقةِ حفصِ بنِ غياثٍ، إلا أن يُقالَ: إنَّ المشهورَ قد أعرَضَ عن الفقرةِ الأخيرةِ وهي "ولا كفارةَ" بناءً على التضعيفِ في الحجيةِ، فروايةُ حفصِ بنِ غياثٍ حجَّةٌ بأكملِها فيما عدا الكلمةَ الأخيرةَ "ولا كفارةَ".
وفيه: إنَّ دعوى الإعراضِ عن جميعِ خبرِ حفصِ بنِ غياثٍ أو خصوصِ المقطعِ الأخيرِ لا يمكنُ إثباتُها، بل ادَّعى بعضُ المعاصرينَ أنَّ خبرَ حفصِ بنِ غياثٍ مُنجَبِرٌ بعملِ الأصحابِ.
فراجع: موسوعةُ فقهِ الصادقِ للسيدِ محمدِ صادقِ الروحانيِّ: إنَّ روايةَ حفصٍ معتبرةٌ، ولو قيلَ بضعفِها فإنَّ ضعفَ السندِ مُنجَبِرٌ بعملِ الأصحابِ بها.[3]
فهذه مجرَّدُ دعوى أنَّ الأصحابَ قد أعرَضوا عنها أو قد عملوا بها، ولم يثبتْ لدينا شيءٌ منها، فإذا كانَ مقتضى الاعتبارِ موجودًا في الروايةِ، ولا مُعارِضَ له، فتكونُ الروايةُ حجَّةً، فنعملُ بهذا المقطعِ: ولا كفارةَ.
مناقشةٌ أخرى [والجواب عنها]:
قيل: إنَّ قولَه عليه السلام: "ولا كفارةَ" يمكنُ أن يُحمَلَ على إرادةِ نفيِ الكفارةِ عن مالِ القاتلِ، بناءً على وجوبِ الكفارةِ في بيتِ المالِ، كما صرَّح بذلك الشهيدُ الثاني في الروضةِ البهيةِ[4] ومسالكِ الأفهامِ[5] .
والسِّرُّ في ذلك: إنه من المصالح، بل أهمِّها، يُصرَفُ عليه من بيت المال، خصوصًا بعد ملاحظة خوف التخاذل عن الجهاد خشيةَ الغرامة، فلا يُقال بوجوبها على القاتل، بل يثبت وجوبُها من بيت المال. وقد علَّق صاحبُ الجواهر[6] قائلًا: «ولعلَّه لا يخلو من قوَّة».
إذنْ هذه المناقشةُ تقول هكذا: الروايةُ لم تنفِ الكفارةَ مطلقًا، بل نفتِ الكفارةَ عن القاتل، بل الكفارةُ ثابتةٌ من بيت مال المسلمين.
وفيه: هذا خلافٌ ظاهرُ الرواية، فلو راجعنا روايةَ حفصِ بنِ غياثٍ، فإنها ظاهرةٌ في بيان تكليف المكلَّف، والحجَّةُ منها هو قولُ المعصوم عليه السلام، فجاء فيها، فقال: «تفعل ذلك» (قوله: «تفعل ذلك» ناظره إلى فعل المكلَّم)، «ولا تمسك عنهم لهؤلاء، ولا ديةَ عليهم ولا كفارةَ»، فظاهرُ الروايةِ أنها ماذا؟ أنها تنفي عن المكلَّف، وتنفي مطلقَ الديةِ ومطلقَ الكفارةِ، وليست ناظرةً إلى نفي الكفارةِ في خصوص المكلَّف والقاتل.
وظاهرُ كلامِ محقِّق الحلِّي في الشرائع، والعلَّامة الحلِّي في إرشاد الأذهان[7] ، والشهيدِ الأول في الدروس الشرعية[8] هو وجوبُ كفارةٍ على القاتل، فكيف تحمل وجوبُ الكفارةِ من بيت المال؟ بل ظاهرُ الدليلِ من الآية وغيرها هو ثبوتُ الكفارةِ على القاتل، لا من بيت المال.
فلو راجعنا الآيةَ والأدلَّةَ، فهي ظاهرةٌ في بيان تكليف المكلَّف، قال تعالى:
﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾[9]
والخطابُ موجَّهٌ إلى المسلمين، إلى المكلَّفين، وليس إلى وليِّ الأمرِ لكي يُخرِجَها من بيت المال.
النتيجة النهائية:
لم ينهضِ الدليلُ على ثبوتِ الكفارةِ على القاتل، وهذه الآيةُ التي ذكرتِ الكفاراتِ، موردُها قتلُ الخطأ. وأما قتلُ العمدِ، إذْ تتعمَّدُ قتلَ التُّرسِ إذا تترَّسَ به العدوُّ ولم يمكنِ النصرُ أو الفتحُ إلا بقتله، أو توقَّفتِ الضرورةُ على ذلك.
لو تنزَّلنا وقلنا بثبوتِ الكفارةِ، هل هذه الكفارةُ كفارةُ خطأٍ، أو هذه الكفارةُ كفارةُ عمدٍ؟ وجهان، أقواهما وأحوطهما أنها كفارةُ عمدٍ، ولنذكرْ وجهي القولين:
القول الأول: كفارةُ خطأ.
مدرك ذلك التمسُّكُ بظاهرِ الآيةِ الكريمةِ، إذِ الآيةُ الكريمةُ واردةٌ في قتلِ الخطأ، خصوصًا إذا نظرنا إلى مطلعها، إذ صرَّحت: ﴿قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً﴾[10] .
الوجه الثاني: الخطأُ هو الأصل، هكذا يقولون، هذا المكلَّفُ في الأصل غيرُ قاصدٍ لقتلِ المسلم، بل هو قاصدٌ لقتلِ الكافرِ المحاربِ، فقتلُ المسلمِ لكونه قاصدًا قتلَ الكفارِ، فلم يُجعَلْ عامدًا.
الوجه الثالث: لأنَّه مأذونٌ في هذا القتلِ شرعًا، فيُحمَلُ على أنَّه قتلُ خطأٍ.
وهذه الوجوهُ الثلاثةُ – كما ترى – إذا:
أما الوجه الأول: التمسك بظاهر الآيةِ لا يتم؛ لأنَّ الآيةَ أجنبيَّةٌ عن موردِ بحثنا، الآيةُ موردُها قتلُ الخطأِ، وموردُنا تعمُّدُ قتلِ التُّرسِ إذا توقَّفتِ الضرورةُ على ذلك.
وأما الوجهُ الثاني: كونُ المقاتلِ قاصدًا في الأصلِ قتلَ الكافرِ، لا ينافي أن يقصدَ بالتبعِ قتلَ التُّرسِ، فهو حينما يقتلُ التُّرسَ كان قاصدًا لقتله ومتعمِّدًا.
وأما الوجهُ الثالث: وهو أنَّه مأذونٌ في قتله شرعًا، فالإذنُ لا يثبتُ الخطأَ، فحتى لو كان القتلُ عن عمدٍ، فإنَّ الشارعَ يمكن أن يأذنَ فيه لمصلحةِ الإسلامِ والمسلمين.
إذنْ هذه الكفارةُ ليستْ كفارةَ خطأٍ، بل هي كفارةُ عمد، نظرًا إلى صورةِ الواقعِ، ضرورةَ كونِ القاتلِ قد تعمَّدَ قتلَ التُّرسِ المسلمِ، والآيةُ إنما وردتْ في مَن قتلَ مسلمًا خطأً، ولو لزعمِه أنَّه كافرٌ.
إذنْ هذه الكفارةُ كفارةُ عمدٍ، وليستْ بكفارةِ خطأٍ.
هذا تمامُ الكلامِ لو لم يمكنِ التحرُّزُ عن قتلِ التُّرسِ واضطر إلى قتله.
الفرض الثاني: لو تعمَّدَ الغازي قتلَ التُّرسِ المسلمِ مع إمكانِ التحرُّزِ، لزمه القود والكفارةُ، يُقتَصُّ منه؛ لأنَّ هذا قتلُ عمدٍ، فيثبتُ القودُ والقصاصُ، وتثبتُ كفارةُ العمدِ بلا خلافٍ ولا إشكالٍ، نظرًا لعمومِ أدلَّةِ ثبوتِ الدية والكفارةِ على قتلِ العمدِ، فيشملُ صورةَ ما لو كانتِ الحربُ قائمةً، وقد أُدُّعِيَ على ذلك الإجماعُ، وقيلَ بهذا الحكمِ بلا خلافٍ.
ممَّن قال بذلك:
الشيخُ الطوسيُّ في المبسوط[11]
والعلَّامةُ في الإرشاد[12]
والمحقِّقُ الكركيُّ في جامع المقاصد[13]
والمحقِّقُ الأردبيليُّ في مجمع الفائدة والبرهان[14]
نعم، لو كان القتلُ خطأً فالديةُ على العاقلةِ أي أهل القاتلِ قتل الخطأ، لكنِ الكفارةُ تثبتُ على نفسِ القاتلِ بالقتلِ الخطأِ.
هذا تمامُ الكلامِ في قتلِ التُّرسِ إذا دعتِ الضرورةُ إليه
.
سؤال: هل يجوزُ قتلُ المجانين والصبيانِ غيرِ المكلَّفين والنساءِ من الكفارِ، حتى لو أعانوا الكفارَ؟
الجواب: لا يجوزُ قتلُهم إلا مع الاضطرارِ، فالمرأةُ حتى لو قاتلتْ مع الكفارِ، لا يجوزُ قتلها إلا إن اضطرَّ المسلمُ إلى قتلها، تفصيلُ هذا الحكمِ يأتي إن شاء الله.