« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

46/11/14

بسم الله الرحمن الرحيم

قاتل الترس عند الضرورة

الموضوع: قاتل الترس عند الضرورة

قلنا: لو كان العدو بالنساء أو الصبيان أو الأسارى، فلا يجوز حينئذٍ قتلهم سواء كانوا من الكفار أو المسلمين، لكن عند التحام الحرب وعند الضرورة كما لو توقف الفتح على ذلك، أو خيف هزيمة جيش المسلمين لمكيدة من الكافرين، جاز قتلهم.

وحينئذٍ فهذا الترس إما أن يكون من الكفار أو من المسلمين، فإذا كان القاتل من المسلمين جاز قتله عند الضرورة.

لكن إذا قتلهم:

السؤال: هل يثبت القصاص والقود على القاتل لأنه قتل مسلماً عمداً؟، وهل تثبت الديّة لأنه مسلم محترم النفس؟ وهل تثبت كفارة القاتل وهي عتق رقبة ولا بديل لها؟

الجواب: ذهب المشهور إلى عدم ثبوت القصاص والقود أولاً، وعدم ثبوت الدية ثانياً، لكنهم ذهبوا إلى ثبوت الكفارة.

والصحيح عندنا هو عدم ثبوت الثلاثة، فلا يثبت القصاص أولاً ولا الديّة ثانياً ولا الكفارة ثالثاً، والعمدة فيما ذهبنا إليه هو التمسك بموثقة حفص بن غياث، فهي رواية معتبرة سنداً وتامة دلالة، وقد نفت الديّة والكفارة معاً.

وقد ذهب إلى هذا الرأي من المعاصرين السيد أبو القاسم الخوئي رحمه الله في منهاج الصالحين[1] والسيد محمد صادق الروحاني في فقه الصادق[2] . ويمكن مراجعة مهذب الأحكام للسيد عبد الأعلى السبزواري[3] .

 

وتفصيل المسألة في بيان ثلاثة أمور:

الأول: القصاص

الثاني: والديّة

الثالث: والكفارة

 

الأمر الأول: عدم لزوم القصاص

وقد ادعي إلى الإجماع بقسميه: المحصّل والمنقول على عدم ثبوت القصاص، لأنه قتل مأذون فيه عند الضرورة.

ممن قال بالإجماع: الشيخ الطوسي في المبسوط[4] وابن إدريس الحلي في السرائر[5] والعلامة الحلي في قواعد الأحكام[6] والشهيد الأول في اللمعة الدمشقية[7] والشهيد الثاني في الروضة البهية[8] .

وقد نقل هذا العلامة الحلي في تذكرة الفقهاء[9] والسيد علي في رياض المسائل[10] .

إذاً الدليل على عدم لزوم القود والقصاص والديّة هو الإجماع بقسمين، والتمسك بخبر حفص بن غياث المعتبر عندنا والمعتضد بالأصل، وهو أصالة البراءة.

الأمر الثاني: عدم ثبوت الديّة.

"والدية لا تثبت عندنا" كما صرّح بذلك الشيخ الطوسي في المبسوط [11] والنهاية[12] والعلامة الحلي في إرشاد الأذهان[13] وقواعد الأحكام[14] وتحرير الأحكام[15] والشهيد الأول في اللمعة الدمشقية[16] والشهيد الثاني في الروضة البهية[17] والمحقق الكركي في جامع المقاصد[18] والمحقق الأردبيلي في مجمع الفائدة والبرهان[19] .

بل عن ظاهر المنتهى الإجماع على عدم ثبوت الديّة.[20]

[الإستدلال على عدم وجوب الدية]

وقد يستدل على عدم وجوب الدية بخبر حفص بن غياث، وهو صريح في نفي الدية، وهذا الاستدلال تام عندنا. كما قد يستدل بالأصل بعد الإذن شرعاً، فهو مأذون شرعاً في قتل الترس المسلم عند الضرورة، فنشك في ترتب الديّة، فتجري أصالة البراءة الشرعية.

كما قد يستدل بظاهر ترك لزوم الدية في قوله تعالى:

﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾[21]

بناءً على مساواة هذا المورد لفرض مسألتنا، وهي تعمد قتل مسلم عند الضرورة، باعتبار كون القصد فيهما قتل الكافر لا المؤمن.

ولكن هذا الاستدلال ليس بتام نظراً لأن الآية تتحدث عن القتل الخطأ ومورد بحثنا هو تعمد القاتل عند الضرورة.

وقد يؤيد عدم ثبوت الديّة بأن إيجاب الديّة مقتضٍ للتساهل في أمر الجهاد، باعتبار خوف الرامي لاحتمال كونه مسلماً، إلا أن يقال: إن وجوب الديّة على فرضه وتقديره إنما يكون في بيت المال لا على القاتل، وقد قيل نظير ذلك بالنسبة إلى الكفارة، بأن الكفارة تثبت ولكن لا تثبت على القاتل، وإنما تخرج من بيت المال.

لكن لا دليل على ثبوت الديّة، بل ظاهر الأدلة على خلاف ثبوت الدية كخبر حفص بن غياث إذ نصّت على عدم ثبوت الديّة وعدم ثبوت الكفارة.

وبهذه الأدلة يُخصص قوله عليه السلام: "لا يبطل دم امرئ مسلم"[22] حتى بالنسبة إلى بيت المال، كما هو مقتضى النفي في خبر حفص بن غياث، وفتاوى الفقهاء النافية لثبوت الديّة مطلقاً، سواء كانت من بيت المال أو على المسلم.

لذا فلا تثبت الديّة عند الشيعة الإمامية، فما عن الشافعي من وجوب الديّة لقوله تعالى:

﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ﴾[23]

واضح الضعف.

والسر في ذلك: إن فرض مسألتنا ليس من القتل الخطأ قطعاً، بل هو من القتل العمد المأذون فيه، فلا يندرج تحت الآية الكريمة.

الأمر الثالث: عدم ثبوت الكفارة، لكن ذهب المشهور بل ربما ادُّعي الإجماع على لزوم وثبوت الكفارة.

وقد صرَّح بلزوم الكفارة العلامة الحلي في "قواعد الأحكام"[24] و"إرشاد الأذهان"[25] والشهيد الأول في "الدروس الشرعية"[26] واللمعة الدمشقية[27] والشهيد الثاني في "مسالك الأفهام"[28] والشهيد الثاني في "الروضة البهية"[29] .

بل إن القدماء أيضاً قد صرَّحوا بعدم ثبوت الكفارة، كالشيخ الطوسي في "المبسوط"[30] ومن جاء بعده كابن إدريس الحلي في "السرائر"[31] ويحيى بن سعيد الحلي في "الجامع للشرائع"[32] والشيخ الصيمري البحراني السلمابادي في "غاية المرام"[33] .

بل نفى الإشكال في لزوم الكفارة الشهيد الثاني في "المسالك"[34] كما عن غير الشهيد الثاني نفى الخلاف، كما صرَّح بذلك صاحب الجواهر في "جواهر الكلام"[35] جزء اثنين وعشرين صفحة مائة وخمسة وعشرين.

لكن لم يعُلم من مدعي الإجماع.

ويخالفه ما ذكره الحلي في "المختصر النافع"[36] ، إذ قال: وفي الكفارة قولان، بل ظاهر المحقق الحلي التردد كتردد العلامة الحلي ابن أخته في كتابه "تحرير الأحكام"[37] .

نعم، نسب الفاضل المقداد السيوري في "التنقيح"[38] هذا القول، وهو نفي الكفارة إلى الشيخ الطوسي في "النهاية"[39] .

والسر في هذه النسبة: أن الشيخ الطوسي رحمه الله نفى الدية عن قاتل الترس عند الضرورة دون الكفارة، فنسب له القول بعدم لزوم الكفارة، وهذه النسبة ليست تامة، إذ أن ثبوت الكفارة وعدمها مهمل ومسكوت عنه في كلام الشيخ الطوسي في "النهاية"، فلا يستفاد من إهماله ثبوت الكفارة.

وقد استُدلّ على ثبوت الكفارة بعموم ما دل على وجوبها.

وفيه: إن هذا العموم يُخصص بما دل على نفيها، كخبر حفص بن غياث.

كما قد استدل أيضاً بفحوى قوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾[40]

والمراد بالفحوى في "جواهر الكلام" وكلمات قدماء هو التمسك بمفهوم الأولوية القطعية، فإذا كان قاتل الكافر والذي لا تثبت عليه الدية، لكن تثبت عليه الكفارة، فمن باب أولى تثبت الكفارة لقاتل الترس المسلم.

وفيه: إن الأولوية غير تامة، إذ إن مورد الآية هو القتل الخطأ، ومورد بحثنا هو القتل العمد المأذون فيه، فصدر الآية يقول:

﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَىٰ أَهْلِهِ﴾

لكن لو قتل خطأً، واتضح أن المقتول كافر وليس بمؤمن، ظنه مؤمناً، اتضح أنه كافر، تقول تتمة الآية: "هنا لا تثبت الدية، بل تثبت خصوص الكفارة".

لاحظ تتمة الآية:

﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ﴾

يعني: فإن كان هذا المقتول خطأً، اتضح أنه عدو لكم أي كافر، وكان يتصور أنه مؤمن، تحرير رقبة مؤمنة.

إذاً: مورد الآية ثبوت الكفارة في قتل الكافر خطأً، ومورد بحثنا هو قتل الترس المسلم عمداً. لذا فلا توجد أولوية، لأن الفرض مختلف فرق بين القتل العمد والقتل الخطأ.

ومن هنا يتضح القول الآخر في مقابل هذا القول، وهو عدم لزوم الكفارة، إذ ورد ذلك في خبر حفص بن غياث، وقد يؤيد ذلك أن الكفارة للذنب، ولا ذنب في الفرض، وبالأصل أصالة البراءة، ويناقش في الأصل، بأنه أصيل حيث لا دليل، فإذا دعوا وجود دليل، لا تصل النوبة إلى الأصل، لكن الأدلة على ماذا؟ ذلك غير تام.

أقول: الأصل في المسألة هو التمسك بموثقة ومعتبرة حفص بن غياث، وهي تامة سنداً ودلالة.

ذكرها صاحب الوسائل[41] نقلاً عن الكافي[42] ، الجزء الخامس صفحة ثمانية وعشرين، الحديث الثاني، وأيضاً في "التهذيب"[43] ، الجزء السابع صفحة مائة وثلاثة وأربعين، هكذا الرواية، والسند هكذا:

محمد بن يعقوب الكليني، عن علي بن إبراهيم، ثقة جليل، عن أبيه إبراهيم بن هاشم، ثقة جليل. ويكفي في توثيقه إكثار ابنه عنه.

أما القاسم ابن محمد، فهو الجوهري، والجوهري لم يُرد فيه توثيق. لذلك، السيد الخوئي عبر عن الرواية برواية، وكذلك صاحب الجواهر، والسيد الخوئي جعلها مؤيدة ولم يجعلها دليلاً، لأن الرواية ليست تامة عنده لأنه لم يثبت توثيق القاسم بن محمد الجوهري، ولكن هو ثقة عندنا لرواية ابن أبي عمير عنه، فاثنان من الثلاثة الذين لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة قد رووا عنه، فعلى مبنانا ومبنى الشهيد الصدر، يمكن توثيق الجوهري.

عن المنقري، وهو سليمان بن داود المنقري، وثقه النجاشي وضعفه ابن الغضائري، والعلامة المجلسي في "ذخيرة المعاد"، والصحيح أنه ثقة لتوثيق النجاشي، ولا عبرة بتضعيفات ابن الغضائري.

أما حفص بن غياث، فهو قاضٍ من العامة، ونقل الشيخ الطوسي في "العُدة"[44] إجماع الطائفة على قبول رواياته على الرغم من كونه عامياً.

خوب حفص بن غياث عامي، والقاسم بن محمد الجوهري قد يقال إنه من الواقفة، فتكون الرواية موثقة. وعلى مبنى حسنة، إذا قيل بأن إبراهيم بن هاشم لم يثبت توثيقه، لكنه ممدوح إمامي، فالرواية معتبرة، إما حسنة أو موثقة على مبنانا.

قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن مدينة من مدائن الحرب: هل يجوز أن يرسل عليها الماء أو تحرق بالنار أو ترمى بالمنجنيق حتى يقتلوا ومنهم النساء والصبيان والشيخ الكبير والأسارى من المسلمين والتجار؟ فقال: يُفعل ذلك بهم، ولا يجب عليهم لهؤلاء، ولا ديّة عليهم للمسلمين ولا كفارة.

الرواية صريحة وتامة سنداً ودلالة.

ولو تنزلنا وقلنا إن هذه الرواية ليست تامة سنداً كما عليه السيد الخوئي، وبالتالي تصلح مؤيداً، وعلى الرغم من ذلك، لا تثبت الديّة ولا تثبت الكفارة.

قال السيد الخوئي في "منهاج الصالحين"[45] : "وأما الكفارة، فهل تجب أولاً؟ فيه وجهان: المشهور بين الأصحاب وجوبها"، وقد يستدل على الوجوب بقوله تعالى: ﴿فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾، بدعوى أن الآية تدل على الوجوب في المقام الأولوية.

وفيه: أنه لا أولوية، فإن القتل في مورد قتل خطأ ولا يكون مأموراً به، والقتل في المقام يكون مأموراً به، على أنه لو تم الاستدلال بالآية في المقام، فظاهرها هو وجوب الكفارة على القاتل، كما نص على ذلك غير واحد من الأصحاب وهو على خلاف مصلحة الجهاد، فإنه يوجب التخاذل فيه، كما صرح به الشهيد الثاني قدس سره، فالصحيح هو عدم وجوب الكفارة في المقام إلا مؤيد رواية حفص المتقدمة.

هذا تمام الكلام في عدم لزوم الأمور الثلاثة: القود، والديّة، والكفارة، على قاتل الترس عمداً عند الضرورة؛ لكن لو تعمد الغازي قتل الترس من دون ضرورة مع إمكان التحرز، فهنا يلزم القود والكفارة كما سيأتي.


logo