« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

46/11/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (الخامس والثمانون): حكم ما لو تترس العدو بالصبيان والنساء والأسارى

الموضوع: الدرس (الخامس والثمانون): حكم ما لو تترس العدو بالصبيان والنساء والأسارى

قال المحقق الحلي رحمه الله في "شرائع الإسلام":

"ولو تترسوا بالنساء أو الصبيان منهم، كُفَّ عنهم إلا في حال التحام الحرب، وكذا لو تترسوا بالأسارى من المسلمين، وإن قتل الأسير إذا لم يمكن جهادهم إلا كذلك".[1]

سؤال: هل يجوز قتل الترس، حتى لو كان بريئًا كالطفل الصغير أو المجنون أو النساء؟

الجواب: لا يجوز قتل النفس إلا إذا دل الدليل على ذلك.

وقد دلت رواية حفص بن غياث على جواز قتلهم في خصوص حالة الحرب، إذ جاء في رواية حفص بن غياث: "كتب بعض إخواني إلي أن أسأل أبا عبد الله عليه السلام عن مدينة من مدائن أهل الحرب: هل يجوز أن يُرسَل عليهم الماء، أو يُحرَقوا بالنار، أو يُرمَوا بالمنجنيق حتى يُقتَلوا، وفيهم النساء والصبيان والشيخ والأسارى من المسلمين والتجار؟ فقال: تفعل ذلك بهم، ولا يُمسَك عنهم لهؤلاء، ولا دية عليهم، ولا كفارة"[2] [3] .

ومن الواضح أن مورد الرواية خصوص مدائن أهل الحرب، فلا يتعدى عن موردها. نعم، لو اقتضت الضرورة قتلهم، كما لو توقف الفتح أو النصر على ذلك، أو خيف من ذلك هزيمة المسلمين وإبادتهم، فحينئذٍ يجوز.

فما ورد في رواية حفص بن غياث من ذكر حالة الحرب، هل يُستفاد منه الموضوعية أو الطريقية؟ أي: هل ذكر حالة الحرب إشارة إلى مثال من أمثلة الضرورة؟ وبالتالي، في أي ضرورة، سواء كانت حربًا أو غير حرب، يجوز قتلهم؟ أم أن للحرب خصوصيتها فلا يتعدى منها إلى غيرها؟

أقول: الأصل في العناوين هو الموضوعية لا الطريقية، ورفع اليد عن موضوعية العنوان وحمله على الطريقية يحتاج إلى دليل وقرائن. وبالتالي نتمسك بالعنوان الوارد في الرواية،

فنقول: يجوز قتل الترس في خصوص حالة الحرب، حتى لو لم تكن هناك ضرورة، كما لا يجوز قتل الترس في غير حالة الحرب، لكن لو اقتضت الضرورة قتله جاز.

بخلاف ما لو فهمنا من الرواية أن حالة الحرب طريق إلى الضرورة، وبالتالي لو كان في حالة حرب ولا توجد ضرورة لا يجوز القتل.

إذن نحمل هذا العنوان على الموضوعية لا الطريقية، فيكون الجواب هكذا: يجوز قتل الترس في حال الحرب، ولا يجوز في غير حال الحرب إلا إذا اقتضت الضرورة كتوقف الفتح، والتقييد بالضرورة ليس لرواية حفص بن غياث، بل للأدلة الدالة على أن "الضرورات تبيح المحظورات".

ولنقرأ كلمات الأعلام، فإن بعض هذه الكلمات ناظر إلى خصوص قيد حالة الحرب، وبعض هذه الكلمات ناظر إلى حالة الضرورة.

النتيجة النهائية: إذا تترس العدو بالنساء والصبيان والتجار والمجانين وغيرهم، سواء كانوا من المسلمين أو من الكفار، كُفَّ عنهم في غير حالة الحرب، وجاز قتلهم في حالة الحرب؛ ترجيحًا لما دل على الأمر بقتلهم على ما دل على حرمة قتل الترس، وملاك هذا الترجيح هو خبر حفص بن غياث، والشهرة أو دعوى عدم الخلاف.

قال المحقق الحلي[4] رحمه الله: "ولو تترسوا بالنساء أو الصبيان منهم، كُفَّ عنهم إلا في حال التحام الحرب"، وفي موضع آخر قال: "في حال الالتحام الحربي"، ثم قال: "وكذا لو تترسوا بالأسارى من المسلمين، وإن قتل الأسير إذا لم يمكن جهادهم إلا كذلك".

نلاحظ أنه في المقطع الأول قيد بالالتحام، وفي المقطع الثاني قيد بالضرورة فقال: "إذا لم يمكن جهادهم إلا كذلك"، أي: إذا اقتضت الضرورة، مع أن خبر حفص بن غياث مطلق ويدل على جوازه وإلا يتوقف عليه.

قال العلامة الحلي في "تحرير الأحكام": " لو تترس الكفار بنسائهم و صبيانهم فإن كانت الحرب ملتحمة جاز قتالهم و لا يقصد قتل الصّبي و لا المرأة و إن لم تكن ملتحمة بل كان الكفار متحصّنين في حصن أو من وراء خندق كافين عن القتال قال الشيخ يجوز رميهم و الأولى تجنّبهم [5] ".

ويعلّق على كلامه صاحب "جواهر الكلام"[6] قائلًا: "ولكن ظاهره أولوية التجنب مع عدم الالتحام الحرب، وإن توقف الفتح عنه. كما أن ظاهره الاكتفاء في جواز قتلهم بالتحام الحرب وإن تمكن من غيره".

وهذا القيد الثاني، إطلاقه مستفاد من رواية حفص بن غياث الدالة على جواز قتلهم عند الالتحام الحربي وإن لم يتوقف النصر أو تقتضِ الضرورة قتلهم.

قال العلامة الحلي في "قواعد الأحكام": "لو تترسوا بالنساء والصبيان، جاز رمي الترس في حال القتال[7] ".

وكلامه واضح في أنه ناظر إلى رواية حفص بن غياث، إلا إذا قلنا إن المراد بـ"حال القتال" هنا هو الضرورة، ولو بقرينة قوله أخيرًا: "إذا لم يمكن جهادهم إلا كذلك"، فيُراد به عدم التمكن في تلك الحال، وهي حال قيام الحرب، كما هو الغالب؛ فإنه في حال قيام الحرب لا يتمكن، يقول: "ننتظر أن يحمي الترس؟" تنتظر أن تُقتلَ!.

قال المحقق الحلي في "المختصر النافع": "ولو تترسوا بالصبيان والمجانين ولم يمكن الفتح إلا بقتلهم، جاز"[8] .

ونحو كلامه ما ورد في:

"تبصرة المتعلمين"[9] للعلامة الحلي.

"إرشاد الأذهان"[10] .

بل ما ذكره العلامة الحلي في "التذكرة"[11] ، ونصه: "لو تترس الكفار بنسائهم وصبيانهم، فإن دعت الضرورة إلى الرامي بأن كانت الحرب ملتحمة" – إذا ذكر الحرب مصداقًا من مصاديق الضرورة – "وخيف لو تُورِكوا لَغُلِبوا، جاز قتالهم، ولا يقصَد قتل الترس، ولا يُكفُّ عنهم لأجل الترس"، لقوله الصادق عليه السلام: "ولا تمسك عنهم لهؤلاء"[12] ، ولأن ترك الترس يؤدي إلى تعطيل الجهاد، ولئلا يتخذ ذلك ذريعة إليه.

هذه الكلمات كلها ناظرة إلى حال الضرورة، وأن الحرب مصداق من مصاديق الضرورة.

قال الشهيد الثاني في "الدروس": " و يكفّ عن النساء و إن أعنّ إلّا مع الضرورة، و كذا عن الصبيان و المجانين و أسرى المسلمين، و لو لم يمكن الفتح إلّا بقتلهم جاز "[13] .

وهكذا قال الشهيد الثاني في "مسالك الأفهام"[14] .

نعم، أطلق الشهيد الأول في:

"اللمعة الدمشقية"[15] .

"الروضة البهية"[16] .

فقال: "يجوز قتل الترس ممن لا يُقتَل"، هذا الإطلاق مورده هو رواية حفص بن غياث، أنه المدار على الالتحام الحربي، اقتضت الضرورة أم لم تقتضِ.

ثم يذكر صاحب "الجواهر" رحمه الله الضابطة، قال ما نصه:

"جواهر الكلام"[17] .

"وخلاصة الكلام: إن قتل الكافر الحربي واجب، فمتى أمكن الوصول إليه من دون مقدمة محرمة فَعَل، وإلا تعارض خطاب الوجوب والحرمة، فمع عدم الترجيح يتجه التخيير، ولعله المراد من "الجواز" في عبارة الأصحاب.

إذ عندنا خطاب: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾[18] [وجوب القتال]، وعندنا خطاب حرمة قتل الترس، ومن الواضح أن رواية حفص بن غياث رجحت كفة الوجوب – وجوب القتل – على حرمة قتل الترس، فظاهر خبر حفص بن غياث بقاء الوجوب، خصوصًا نص كلامه عليه السلام: "ولا تمسك عنهم لهؤلاء".

ويؤيد ذلك بمعلومية ترجيح الإسلام على مثل ذلك، ولذا رمى النبي صلى الله عليه وآله الطائف بالمنجنيق وفيهم النساء والصبيان،[19] [20] بل قد يؤيد ذلك بأنه لو لم يجز أو وجبت الدية، لَأَوْجَب ذلك ضعف المسلمين؛ إذ إنه حينما يرمي يخشى أن تترتب عليه الدية أو القود، فيضعف عن القتال، إلا إذا قلنا بأن الدية تثبت في بيت المال لا على نفس المسلم.

إذا الترجيح لكفت الوجوب.

وأما احتمال ترجيح خطاب الحرمة في فرض الالتحام المعركة، يقول صاحب الجواهر[21] : "فلم أجده لأحد، إلا ما ذكره العلامة الحلي في "تحرير الأحكام" من أولوية التجنب".

ونحوه ما في "التذكرة"[22] ، قال: "وإن لم تكن الضرورة داعية إلى قتلهم، بأن كانوا يدفعون بهم عن أنفسهم، ولم تكن الحرب ملتحمة، وكان المشركون في حصن متحصنين، أو كانوا من وراء خندق كافين عن القتال، فالأقرب كراهة قتلهم للنهي عن قتل النساء والصبيان، ونحن في غنية عن قتلهم.

والقول الثاني للشافعي المنع، وليس بجيد؛ لأنه يجوز نصب المنجنيق وإن كان يصيبهم، فلو تترسوا في القلعة كذلك".

ومما قررناه يتضح أن الحكم عام يشمل كلا قسمي الجهاد، فسواء كان الجهاد ابتدائيًا أو دفاعيًا، فإذا تترس الكفار بالنساء والصبيان والمجانين والتجار، سواء كانوا مسلمين أو غير مسلمين، جاز قتلهم في خصوص حالة الحرب، وأما في غير حالة الحرب لا يجوز قتلهم إلا لضرورة.

ومنه يتضح أن التفصيلات الأخرى غير تامة، كما في "الإيضاح"[23] لفخر المحققين، إذ ذكر رمي الترس مطلقًا إذا كان الجهاد دفعًا للكفار القاصدين، وأما إذا كان للدعوة ولم يحتمل الحال تركهم، رمي الترس غير المسلم، وأما الترس المسلم فلا يجوز رميه لقوله تعالى:

﴿وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾[24]

وتبعه على ذلك المحقق الكركي في "جامع المقاصد"[25] .

وفيه: إن خبر حفص بن غياث يشتمل على النساء والصبيان والأسارى والتجار من المسلمين، وهو مطلق يشمل الحرب الدفاعية والحرب الابتدائية. كما أن الإعياء ليس هذا موردها، ولو قيل بأن هذا موردها لأمكن تخصيصها بخبر حفص بن غياث.

وقد صرح بعضهم باعتبار عدم القصد إلى قتل الترس، كالشيخ في "المبسوط"[26] ، وابن إدريس الحلي في "السرائر"[27] ، والعلامة في "التحرير"[28] .

ولعل المراد هو عدم قصد قتل الترس لعداوة ونحوها من الأمور الشخصية مما لا مدخلية له في الجهاد، وأما قصد قتل الترس مقدمة للفتح والانتصار في المعركة والغلبة على الكفار والاستيلاء عليهم، فهذا هو معنى معنى جواز قتل الترس، فمعنى جواز قتل الترس أن تقصد قتل الترس مقدمة للنصر والفتح، والله العالم.

إلى هنا اتضح جواز قتل الترس، لكن هل يلزم القاتل القود (أي القصاص) أو الدية والكفارة أم لا؟ هذا ما يأتي عليه الكلام.


logo