46/11/01
الدرس (التاسع والسبعون): حرمة الفرار من المعركة
الموضوع: الدرس (التاسع والسبعون): حرمة الفرار من المعركة
حرمة الفرار من المعركة إذا كان العدو ضعف المسلمين أو أقل، وقد صرح بهذه الفتوى الشيخ الطوسي في المبسوط[1] ، والمحقق الحلي في شرائع الإسلام[2] ، والمختصر النافع[3] ، والعلامة الحلي في قواعد الأحكام[4] ، وإرشاد الأذهان[5] ، ومنتهى المطلب[6] .
والشهيد الأول في الدروس الشرعية[7] ، واللمعة الدمشقية[8] ، والشهيد الثاني في الروضة البهية[9] ، وابن إدريس الحلي في السرائر[10] ، وابن حمزة في الوسيلة[11] ، ويحيى بن سعيد الحلي في الجامع للشرائع[12] ، والشيخ جعفر كاشف الغطاء في كشف الغطاء[13] .
بل ادعى صاحب الجواهر الإجماع على ذلك في جواهر الكلام، جزء اثنين وعشرين، صفحة ستة وتسعين، فقال ما نصه: "بل لا أجد فيه خلافًا كما اعترف به في التنقيح"[14] .
يراجع التنقيح الرائع لمختصر الشرائع للفاضل المقداد السيوري الحلي[15] .
إذاً، هنا أمران:
الأمر الأول حرمة الفرار من الزحف والمعركة.
الأمر الثاني تقييد هذا التحريم بما إذا كان العدو ضعف المسلمين أو أقل.
[إذا كان العدو أكثر من الضعف]
سؤال: أما إذا كان العدو أكثر من الضعف، كما لو كان ثلاثة أضعاف أو عشرة أضعاف، فهل يثبت هذا الحكم وهو حرمة الفرار من المعركة أو لا؟
الجواب: القدر المتفق عليه بين الفقهاء هو حرمة الفرار من الزحف في خصوص ما إذا كان المسلم يقابله اثنان أو أقل من الكفار، فهنا يحرم الفرار من المعركة، وأما إذا كان المسلم يقابل ثلاثة فما فوق، فهنا قد يتأمل في ثبوت حرمة الفرار من المعركة، فما هي الأدلة على حرمة الفرار من المعركة؟
الدليل الأول: التمسك بقوله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾[16]
الآيتان صريحتان في النهي عن تولي الأدبار، وهو كناية عن الهروب، فالمقاتل لا يعطيه دبره وخلفه، فإذا أعطاه دبره، أي إنه هرب وفر من المعركة.
الدليل الثاني: السنة المطهرة، وقد دلت على أن الفرار من الزحف من جملة الكبائر، بل قد يدعى استفاضة النصوص، بل تواترها على حرمة الفرار من المعركة.
يراجع وسائل الشيعة[17] .
ولنقرأ بعض هذه الروايات، ولا يهم النظر في سندها نظرًا لاستفاضتها الموجبة للاطمئنان، أو تواترها الموجب للقطع واليقين.
الرواية الأولى: مرسل الكليني عن أمير المؤمنين عليه السلام قال: وليعلم المنهزم أنه مسخط ربه وموبق نفسه له في الفرار، وموجدة الله، أي غضب الله، والذل اللازم، والعار الباقي، وإن الفار لغير مزيد في عمره، ولا محجوز بينه وبين يومه، ولا يرضي ربه، ولموت الرجل محقًا قبل إتيان هذه الخصال خير من الرضا بالتلبس بها والإقرار عليها. [18]
الرواية الثانية: ما في خبر محمد بن زينا أن أبا الحسن الرضا عليه السلام كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله: حرم الله الفرار من الزحف، لما فيه من الوهن في الدين والاستخفاف بالرسل والأئمة العادلة وترك نصرتهم على الأعداء والعقوبة لهم على ترك ما دعوا إليه من الإقرار بالربوبية وإظهار العدل وترك الجور، ومن ذلك من الفساد لما في ذلك من جرأة العدو على المسلمين وما يكون في ذلك من السبي والقتل وإبطال دين الله عز وجل.[19]
الرواية الثالثة: خبر إسماعيل بن جابر عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي عليه السلام، المروي عن رسالة المحكم والمتشابه نقلاً عن تفسير النعماني مسندًا إليه إلى الإمام الصادق عليه السلام، طبعًا هناك كلام في رسالة المحكم والمتشابه ذكرناه في بحث الرجال، الآن لا ندقق في الأسانيد لاستفاضة أو تواتر الروايات.
قال الصادق عليه السلام: إن الله تعالى لما بعث نبيه صلى الله عليه وآله أمره في بدء أمره أن يدعو بالدعوة فقط، وأنزل عليه ﴿وَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ﴾ ، فلما أرادوا ما هموا به من تبييتة، أمره الله بالهجرة وفرض عليه القتال، فقال: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا﴾ ثم ذكر بعض آيات القتال إلى أن قال: فنسخت آية القتال آية الكف.
ثم قال: ومن ذلك أن الله تعالى فرض القتال على الأمة فجعل على الرجل أن يقاتل عشرة من المشركين، فقال: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ ، ثم نسخها سبحانه فقال: ﴿الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ﴾ ، فنسخ بهذه الآية ما قبلها، كان الواحد في مقابل عشرة، ثم صار واحد مقابل اثنين.
ثم قال عليه السلام: فصار فرض المؤمنين في الحرب أن كان عدة المشركين أكثر من رجلين لرجل لم يكن فارًا من الزحف، وإن كانت العدة رجلين لرجل كان فارًا من الزحف، الرواية صريحة في تحقيق عنوان الزحف.[20]
الرواية الرابعة: وهي من مرسلات الكليني الجازمة، قال الصادق عليه السلام في خبر مسعد بن صدقة في حديث طويل،.. عفواً لعلها غير مرسلة هذه الرواية.
عمومًا، قال الصادق عليه السلام: إن الله عز وجل فرض على المؤمن في أول العام أن يقاتل عشرة من المشركين، ليس له أن يولي وجهه عنهم، ومن يتولهم يومئذ دبره فقد تبوأ مقعده من النار، ثم حولهم عن حالهم رحمة منه لهم، فصار الرجل منهم عليه أن يقاتل رجلين من المشركين تخفيفًا من الله عزّ وجل، فنسخ الرجلان العشرة. [21]
وهذه الرواية تأيد مضمون رواية رسالة المحكم والمتشابهة.
الرواية الخامسة: قال الصادق عليه السلام في خبر الحسن بن صالح: " مَنْ فَرَّ مِنْ رَجُلَيْنِ فِي الْقِتَالِ مِنَ الزَّحْفِ فَقَدْ فَرَّ وَ مَنْ فَرَّ مِنْ ثَلَاثَةٍ فِي الْقِتَالِ مِنَ الزَّحْفِ فَلَمْ يَفِرَّ "[22] .
هذه خمس روايات نكتفي بها لبيان الفرار من الزحف.
سؤال: هل حرمة الفرار من الزحف تختص بخصوص الجهاد ابتداءً أم تعم الجهاد الدفاعي أيضًا، كما لو هجم الكفار والمشركون على المسلمين وكانوا ضعف المسلمين أو أقل؟ فهل حرمة الفرار من الزحف تشمل مورد الجهاد الدفاعي أم أنها تختص بخصوص الجهاد الابتدائي؟
وجهان:
الوجه الأول وجه الاختصاص هو أن المنساق من النص والفتوى هو خصوص الجهاد الابتدائي.
الوجه الثاني العموم، وهو مقتضى الإطلاق، فلا يفرق بين القسم الأول من الجهاد، وهو الابتدائي، وبين القسم الثاني، وهو الدفاع، فإذا داهم المسلمين عدو يخشى منه على بيضة الإسلام، وكان العدو الكافر ضعف المسلمين أو أقل، حرم الفرار عن مواجهة هذا العدو. ولا الأقل إن العموم أحوط.
فالصحيح ثبوت حرمة الزحف مطلقًا، والمراد به حرمة الفرار من الحرب والهرب منها، وهو المكنى عنه بتولي الدبر أو الفرار من الزحف، وهي كناية عن الهروب من المعركة.
ولكن توجد استثناءات
وقد ذكرت الآية الكريمة استثنائين للفرار من ساحة المعركة:
الاستثناء الأول: التحرف لقتال، وبتعبير هذا اليوم: لإعادة الموضع في المعركة، فهو لا يفر فرارًا من الموت والقتال بل يفر لتحصين موضعه، وربما قيل: إنه هو الكر بعد الفرار، كما في تفسير الكشاف للزمخشري[23] ، وتفسير البيضاوي[24] ، وتفسير جوامع الجامع للطبرسي[25] ، وتفسير الصافي للفيض الكاشاني[26] ، وتفسير غريب القرآن للطريحي[27] .
والصحيح إن الكرة بعد الفر هو أحد أفراد ومصاديق التحرف، والتحرف مأخوذ من الميل إلى حرف، أي طرفٍ، قال تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ﴾[28] ، يعني على طرف.
ومنه التحرف طلب الرزق، أي المال، إلى جهة وطرف يظن أن فيها الرزق، فيُراد مطلق التحرف، مطلق الميل، يعني إعادة التموضع لاختلاف الأسباب.
ولنذكر عدة أسباب لهذا السبب الأول التحرف للقتال:
السبب الأول: طلب السعة، كما لو كان في مكان ضيق ويصعب عليه القتال فيه، وأراد الانتقال إلى مكان واسع ليكون أمكن له في القتال من المكان الضيق، كما في قواعد الأحكام، العلامة الحلي[29] ، وتذكرة الفقهاء[30] ، والمسالك للشهيد الثاني[31] ، والشرائع للمحقق الكركي[32] ، ومجمع الفائدة والبرهان للمقدس الأردبيلي[33] ، ورياض المسائل[34] .
ذكروا هذه الأسباب وهي واضحة.
السبب الثاني: الحصول على موارد المياه، فلو أراد دفع عطشه الذي قد يمنعه عن القتال، وبتعبير هذا اليوم: أن يكون قريبًا من خطوط الإمداد، أي إمداد الطعام والشراب والسلاح.
وقد نص على هذا السبب وهو الحصول على موارد المياه، العلامة في قواعد الأحكام[35] ، تحرير الأحكام[36] ، الفاضل مقداد السيوري في التنقيح الرائع[37] ، والعلامة في التذكرة[38] ، والشهيد الثاني في المسالك[39] ، وأيضًا الشهيد الثاني في الروضة البهية[40] .
السبب الثالث: استدبار الشمس، كما لو كانت الشمس في وجهه فيصبح أعشى لا يبصر، وأراد أن تكون الشمس خلفه لكي يتمكن من الرؤية.
ونص على هذا السبب استدبار الشمس، نفس المصادر، العلامة في القواعد والتحرير والتذكرة، والفاضل المقداد في التنقيح، والشهيد الثاني في الروضة، والمحقق في مجمع الفائدة والبرهان، وكاشف الغطاء في كشف الغطاء[41] .
فالقتال والشمس في دبره أولى من القتال ضدها.
السبب الرابع: تسوية لامته، والمراد باللامة مؤونة الحرب.
نص على تسوية اللامة العلامة في القواعد، والفاضل المقداد في التنقيح، والشهيد الثاني في الروضة البهية، والمسالك، وكاشف الغطاء في كشف الغطاء، والسيد في رياض المسائل.
والمراد باللامة الدرع، خرج عليّ (عليه السلام) لابسًا لامته، يعني لابسًا درعه.
الخلاصة: هذا يشمل كل هذه الأمور، يشملها ماذا؟ التحرف للقتال، يعني تغيير وضعه إلى وضعية أفضل، هذا يشمل نزع شيء ولبسه، كما صرح به الشهيد الأول في الدروس، والعلامة في القواعد، والشهيد الثاني في المسالك، الارتفاع عن هابط، والاستناد إلى جبل، وقد صرح بهما العلامة في التذكرة والتحرير.
الخلاصة: لا يصدق عليه عنوان الفرار والهروب، بل يصدق عليه عنوان التحيز والتحرف، يعني تغيير وضعية القتال نحو الأحسن.
هذا تمام الكلام في السبب الأول من جواز الفرار، يعني يفر لتغيير الوضعية إلى ما هو أحسن.
السبب الثاني: التحيز إلى فئة من المسلمين يأتي عليها الكلام.