46/11/12
الدرس (الرابع والثمانون): حكم المحاربة بإلقاء السم والأسلحة النووية
الموضوع: الدرس (الرابع والثمانون): حكم المحاربة بإلقاء السم والأسلحة النووية
[حكم أسلحة الدمار الشامل والأسلحة النووية]
حكم المحاربة بإلقاء السم والأسلحة النووية والكيميائية وأسلحة الدمار الشامل، في قتال الكفار والمشركين، خصوصًا في الجهاد الابتدائي:
سؤال: هل يجوز إلقاء السمم في مياههم التي يشربون منها لقتلهم؟ وهل يجوز إلقاء الأسلحة الكيميائية؟ وهل يجوز إلقاء القنبلة النووية أو الهيدروجينية أو قنابل اليورانيوم المنضب؟
[الفرق بين أسلحة الدمار وأسلحة التقليدية]
والفرق بين هذه الأسلحة التي يُقال لها: "أسلحة الدمار الشامل" وبين الأسلحة التقليدية كالسيف والرمح والنبل في قديم الزمان، والرصاص والمدفعية والطائرات في هذا الزمان، هو أن الأسلحة التقليدية تستهدف قتل الخصم خصوصًا العدو المواجه لك والحاضر، بخلاف أسلحة الدمار الشامل فإن آثارها تبقى لأجيال، فالسلاح النووي لا زالت آثاره في هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين بعد أن ألقت أمريكا عليهما قنبلتين نوويتين.
وهكذا لا تزال البصرة في العراق تعاني من آثار قنابل اليورانيوم المنضب التي ألقاها الأمريكيون عند غزو العراق.
وهكذا قد يُقال بالنسبة إلى الأسلحة الكيميائية وإلقاء السم، فإن أثرها لا يقتصر على الكفار المقاتلين المواجهين للجيش الإسلامي، بل إن آثار السم والأسلحة الكيميائية تشمل النساء والصبية والشجر والحيوانات، بل إن آثارها قد تبقى لأجيال، فهل يجوز القتال بإلقاء السم والأسلحة الكيميائية والنووية أم لا؟
الجواب: لا بد من تنقيح الأصل في المسألة، ولا شك أن الأصل الجاري هنا هو أصالة البراءة الشرعية عن الحرمة، إذ أننا نشك في حرمة استخدام السموم والأسلحة الكيميائية والنووية وسائر أسلحة الدمار الشامل.
وهذا شك في الحرمة، أي شك في التكليف، وهو موضوع جريان أصالة البراءة الشرعية، فتجري أصالة البراءة: {رَفَعَ عَنْ أُمَّتِي مَا لَا يَعْلَمُونَ}، إلا إذا قام الدليل الاجتهادي على حرمة إلقاء السم أو استخدام الأسلحة النووية وغير ذلك.
الخلاصة: الأصل أصيل حيث لا دليل، ومقتضى الأصل هو الجواز، فهل يوجد دليل يدل على الحرمة أم لا؟
لو راجعنا الروايات الشريفة، سنجد رواية واحدة فقط يمكن أن يُستدل بها على حرمة إلقاء السم في القتال. [1]
الشيخ الحر العاملي عنون الباب بهذا العنوان، ومن الواضح أنه لم يفتِ، وإنما ذكر الحكم هكذا قال العنوان: "باب حكم المحاربة بإلقاء السم والنار وإرسال الماء ورمي المنجنيق، وحكم من يقتل بذلك من المسلمين ونحوهم"[2] ، انتهى كلامه زيد في علو مقامه.
ولم يقل: "باب حرمة المحاربة بإلقاء السم"، بل قال: "حكم المحاربة بإلقاء السم"، وذكر روايتين، الشاهد منها الرواية الأولى، أما الرواية الثانية فسنستفيد منها في حكم من يقتل من النساء والصبية والشجر، ولنقرأ الروايتين وننظر في إسنادهما.
الرواية الأولى: محمد بن يعقوب، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله أن يُلقى السم في بلاد المشركين"[3] .
ورواه الشيخ الطوسي[4] بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى، عن إبراهيم بن هاشم، عن النوفلي، مثله.
[إسناد الحديث]
وسند هذا الحديث قابل للتأمل، إذ ورد فيه إبراهيم بن هاشم والد علي بن إبراهيم، والمشهور أنه ممدوح لكن لم يُنص على توثيقه، ونحن نذهب إلى وثاقته نظرًا لإكثار الجليل عنه، وهو ابنه علي بن إبراهيم القمي، فلا إشكال من ناحية إبراهيم بن هاشم، فتكون الرواية من جهته إما صحيحة إذا وثقناه، أو حسنة إذا قلنا بمدحه.
ويبقى الإشكال في النوفلي والسكوني، والسكوني من العامة لكنه ثقة، وأما النوفلي فلم يرد في حقه توثيق، فتكون الرواية ضعيفة من جهة النوفلي،ل كن نقل الشيخ الطوسي في "العدة" أن الأصحاب رضوان الله عليهم عملوا بروايات السكوني، بل حكى الإجماع على العمل بأخباره.
يراجع "عدة الأصول" للشيخ الطوسي[5] ، القرائن التي تدل على صحة أخبار الآحاد، الجزء الأول صفحة مائة وتسع وأربعين.
وأكثر روايات السكوني وصلتنا عن طريق النوفلي، فيُقال: إذا عملت الطائفة بأخبار السكوني فإنها قد عملت بأخبار النوفلي، فتكون الرواية معتبرة، لذا قال المحقق المدقق السيد الميرداماد: "إن التشكيك في قبول روايات السكوني نتيجة قلة التبهر في علم الرجال".
والنتيجة: من يقبل شهادة الشيخ الطوسي رضوان الله عليه في عمل الطائفة بروايات السكوني، فإنه يرى أن هذه الرواية معتبرة، ومن لا يقبل هذه الشهادة، أو لا أقل يخصها بالسكوني ولا يعممها إلى النوفلي، فإن الرواية تكون عنده ضعيفة.
والقول باعتبار الرواية وقبول روايات السكوني وروايات النوفلي إذا روى عن السكوني ليس ببعيد، فتكون الرواية معتبرة، فيُستفاد التحريم. وأما من قال بعدم اعتبارها فقد حمل الخبر على الكراهة.
من هنا انقسم الأصحاب والفقهاء إلى قسمين:
القسم الأول: من قال بحرمة إلقاء السم، كالشيخ الطوسي في "النهاية"[6] ، والسيد ابن زهرة في "الغنية"[7] ، وابن إدريس في "السرائر"[8] ، والمحقق الحلي في "المختصر النافع"[9] ، والعلامة الحلي في "التذكرة"[10] و"إرشاد الأذهان"[11] ، والشهيد الأول في "الدروس الشرعية"[12] ، والمحقق الثاني الشيخ علي بن عبد العال الكركي في "جامع المقاصد"[13] ، وقد ذكرنا هذه المصادر في الدرس السابق.
لكن الكثير منهم قد قيَّد الحكم بما إذا لم يُضطَر إلى إلقاء السم، أو توقَّف الفتح على إلقاء السم، فحينئذٍ يجوز، فقالوا: "يَحْرُم إلقاء السم إلا إذا اضطُر إليه أو توقَّف الفتح عليه".
فتكون هذه الرواية معتبرة السكوني: "إن النبي صلى الله عليه وآله نهى أن يُلقى السم في بلاد المشركين"، ناظرةً إلى حكم إلقاء السم بما هو هو، بقطع النظر عن الاعتبارات الأخرى، أي بيان الحكم الأولي لإلقاء السم، فإذا طرأ عنوان ثانوي، وهو توقف الفتح عليه أو الاضطرار إليه، فهنا يجوز للحكم الثانوي.
القسم الثاني: القول بكراهة إلقاء السم نظرًا لضعف سند الرواية، فيُحمَل النهي على الكراهة. وقد ذهب إلى الكراهة:
العلامة الحلي في "قواعد الأحكام"[14] و"تحرير الأحكام"[15] و"تذكرة الفقهاء"[16] .
الشهيد الأول في "اللمعة الدمشقية"[17] .
الشهيد الثاني في "الروضة البهية"[18] .
المقداد السيوري في "التنقيح الرائع"[19] .
ابن فهد الحلي في "المهذب"[20] .
السيد الطباطبائي في "رياض المسائل"[21] ، بل نسب هذا القول إلى أصحابنا كما في "المبسوط"[22] .
وذكر ذلك الحلي في "مختلف الشيعة"[23] .
هذا تمام الكلام في بيان حكم إلقاء السم، واتضح أننا نبنيه على حرمة إلقاء السم؛ لأننا نرى أن رواية السكوني معتبرة، فيُحمَل النهي على التحريم.
الرواية الثانية: وعنه (يعني عن ابن إبراهيم، أي محمد بن يعقوب الكليني) عن علي بن إبراهيم القمي عن أبيه إبراهيم بن هاشم عن القاسم بن محمد عن المنقري عن حفص بن غياث قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن مدينة من مدائن الحرب: هل يجوز أن يُرسَل عليها الماء، أو تُحرَق بالنار، أو تُرمى بالمنجنيق، حتى يقتلوا ومنهم النساء والصبيان والشيخ الكبير والأسارى من المسلمين والتجار؟ فقال: "يُفعَل ذلك بهم، ولا يُمسَك عنهم لهؤلاء، ولا دية عليهم، ولا كفارة".[24]
ورواه الشيخ الطوسي[25] بإسناده عن محمد بن الحسن الصفار عن علي بن محمد القاساني عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داود المنقري عن أبي أيوب عن حفص بن غياث نحوه.
ومن الواضح أن الحديث الثانية لم يتطرق إلى إلقاء السم، بل هو ناظر إلى إرسال الماء أو الإحراق بالنار أو الرمي بالمنجنيق، كما أنه ناظر إلى قتل النساء والصبيان والشيخ الكبير والأسرى من المسلمين والتجار.
وفي الرواية حفص بن غياث، ولئن قيل إنها ضعيفة السند، فقد نقل الشيخ الطوسي في كتاب "العدة"[26] أن الطائفة عملت بروايات جملة من العامة، وأول من ذكرهم حفص بن غياث، فإذا قبلنا شهادة الشيخ الطوسي، أمكن العمل برواية حفص بن غياث والسكوني.
إلى هنا اتضح أنه بحسب الحكم الأولي لا تجوز المحاربة بإلقاء السم وإلقاء القنبلة النووية والأسلحة الكيميائية وسائر أسلحة الدمار الشامل بحكم معتبرة السكوني.
وإذا أردنا التفصيل أكثر في حكم السلاح النووي، نقول: يوجد أمران:
الأمر الأول حيازة السلاح النووي وأسلحة الدمار الشامل كقوة ردع من دون استخدامها.
الأمر الثاني استخدام السلاح النووي والسلاح الكيميائي وتفعيله في المعركة.
أما الأمر الأول، وهو حيازة السلاح النووي والكيميائي واليورانيوم المنضب والسم وسائر أسلحة الدمار الشامل من دون استخدامها، وإنما يُحتفَظ بها كقوة ردع، فمن الواضح أن الدولة النووية التي تمتلك سلاحًا نوويًا يُخشى من مواجهتها.
سؤال: فهل يجوز الاحتفاظ وحيازة السلاح النووي أم لا؟
الجواب: يجوز؛ إذ أن مقتضى الأصل الأولي هو البراءة الشرعية، ولا دليل على حرمة الاحتفاظ؛ إذ إن معتبرة السكوني ناظرة إلى إلقاء السم لا الاحتفاظ به وحيازته، بل قد يُرجَّح حيازته إذ يشملها عموم قوله تعالى:
﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾[27]
النتيجة: بالنسبة إلى الأمر الأول، وهو حيازة السلاح النووي والكيميائي، فإنه جائز، بل قد يُرجَّح من جهة إعداد القوة وتشكيل قوة ردع العدو.
أما الأمر الثاني، وهو استخدام السلاح النووي والكيميائي واليورانيوم المنضب وسائر أسلحة الدمار الشامل، فحرمة ذلك ثابتة، فعلى الرغم من أن مقتضى الأصل العملي هو البراءة الشرعية، لكن معتبرة السكوني نهت عن إلقاء السم في بلاد المشركين.
ولعل السر في ذلك: أن أثر السم لا يقتصر على خصوص المقاتلين من المشركين، بل يشمل الأبرياء من النساء والأطفال والشيوخ، فيحرم استخدام السلاح النووي والكيميائي وسائر أسلحة الدمار الشامل بحسب الحكم الأولي. نعم، قد يجوز بحسب الحكم الثانوي، وهو إذا اضطروا إليه أو توقف الفتح والانتصار على استخدامه.
النتيجة النهائية:
سؤال: هل يجوز حيازة واستخدام السلاح النووي والكيميائي وسائر أسلحة الدمار الشامل؟
الجواب: تجوز حيازة هذه الأسلحة لتشكيل قوة الردع، ولا يجوز استخدامها إلا لضرورة، كتوقف الفتح والانتصار على تفعيلها واستخدامها، والله العالم.
هذا تمام الكلام في حكم إلقاء السم وسائر أسلحة الدمار الشامل.
يبقى الكلام: أن الكفار والمشركون لو تترسوا بالنساء والصبيان، فهل يجوز قتل الترس أو لا؟ وما هو الحكم في المسألة؟ يأتي عليه الكلام.