46/11/06
الدرس (الواحد والثمانون): حرمة الفرار من القتال لو غلب عنده الهلاك مع كون العدو ضعفاً أو أقل
الموضوع: الدرس (الواحد والثمانون): حرمة الفرار من القتال لو غلب عنده الهلاك مع كون العدو ضعفاً أو أقل
[مسألة:] لو كان الكفار ضعف عدد المسلمين أو أقل من ذلك، وإذا ثبت المسلم غلب عنده أنه يهلك ويُقتل، فهل يجوز له الفرار للحفاظ على نفسه أم يحرم؟
في المسألة قولان:
القول الأول: حرمة الفرار، وهو قول الأكثر، وذهب إلى ذلك:
المحقق الحلي في "المختصر النافع"[1] .
العلامة الحلي في "إرشاد الأذهان"[2] و"تحرير الأحكام"[3] .
الفاضل المقداد السيوري في "التنقيح الرائع"[4] .
الشهيد الثاني في "مسالك الأفهام"[5] .
الفاضل الآبي في "كشف الرموز في شرح المختصر النافع"[6] .
المحقق الكركي في "فوائد الشرائع"[7] .
المقدس الأردبيلي في "مجمع الفائدة"[8] .
بل قال السيد علي الطباطبائي في "رياض المسائل"[9] . ونسب هذا القول إلى الأكفاء.
القول الثاني: يجوز الفرار لو غلب عنده الهلاك، وقد ذهب إلى هذا القول:
العلامة الحلي في "قواعد الأحكام"[10] وعبر بوجوب الانصراف، و"مختلف الشيعة"[11] .
وحُكي عن الشيخ الطوسي في "المبسوط"[12] .
لكن حكى الفاضل المقداد السيوري في "التنقيح الرائع"[13] عن الشيخ الطوسي أنه قول.
بل إن العلامة في "المختلف" حكى عن الشيخ الطوسي أنه قال: "الأولى عدم الجواز"[14] .
وأما العلامة الحلي في "تذكرة الفقهاء"[15] فقد رجح الثبات في مورد ما لو قصده رجل، وفي بقية الموارد لم يرجح شيئًا.
هذا تمام الكلام في عرض الأقوال في المسألة.
أدلة القولين:
دليل القول الأول: ويمكن التمسك بحرمة الفرار لو غلب عنده الهلاك مع كون العدو على الضعف أو أقل بأدلة:
الدليل الأول: التمسك بقوله تعالى:
﴿ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ﴾[16]
فيمكن التمسك بإطلاق الآية الشامل لمورد غلبة الهلاك عنده.
الدليل الثاني: التمسك بالنصوص المستفيضة أو المتواترة الدالة على حرمة الفرار من الزحف وأنه من الكبائر. يراجع "وسائل الشيعة" للحر العاملي[17] .
الدليل الثالث: ابتناء الجهاد على التغرير بالنفس، الذي هو في الحقيقة حياة أبدية عند الله تبارك وتعالى، لقوله عز من قائل:
﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾[18]
والإخبار من الله تبارك وتعالى بالغلبة وحياة الشهداء رافعةٌ لمظنة العطاء على كل حال.
أدلة القول الثاني: (وهو جواز الفرار من المعركة لو غلب على المسلم الهلاك إذا بقي):
الدليل الأول: التمسك بقوله تعالى:
﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾[19]
ومن الواضح أن بقاءه إلقاءٌ للنفس في التهلكة.
الدليل الثاني: التمسك بقاعدة الحرج، قال تعالى:
﴿ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ﴾[20]
والمراد بالحرج المشقة الشديدة التي لا تُحتمل غالبًا، ومن الواضح أن الهلاك من أشد المشقات، بل قد يقال إن قاعدة "لا حرج" من القواعد العقلية التي لا تقبل النقض، فيستدل بها على نفي وجوب البقاء والثبات وجواز الفرار.
الدليل الثالث: سقوط أكثر الواجبات بظن الهلاك، فالكثير من الواجبات في الإسلام تسقط عند ظن الهلاك.
الدليل الرابع: التمسك بأصل البراءة الشرعية، فلو شككنا في حرمة الفرار وعدمها لعدم نهوض أدلة القول الأول، فهذا مورد لجريان البراءة؛ إذ إنه شك في التكليف، فتجري البراءة الشرعية: "رُفِعَ عَنْ أُمَّتِي مَا لَا يَعْلَمُونَ"[21] ، ولا أقل من دعوى التعارض بين أدلة حرمة الفرار وأدلة جوازه، فيقال: إن النسبة بينهما نسبة العموم والخصوص من وجه، ولا ترجيح لأحدهما على الآخر، فيكون المكلف مخيرًا.
والصحيح – ومقتضى التحقيق – هو القول الأول، إذ إن الآية الكريمة ﴿ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا ﴾[22] مطلقة تشمل مورد غلبة الهلاك، كما أن هذا المورد (وهو كون العدو على الضعف أو أقل) هو مورد الآيات الكريمة التي جعلت المسلم في مقابل مشركين أو كافرين أو أقل.
كما أن الجهاد مبني على الضرر، والأحكام المبنية على الضرر والحرج والمشقة لا تشملها قاعدة "لا ضرر" ولا تشملها قاعدة "لا حرج"، كالحدود والتعزيرات، فهل يُقال: ينتفي حد الزاني أو حد السرقة لما فيه من ضرر على الزاني والسارق أو حرج ومشقة عليهما؟ كلا وألف كلا!.. والجواب: إن الحدود والتعزيرات مبنية على إيقاع الضرر والمشقة، والجهاد والقتال في سبيل الله أوضح مصداقًا من الحدود والتعزيرات؛ فهو مبني على الحرج والمشقة، كما أن الآيات المتقدمة أثبتت وجود ثبات العشرة للمائة، فكان مقررًا سابقًا: المسلم في مقابل عشرة، ثم قال الله عن المؤمنين: ﴿ الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ ﴾[23] .
قال المحقق المدقق الشيخ محمد حسن النجفي في "جواهر الكلام":
"وأي حرج في الجهاد حتى يُقتل ويحصل له الحياة الأبدية والسعادة السرمدية؟!! وقد وقع من سيد روحي له الفداء في كربلاء الثبات بنيف وسبعين رجلاً لثلاثين ألفًا، وهو أقل ما روي في نصوصنا"[24] .
"أمالي الصدوق"[25] الحديث الثالث صفحة ١٧٧.
"مناقب آل أبي طالب" لابن شهر آشوب.[26]
"الملهوف" لابن طاووس.[27]
أقول: إنما أفادَه صاحب الجواهر بالنسبة لسيد الشهداء في كربلاء مبنيٌّ على أن معركة كربلاء على القاعدة، أما لو قلنا إنها قضية في واقعة – كما هو مبنى صاحب الجواهر الذي يرى أن مقتل الحسين ومعركة كربلاء لها خصوصياتها الخاصة بها وأنها قضية في واقعة – فحينئذٍ لا يصح النقض بها أو الاستدلال بها، والله العالم.
فالعمدة التمسك بالآية الكريمة والنصوص المستفيضة أو المتواترة الدالة على حرمة الفرار من الزحف وأنه من الكبائر، ولا تصل النوبة إلى التمسك بأصل البراءة الشرعية؛ إذ الأصل أصيل حيث لا دليل، وحيث قد قام الدليل فإلى الأصل لا نميل، فالآية الكريمة والروايات دليل اجتهادي وأدلة محرزة، فلا تصل النوبة إلى الأصول العملية والأدلة الفقاهتية، فلا يتمسك بالبراءة حينئذ.
النتيجة النهائية: ترجيح القول الأول، وهو حرمة الفرار، أصلًا هو موردها أنه لو ظن الهلاك...
نعم، لا بأس للنساء بالفرار؛ كتب القتل والقتال علينا وعلى المحصنات جر الذيول، هذا عاد مو دليل؟ هذا كلام خطباء! (بعد حضور خطباء نجب لهم شعر).
قال العلامة الحلي في التذكرة: "لأنهن لسن من أهل فرض الجهاد"[28] .
فالجهاد واجب على الرجال دون النساء، ولكن قد يشكل هنا بأن هذا بالنسبة إلى الجهاد الابتدائي، وهو جهاد الدعوة.
وأما القسم الثاني وهو الجهاد الدفاعي، فيجب على المرأة الثبات أيضًا، وهذا لا شك فيه، وأما الصبيان والمجانين فلا تكليف عليهم لسلب القلم عنهم.
هذا تمام الكلام في حرمة الفرار لو غلب عنده الهلاك مع كون العدو ضعفًا أو أقل (هذا الشق الأول).
الشق الثاني:
[مسألة:] لو كان العدو أكثر من الضعف، كما لو كان ثلاثة أضعاف المسلمين أو عشرة أضعاف المسلمين، فهل يجب الثبات أم لا؟
الجواب: لا يجب الثبات، وقد صرح بذلك غير واحد، كـ:
الشيخ الطوسي في "المبسوط"[29] .
ابن البراج في "المهذب"[30] .
يحيى بن سعيد الحلي في "الجامع للشرائع"[31] .
العلامة الحلي في "التحرير"[32] .
ومدرك المسألة: هو انتفاء شرط الوجوب المقتضي لانتفاء المشروط؛ إذ إن المشروط عدم عند عدم شرطه، والشرط هو كون العدو على الضعف أو أقل، والمشروط حرمة الفرار، فحرمة الفرار ووجوب الثبات مشروط بشرط، وهو كون العدو على الضعف أو أقل ولا يزيد على الضعف، وهذا الشرط مستفاد من الكتاب والسنة والفتاوى، فمن يراجع الآيات الكريمة في القرآن الكريم والروايات الشريفة وفتاوى الفقهاء يجد أنها نصوص على حرمة الفرار إذا كان العدو على الضعف أو أقل.
نعم، قد يُشكل في مجرد زيادة واحد أو اثنين فقط مع وجود الضعف والجبن في الكفار والشجاعة والقوة في المسلمين، فلو كان المسلمون مائة والكفار مئتين وواحد أو مئتين واثنين، وكان الكفار جبناء وكان المسلمون أقوياء، فهل يجوز الفرار حينئذ؟ قد يقال إن أدلة الثبات مطلقة وتشمل هذا المورد.
وبعبارة أخرى: هل نلحظ العدد فقط، أم نلحظ أشياء أخرى بالإضافة إلى العدد، كقوة المسلمين وضعف الكفار وغير ذلك؟
قد يقال إن العدد المطلوب إنما يُراعى مع تقارب الأوصاف، فلو كان العدو أقوياء والمسلمون أقوياء، أو العدو ضعفاء والمسلمون ضعفاء، يُلاحظ العدد، ومع اختلاف الأوصاف فلا يُلاحظ العدد.
قال العلامة الحلي ما نصه:
"وفي جواز فرار مائة بطل من المسلمين من مئتين وواحد من ضعفاء الكفار إشكال ينشأ: من مراعاة العدد، ومن المقاومة لو ثبتوا"، من مراعاة العدد هذا وجه جواز الفرار، ومن المقاومة لو ثبتوا هذا وجه وجوب الثبات وحرمة الفرار".
ثم قال رحمه الله:
"والعدد مراعًى مع تقارب الأوصاف ... وكذا الإشكال في عكسه، وهو فرار مائة من ضعفاء المسلمين من مائة وتسعة وتسعين من أبطال الكفار، فإن راعينا صورة العدد لم يجز، وإلا جاز."[33]
بل قال العلامة في القواعد ما نصه:
"الأقرب المنع في الأول؛ لأن العدد معتبرٌ مع تقارب الأوصاف".[34]
والخلاصة:
اعتبار العدد في حرمة وجواز الفرار إنما هو مع تقارب الأوصاف، وأما مع اختلاف الأوصاف فلا يعتبر.
لذلك قال المحقق الحلي ـ ره ـ [35] :
"ولو غلب على الظن السلامة استحب" أي الثبات، وإن زاد الكفار على الضعف"، يقول صاحب الجواهر: لما فيه من إظهار القوة وزيادة العزم، خصوصاً بعدما يستفاد من قوله تعالى: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ﴾، وغيره من الترغيب فيه، وفي إدراك الشهادة، وعدم الاكتراث بزيادة العدد لأن النصر من عند الله.[36]
هذا تمام الكلام في هذه المسألة، مسألة أخرى يأتي عليها الكلام.