46/11/08
الدرس (الثالث والثمانون): جواز المحاربة بما يرجى به الفتح
الموضوع: الدرس (الثالث والثمانون): جواز المحاربة بما يرجى به الفتح
قال المحقق الحلي في "شرائع الإسلام"[1] : ويجوز محاربة العدو بالحصار ومنع السابلة دخولًا وخروجًا، وبالمجانيق.
والسابلة هي الجماعة المترددة في الطرقات في حوائجهم.
يراجع "المصباح المنير" للفيومي مادة "سبل"[2] ، وهو ما نعبر عنه في العرف: "فلان يمشي في حال سبيله"، يعني الحركة العفوية في الطرقات، فيُراد بمنع السابلة ما يُعبر عنه اليوم بقطع الطرقات.
وأضاف إلى ذلك صاحب "الجواهر" في "جواهر الكلام"[3] قائلًا: "والتفنك (البندقية) والقنابر والأطواب والبارود ورمي الحيات القاتلة والعقارب وغيرها من الحيوانات" هذا في زمن صاحب الجواهر، أما في زمان المحقق الحلي فقال: "وهدم الحصون والبيوت، وقطع الأشجار، والقذف بالنار، وإرسال الماء لينصرفوا به، ومنعه عليهم ليموتوا عطشًا، وكل ما يُرجى به الفتح".
ففي زماننا هذا: إعداد الطائرات المقاتلة، والصواريخ الباليستية، والطائرات المسيرة، وحاملات الطائرات، والمدن الصاروخية، وغير ذلك.
فكل ما يُرجى به الفتح والانتصار، تجوز محاربة العدو به.
وقد ادعى صاحب "الجواهر" وصاحب "الرياض" الإجماع على ذلك، فقال صاحب "الجواهر"[4] : "بلا خلاف أجده فيه". و"رياض المسائل" كتاب الجهاد، في من يجب جهاده.[5]
ولا بد من تنقيح الأصل في المسألة، فالأصل أصيل حيث لا دليل، فنبحث أولًا في مقتضى الأصل الفقهي، والأصل عَمَلي، وثانيًا في مقتضى الدليل الاجتهادي، فإن ثبت الدليل الاجتهادي والدليل المحرَّز، قلنا به، وإن لم يثبت، رجعنا إلى مقتضى الأصل والقاعدة العملية.
ولا شك إن المورد من موارد الشك في التكليف، فلو شككنا: هل يجوز الضرب النووي؟ والكيماوي؟ واليورانيوم المنضَّب؟ وإلقاء السم؟ فضلًا عما ذُكر من هدم الحصون أو إجراء الماء؟ فهذا مورد الشك في التكليف، أي نشك في حرمة ذلك؟ مقتضى القاعدة جريان البراءة الشرعية: "رُفِعَ عن أمتي ما لا يَعْلَمُونَ"[6] ، فالأصل هو البراءة والجواز، إلا إذا قام الدليل على الحرمة، وسيأتي ذكر حكم إلقاء السم والنووي والكيماوي، لنرى هل قام الدليل على تحريمه أو لا؟
إذن القاعدة العملية هنا هي الجواز؛ وجريان البراءة الشرعية.
أدلّ على جواز المحاربة بما يُرجى به الفتح.
الدليل الأول: التمسك بإطلاق الأمر بقتل الكفار، كقوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ﴾[7] ، وكقوله تعالى: ﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾[8] .
وهكذا التمسك بالآيات الكريمة، كقوله تعالى: ﴿ مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً ﴾[9] (، وقوله تعالى: ﴿ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ ﴾[10] .
وهكذا ما ورد في الآيات من أنهم "شَرُّ الدَّوَابِّ"[11] وأشدها أذية، فهذه الآيات تدل على جواز محاربة المشركين والكفار بالأمور التي يُرجى بها الفتح والنصر عليهم.
الدليل الثاني: التمسك بالروايات الشريفة، كالمروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه نصب على أهل الطائف منجنيقًا، وكان فيهم نساء وصبيان، وخرب حصون بني النضير وخيبر وهدم دورهم.[12]
(يراجع: "المبسوط" للشيخ الطوسي[13] ، "سنن البيهقي"[14] ، "الكامل في التاريخ"[15] ، "بحار الأنوار"[16] ، "المغازي" للواقدي في شأن غزوة الطائف[17] .)
بل في "الدروس"[18] و"الروضة"[19] أنه صلى الله عليه وآله حرق بني النضير.
وجاء في خبر حفص بن غياث: "كتب بعض إخواني إلي أن أسأل أبا عبد الله عليه السلام: مدينة من مدائن الحرب، هل يجوز أن يُرسل عليهم الماء؟ أو يُحرقون بالنار؟ أو يُرمون بالمنجنيق حتى يُقتلوا، فيهم النساء والصبيان والشيخ والأسارى من المسلمين والتجار؟ فقال: تفعل ذلك ولا تمسك عنهم لهؤلاء، ولا دية عليك ولا كفارة"[20] .
فإذا الأدلة من الكتاب الكريم والسنة الشريفة تدل على جواز المحاربة بما يُرجى به الفتح.
ومن هنا يتضح التأمل فيما يظهر من الشهيد الأول في "الدروس"[21] من حرمة قتلهم بمنع الماء مع الاختيار، يعني: يجوز عنده مع الاضطرار، وأما مع الاختيار فلا يجوز منع الماء، وما ورد من سيرة أمير المؤمنين عليه السلام، فإنه كان بين المسلمين وليس بين الكفار، إذ إن المسلمين حينما منع معاوية أصحاب علي من شرب الماء في صفين، ولكن أمير المؤمنين لم يمنع أصحاب معاوية، هذا كان في صفين، هذا في قتال الفئة الباغية (فئة مسلمة)، وكلامنا في قتال الكفار الذين لا حرمة لهم.
وهكذا يتضح التأمل فيما ذُكر في "الروضة البهية"[22] للشهيد الثاني من اعتبار توقف الفتح في جواز هدم الحصون والمنجنيق وقطع الشجر، أي أنه لا يجوز هدم الحصون وقطع الشجر والضرب بالمنجنيق إلا إذا توقف الفتح على ذلك، والحال أنه لا دليل على هذا التوقف؛ فإذا كان يُرجى به الفتح جاز، وإن لم يتوقف الفتح عليه، والله العالم.
قال الحلي في "شرائع الإسلام": "يُكره قطع الأشجار ورمي النار وتسليط المياه إلا مع الضرورة"[23] .
أقول: لو رجعنا إلى الروايات الشريفة، فإننا سنجد ثلاث روايات تدل على الحكم الأول وهو كراهة قطع الأشجار، لكن ليس فيها ما يدل على الحكم الثاني وهو كراهة رمي النار، وليس فيها ما يدل على الحكم الثالث وهو كراهة تسليط المياه، ولربما يقصد برمي النار وتسليط المياه ما يؤدي إلى موت الأشجار وقطعها، والروايات ورد فيها النهي، وهذا النهي يحمل على الكراهة.
الرواية الأولى: خبر جميل ومحمد بن حمران عن أبي عبد الله عليه السلام قال: كان رسول الله صلى الله عليه وآله إذا بعث سرية دعا بأميرها فأجلسه إلى جنبه، وأجلس أصحابه بين يديه، ثم قال: "سيروا بسم الله وبالله وفي سبيل الله وعلى ملة رسول الله صلى الله عليه وآله، لا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقطعوا شجرة إلا أن تضطروا إليها، ولا تقتلوا شيخًا فانيًا ولا صبيًا ولا امرأة..."[24] إلى آخر الحديث.
ومن الواضح أن هذه الرواية تضمنت الحكم الأول إذ قال: "ولا تقطعوا شجرة إلا أن تضطروا إليها"، ولم تذكر الحكم الثاني والثالث، وهو رمي النار وتسليط المياه.
الرواية الثانية: خبر الثمالي عن الإمام الصادق عليه السلام، وهو نحو ومثل الحديث الأول.[25]
الرواية الثالثة: خبر مسعدة بن صدقة عن الإمام الصادق عليه السلام: أن النبي صلى الله عليه وآله كان إذا بعث أميرًا على سرية أمره بتقوى الله تعالى في خاصة نفسه ثم في أصحابه عامة، ثم قال له: "اغزُ باسم الله وفي سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله، ولا تغدروا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا وليدًا ولا متبتلًا في صومعة، ولا تحرقوا النخل ولا تغرقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تحرقوا زرعًا، لأنكم لا تدرون لعلكم تحتاجون إليه، ولا تعقروا من البهائم ما يؤكل لحمه إلا ما لا بد لكم من أكله"[26] .
ويلاحظ في هذه الرواية قوله عليه السلام: "ولا تحرقوا النخل ولا تغرقوه بالماء، ولا تقطعوا شجرًا مثمرًا"، فذكر الحرق والإغراق بالنسبة إلى الشجر والنخل، وليس بشكل مطلق.
وعن النبي صلى الله عليه وآله أنه قطع أشجار الطائف[27] [28] [29] .
إذًا، هذه الروايات ليس فيها شيء من التعميم للنهي بما يشمل النار والماء، وهذا ما يظهر من إطلاق صاحب الشرائع، إلا أن يحمل هذا النهي على إرادة الأشجار، أي حرق الأشجار أو إغراقها، والأمر سهل إذ هو في الكراهة وليس في حكم الزامي.
سؤال: هل يجوز إلقاء السم أم لا؟
في المسألة قولان:
القول الأول: حرمة إلقاء السم، قال به:
الشيخ الطوسي في "النهاية"[30]
السيد ابن زهرة الحلبي في "غنية النزوع"[31]
ابن إدريس الحلي في "السرائر"[32]
المحقق الحلي في "المختصر النافع"[33]
العلامة الحلي في "تذكرة الفقهاء"[34] و"إرشاد الأذهان"[35]
الشهيد الأول في "الدروس"[36]
المحقق الكركي في "جامع المقاصد"[37]
لكن في كثير منها يوجد تقييد، وهو: "إذا لم يضطروا إليه أو لم يتوقف الفتح عليه"، فقالوا بالحرمة إلا إذا توقف الفتح أو النصر على إلقاء السم، أو اضطروا إلى إلقائه.
[مدرك القول بالحرمة]
التمسك بخبر السكوني عن الإمام الصادق عليه السلام عن علي عليه السلام: "أن النبي صلى الله عليه وآله نهى أن يُلقى السم في بلاد المشركين[38] ".
بل إن ابن إدريس نسبه إلى الأخبار في "السرائر"[39] .
ثم يعلق صاحب "الجواهر" في "جواهر الكلام" قائلًا: "وإن كنا لم نجد غير الخبر المذكور"[40] ،
أقول: لو رجعنا إلى وسائل الشيعة وغيره من كتب الروايات – لعلنا لا نجد إلا هذا الخبر.
هذا تمام الكلام في القول الأول، وهو الحرمة.
القول الثاني: يكره إلقاء السم، كما في:
"قواعد الأحكام" للعلامة الحلي[41]
"تحرير الأحكام"[42]
"تذكرة الفقهاء"[43]
الشهيد الأول في "اللمعة الدمشقية"[44]
الشهيد الثاني في "الروضة البهية"[45]
وهذه الكراهة قد حُكيت عن الشيخ الطوسي في "المبسوط"[46] ، وعن ابن الجنيد الإسكافي[47] ، بل نُسب هذا القول بالكراهة إلى جماعة من أصحابنا.
وقال بالكراهة أيضًا:
الفاضل المقداد السيوري في "التنقيح"[48]
ابن فهد الحلي في "المهذب"[49]
السيد علي الطباطبائي في "الرياض"[50]
إذًا، نلاحظ أن للعلامة الحلي رضوان الله عليه قولان في المسألة: قول بالحرمة، وقول بالكراهة في مختلف كتبه، فما هو السر في هذا الاختلاف؟ وما هو الصحيح؟ هل الصحيح هو حرمة إلقاء السم أم كراهته إلقاء السم؟ ويلحق به استخدام السلاح الكيماوي والنووي واليورانيوم المنضب وغير ذلك من الأسلحة الحديثة التي حكمها حكم السم أو أعظم منه.
تنقيح المسألة في جواز المحاربة بإلقاء السم، يأتي عليها الكلام.