« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

46/11/07

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (الثاني والثمانون): عدم لزوم الثبات لو كان العدو أكثر من الضعف

الموضوع: الدرس (الثاني والثمانون): عدم لزوم الثبات لو كان العدو أكثر من الضعف

عدم لزوم الثبات لو كان العدو أكثر من الضعف

[مسألة:] إذا كان العدو أكثر عددًا من المسلمين، كما لو كان المسلمون مائة وكان العدو ثلاثمائة أو خمسمائة، فهل يجب الثبات والمواجهة أم لا؟

توجد حالتان:

الحالة الأولى: لو غلب على الظن السلامة، فحينئذٍ يُستحب للمسلمين الثبات وإن زاد الكفار على الضعف، وهذا يُستفاد من قوله تعالى:

﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾[1]

ففيها ترغيب في الثبات.

كما أن الآيات والروايات تُرغِّب في إدراك الشهادة وعدم الاكتراث بزيادة العدد؛ لأن النصر من عند الله عزّ وجل، فالثبات حينئذٍ فيه إظهار للقوة وزيادة الأجر، فيُستحب.

الحالة الثانية: إذا غلب على الظن العطب، أي غلب على ظن المسلمين أنهم يُبادون ويُقتلون، فما هو الحكم؟

يوجد قولان:

القول الأول: يجب الانصراف إذا تحققت السلامة بالانصراف، نظرًا لوجوب حفظ النفس وحرمة التغرير بها.

القول الثاني: يُستحب الانصراف، ومَال إليه المحقق الحلي في "شرائع الإسلام"، فقال: "وهو أشبه"[2] ، أي أشبه عند المحقق الحلي بأصول المذاهب وقواعده، التي منها أصالة البراءة من الوجوب. فنحن الآن نشك: هل يجب الانصراف أم لا؟ وهذا شك في التكليف، فيكون موردًا لجريان البراءة الشرعية.

[دليل إستحباب الإنصراف]

وأما استحباب الانصراف، فإنه يُستفاد مما ورد في الكتاب الكريم والسنة المطهرة من الترغيب في الشهادة، ومن كون النصر بإذن الله عزّ وجل، فأفضيلة الانصراف من البقاء ـ على الرغم من أنه مظنة الشهادة ـ هو أن في حصول البقاء يحصل السبب لكثير من العبادات والطاعات والمبرات، فإذا انصرف بقي على قيد الحياة، واستطاع استثمار ذلك في البر والخيرات والطاعات.

ومن هنا قال صاحب "الجواهر" في "جواهر الكلام"[3] (ج٢٢، ص١11 وما بعدها): "بل لعل المتجه الندب ، ضرورة ظهور الأدلة في رجحانه"، أي رجحان الانصراف، "بل لا أعرف دليلا على جوازه خاليا عن الرجحان ، بل يمكن القطع بعدمه ، بل لم أعرف من حكاه قولا غير المصنف" ـ أي لم يذهب إلى استحباب الانصراف غير المصنف ـ كما رأى صاحب الجواهر، أي غير المحقق الحلي.

"والذي حكاه في المنتهى عدم وجوب الانصراف لأن لهم غرضا في الشهادة ، واستحسنه" في "منتهى المطلب"[4] .

كما أن المحكي من عبارة "المبسوط" هو الجواز لا الندب، "وحينئذٍ، فمتى ما جاز كان واجبًا أو مستحبًا"[5]

إلى هنا ذكرنا قولين عند ظن العطب:

القول الأول: وجوب الانصراف.

القول الثاني: استحباب الانصراف.

وحمل صاحب "الجواهر" الجواز ـ الذي قد يُفهم منه الإباحة ـ حمله على الأعمم من الوجوب والاستحباب؛ لأن الواجب جائز، والمستحب أيضًا جائز، ولم يحمله على الإباحة الخاصة بمعنى تساوي الطرفين.

قال رحمه الله معلقًا على من ذهب إلى الاستحباب وفضل الانصراف: "بل يمكن إرادة القائل المزبور أفضليت الإنصراف"، أي أفضليته من الجواز "باعتبار حصول البقاء الذي هو سبب لكثير من العبادات والطاعات والمبرات، لا الجواز بالمعنى الأخص الذي هو بمعنى الإباحة الصرفة، من دون ترتب شيء من الثواب عليه مع فرض بذل النفس في الدين، فإنه يمكن القطع بعدمه"[6] .

أقول: لم ينهض دليل باستحباب الانصراف، بل يمكن القول بالإباحة بالمعنى الأخص؛ إذ قد يقال بتساوي الطرفين: فإن بقي في المعركة نال الشهادة، وإن خرج من المعركة استطاع أن يأتي بالعبادات والخيرات، إلا إذا صدق عليه بأنه انتحار وإلقاء للنفس في التهلكة.

فتارة إن بقي واستشهد، شكل نموذجًا يُحتذى به في الثبات وأسهم في نصرة الدين، فكيف يقال بوجوب الخروج أو استحباب الخروج؟!

وتارةً إذا بقي شكل مهانة للدين وإبادة للمسلمين.

ومن هنا قال صاحب "الجواهر"[7] : "كما أنه يمكن القطع بعدم الوجوب"، أي عدم وجوب الانصراف حال غلبة العطب، بعد ملاحظة ما ورد في الكتاب والسنة من الترغيب في الشهادة والحث على الثبات، ونحو ذلك مما يكفي بعضه في رفع الوجوب، وبه يفترق حال الجهاد حينئذٍ عن غيره؛ ضرورة وجوب الانصراف في الفرض في غير الجهاد" أي في صورة ظن غلبة العطب يجب الانصراف؛ لأنه إلقاء للنفس في التهلكة، بخلاف حالة الجهاد؛ فإن فيها روايات تحث على الشهادة.

ومن هنا قد مال في إثبات الوجوب أو الاستحباب للانصراف، فيقال بالإباحة على الأولى، وأما وجوب الانصراف أو وجوب البقاء، فيُلحظ فيها الحكم الثانوي، والذي يرجح الحكم الثانوي هو مصلحة الإسلام والمسلمين.

هذا تمام الكلام، لو حصلت مواجهة بنحو الضعف أو أكثر بين جيش المسلمين وجيش الكافرين.

 

أما في المواجهة الفردية: لو انفرد اثنان من المشركين بواحد من المسلمين ـ كما لو كانت مشاجرة أو اعترضاه لقتله أو حمل عليهما في غير المعركة لقتلهما ـ فوجد أنهما أقوى منه، فهل يجب عليه الثبات في مواجهة الفردين أم لا؟

في المسألة قولان:

القول الأول: لا يجب الثبات، كما في "المبسوط" للشيخ الطوسي[8] والعلامة الحلي في "مختلف الشيعة"[9] و"قواعد الأحكام"[10] و"تحرير الأحكام"[11] والفاضل المقداد السيوري في "التنقيح الرائع"[12] .

وما أدراك ما هذا القول؟ هو ظهور الأدلة في وجوب الثبات للضعف مع الكثرة، أي في الجيش وعند الزحف، كما يشعر به قوله تبارك وتعالى: ﴿ فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾[13] .

ومن الواضح أن العشرين والمئتين والمائة والألف لا تكون في القتال الفردي، وإنما تكون في القتال الجماعي عند زحف المعركة.

بل ربما فُسِّر الزحف في قوله تعالى:﴿ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا ﴾[14] بالقتال في الجيش والمعركة، فقد قال الفاضل المقداد السيوري في "كنز العرفان في فقه القرآن" ما نصه: "والمراد بالزحف: الجيش الذي يُرى لكثرته كأنه يزحف"[15] .

هذا تمام الكلام في القول وأدلته.

القول الثاني: يجب الثبات، وقال بهذا القول:

الشيخ في "النهاية"[16] .

المحقق في "شرائع الإسلام"[17] .

ابن إدريس الحلي في "السرائر"[18] .

الرواية الأولى وأما ما أدراك ما القول الثاني فهو ما رُوي من خبرٍ الحسن بن صالح، إذ قال عليه السلام:

" مَنْ فَرَّ مِنْ رَجُلَيْنِ فِي الْقِتَالِ مِنَ الزَّحْفِ فَقَدْ فَرَّ وَ مَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي الْقِتَالِ مِنَ الزَّحْفِ فَلَمْ يَفِرَّ "[19] .

فهذه الرواية فيها عموم يشمل الفرد، فقال: "مَنْ فَرَّ مِنْ رَجُلَيْنِ"، و"مَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ"، فنتمسك بهذا العموم، لكن التمسك بهذه الرواية في غير محله؛ إذ جاء فيها قيدٌ، وهو: "فِي الْقِتَالِ فِي الزَّحْفِ"، فهي ناظرة إلى القتال في الزحف، أي في معركة وفي الجيش، وليست ناظرة إلى مطلق القتال.

الرواية الثانية التي يمكن أن يُستدل بها على وجوب الثبات هي خبر إسماعيل بن جابر، إذ جاء في ذيلها ما نصه: "فَصَارَ فَرْضُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَرْبِ: إِنْ كَانَتْ عِدَّةُ الْمُشْرِكِينَ أَكْثَرَ مِنْ رَجُلَيْنِ لِرَجُلٍ لَمْ يَكُنْ فَارًّا مِنَ الزَّحْفِ، وَإِنْ كَانَتِ الْعِدَّةُ رَجُلَيْنِ لِرَجُلٍ كَانَ فَارًّا مِنَ الزَّحْفِ"[20] .

فَيُتَمَسَّكُ بالعموم الوارد في قوله عليه السلام: "أَكْثَرَ مِنْ رَجُلَيْنِ".

وفيه أن الرواية فيها قيدٌ، إذ قالت: "فَصَارَ فَرْضُ الْمُؤْمِنِينَ فِي الْحَرْبِ"، فهي ناظرة إلى صورة الحرب، لا صورة الانفراد في القتال، فالمراد من العموم في كلتا الروايتين هو القتال مع الجيش، لا الآحاد، فيكون القول الأول أقوى، فلو واجه مسلمٌ كافرَيْنِ جاز له الفرار، ولم يجب عليه الثبات، والله العالم، نعم، الأحوط استحبابًا الثبات.

والظاهر من الخلاف في الجواز في صورة ظن السلامة، إنما الكلام مع ظن العطب والهلاك، فيحتمل:

١. وجوب الهرب إذا ظن السلامة في الهرب؛ كي لا يلقي بنفسه في التهلكة.

٢. ويحتمل عدم وجوب الهرب والفرار، ولعله أقوى؛ لما ذكرناه من الترغيب في الشهادة والثبات.

إذا اتضح صحة القول الأول ـ وهو عدم وجوب الثبات ـ وأن وجوب الثبات خاص بخصوص القتال في المعركة، نعم قد يقال بالتفصيل بين: ما لو طلباه، فيجوز له الفرار، وبين ما لو طلبهما، فلا يجوز.

ويعلّق صاحب "الجواهر" قائلًا: "فلم أعرف له مستندًا، بل ولا قائلًا، وإن حكاه في 'التذكرة'[21] بلفظ الـ قيل'، والله العالم"[22] .

يَبقى الكلام في كيفية محاربة العدو: فهل يجوز إحراقه؟ أو إجراء الماء عليه؟ وما شاكل ذلك من كيفيات؟، هذه التفاصيل يأتي عليها الكلام.


logo