« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

46/10/23

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (الثامن والسبعون): الدعوة إلى الإسلام قبل القتال

الموضوع: الدرس (الثامن والسبعون): الدعوة إلى الإسلام قبل القتال

قلنا يجب دعوة الكافر الحربي إلى الإسلام قبل قتاله، لكن لو كان يعرف الدعوة الإسلامية كما لو كان قاتل المسلمين مسبقًا ودعي إلى الإسلام ولم يقبل، فهل تجب دعوته أيضًا أو لا؟

لو كان الكافر دعي سابقا هل تجب دعوته ايضا؟

حكي عن النهاية للشيخ الطوسي[1] ، والسرائر لابن إدريس الحلي[2] ، التعبير بـ ينبغي المشعر بالندب والاستحباب، لكن قد يفهم من كلام البعض الإطلاق، ولعل مدرك إطلاق وجوب الدعوة إلى الإسلام سواء عرف الكافر الدعوة مسبقًا أو لا، لعله يظهر من بعض الأخبار.

والصحيح: وجوب الدعوة إذا لم يكن الكافر يعرفها، فالغرض من دعوته هو تعريفه بالإسلام ودخوله فيه، فإذا عرف الدعوة انتفى الموضوع.

نعم، يستحب دعوته، ويتحقق بلوغ الدعوة له بلوغ الدعوة إلى رئيس الكفار مشافهةً أو مراسلةً أو مكاتبة، والأفضل والأولى أن تبلغ الدعوة إلى كل مقاتل، والأولى أن تكون المأثور وهو ما نصه:

"بسم الله، أدعوك إلى الله وإلى دينه وجماعة، أمران: أحدهما معرفة الله والآخر العمل برضاه، وإن معرفة الله أن يعرفه بالوحدانية والرحمة والعلم والقدرة والعلو في كل شيء، وأنه الضار النافع القاهر لكل شيء، الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن ما جاء به الحق من الله، وإن ما سواه هو الباطل، فإذا أجابوا إلى ذلك فلهم ما للمؤمنين وعليهم ما على المؤمنين"[3] .

[القولان في حق من عرف الدعوة]

إذاً يمكن أن يُذكر قولان في حق من عرف الدعوة:

القول الأول: يسقط اعتبار وجوب الدعوة في حق من عرفها، وقد صرح بذلك الشيخ الطوسي في "المبسوط"[4] ، والمحقق الحلي في "المختصر النافع"[5] ، والعلامة الحلي في "مختلف الشيعة"[6] ، و"تذكرة الفقهاء"[7] ، و"قواعد الأحكام"[8] ، و"إرشاد الأذهان"[9] ، و"تحرير الأحكام"[10] .

وكذلك الشهيد الأول في "الدروس الشرعية"[11] ، والشهيد الثاني في "مسالك الأفهام"[12] ، و"الروضة البهية"[13] .

ومدرك ذلك: ما ورد في خبر السلمي المتقدم، فلو رجعنا إليه سنجد ما يدل على وجوب الدعوة لمن لم يعرف الدعوة الإسلامية، وأما من عرفها فلا يجب، إذ جاء في رواية أبي عمرو السلمي قال: "فلخص لي أصلحك الله، فقال هات"، فقال الرجل: "غزوت فوقعت على المشركين، فينبغي قتالهم قبل أن أدعوهم".

فقال: "إن كان غزوا وقوتلوا، فإنك تجتزئ بذلك"، وفي النسخة الأخرى: "تجترئ بذلك، وإن كانوا أقوامًا لم يغزوا ولم يقاتلوا، فلا يسعك قتالهم حتى تدعوهم".[14]

رواية صريحة في وجوب الدعوة إذا لم يغزوا ولم يعلموا، وأما إذا غزوا، علموا، فلا يجب.

وأيضًا يمكن التمسك بما حكاه غير واحد من أن النبي صلى الله عليه وآله غزا بني المصطلق وهم آمنون، وإبلهم تسقى على الماء واستأصلهم.

يُراجع "صحيح البخاري"[15] ، و"صحيح مسلم"[16] ، و"سنن أبي داود"[17] ، و"سنن البيهقي"[18] ، و"سنن النسائي"[19] ، و"معرفة السنن والآثار"[20] ، و"مسند أحمد بن حنبل"[21] .

ولا أقل من الشك، فنشك في وجوب دعوة من عرف الإسلام، فهل تجب دعوته إليه أو لا؟ فتجري أصالة البراءة الشرعية، فلا تجب دعوته إلى الإسلام، بل لعل هذا الحكم لا خلاف فيه، كما قال صاحب "الجواهر" في "جواهر الكلام"، فقال: "بل لعله لا خلاف فيه"[22] .

القول الثاني: لكن حكي الإطلاق عن "النهاية"[23] للشيخ الطوسي، و"سرائر" ابن إدريس الحلي[24] ، و"تبصرة المتعلمين" للعلامة الحلي[25] .

فكلامهم في وجوب الدعوة مطلق، فيشمل من عرفها ومن لم يعرفها، لكن يمكن تنزيل هذا الإطلاق على غير هذا الفرض، وهو فرض من علم، فلا توجد حكمة في دعوته مجدداً بعد أن علم، خصوصًا إذا كان معاندًا.

نعم، دعوة من علم بالإسلام مستحبة لتأكيد الحجة وللمحكي من فعل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عند مقاتلة عمرو بن عبد ود العامري.

يُراجع "بحار الأنوار"[26] ، و"تاريخ الطبري"[27] ، و"المغازي" للواقدي[28] .

وأيضًا يمكن التمسك بما ورد في وصية النبي صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام لما بعثه إلى اليمن، قال أمير المؤمنين عليه السلام: "بعثني رسول الله إلى اليمن، فقال: يا علي، لا تقاتلن أحدًا حتى تدعوه، وأيم الله، لئن يهدي الله على يديك رجلًا، خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا علي"[29] .

ولعل السر في ذلك: هو حدوث الرغبة وتجدد الرغبة لدى الكافر، فلربما عاند في المرة الأولى ولربما يقبل في الدعوة الثانية، بل لعل الكافر يقبل بإعطاء الجزية أو قد يقبل بإيقاع الهدنة، فتُحْقن دماء المسلمين خصوصًا إذا كانت بلاد الكافرين واسعة، ولعله لم تبلغهم الدعوة.

[استحباب الدعاء بالمأثور عند الدعوة]

ويستحب الدعاء بالمأثور عند دعوتهم، ففي خبر الميمون عن أبي عبدالله عليه السلام إن أمير المؤمنين عليه السلام كان إذا أراد القتال قال هذه الدعوات: "اللهم إنك أعلمتنا سبيلاً من سبل جعلت فيه رضاك وندبت إليه أوليائك وجعلته أشرف سبلِك عندك ثواباً وأكرمها لديك مئاباً وأحبها إليك مسلكاً، ثم اشتريت لهم من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، يقاتلون في سبيل الله فيُقتلون ويُقتَلون، وعداً عليه حقاً، فاجعلني ممن اشترى فيه منك نفسه ثم وفى لك ببيعه الذي بايعك عليه غيرنا كثير لك ولا ناقض لك عهداً ولا مبدلًا تبديلًا، بل استيجابًا لمحبتك وتقربًا به إليك، فاجعله خاتمة عملي وصير فيه فناء عمري، وارزقني فيه لك به مشهداً توجب لي به منك الرضا، وتحط به عني الخطايا، وتجعلني في الأحياء المرزوقين بأيدي العداة والعصاة تحت لواء الحق وراية الهدى، ماضيًا على نصرتهم قدمًا غير مولٍ دبراً ولا محدث شكًا.

اللهم وأعوذ بك عند ذلك من الجبن عند موارد الأهوال، ومن الضعف عند مساورة الأبطال، ومن الذنب للأعمال فاحجم من شك أو أمضي بغير يقين فيكون سعيًا في تباب وعملي غير مقبول"[30] .

هذا تمام الكلام في وجوب الدعوة، واتضح أنه تجب الدعوة لمن لم يعلمها ولم يعرفها، وأما من عرفها فإنه تستحب دعوته إلى الإسلام قبل القتال ولا تجب.

مسألة أخرى: اتخاذ الشعار عند القتال، يستحب اتخاذه في الحرب، والمراد به النداء الذي يُعرف به أهلها، فيكون علامة على ذلك، مثلما ما نقول هذه الأيام "كلمة السر"، الكلمة المعروفة التي يتخذ شعارًا.

قال الصادق عليه السلام في خبر معاوية: "شعارنا يا محمد يا محمد"، وشعارنا يوم بدر: "يا نصر الله اقترب"، وشعار المسلمين يوم أحد: "يا نصر الله اقترب"، ويوم بني النضير: "يا روح القدس ارح"، ويوم بني قينقاع: "يا ربنا لا يغلبنك"، ويوم الطائف: "يا رضوان"، وشعار يوم حنين: "يا بني عبد الله يا بني عبد الله"، ويوم الأحزاب: "حم لا يبصرون"، ويوم بني قريظة: "يا سلام اسلمهم"، ويوم المريسيع، وهو يوم بني المصطلق: "إلا إلى الله الأمر"، ويوم الحديبية: "ألا لعنة الله على الظالمين"، ويوم خيبر، وهو يوم القموص: "يا علي اتهم من علم"، ويوم الفتح: "نحن عباد الله حقًا حقًا"، ويوم تبوك: "يا أحد يا ص"، ويوم بني الملوح: "قمت قمت"، ويوم صفين: "يا نصر الله"، وشعار الحسين: "يا محمد". وشعارنا "يا محمد".[31]

وقال الصادق عليه السلام في خبر السكوني: "قدم أناس من مزينة على النبي صلى الله عليه وآله، فقال: ما شعاركم؟ قالوا: حرام. قال: بل شعاركم حلال".

وفي الكافي للكليني، وروي أيضاً أن شعار المسلمين يوم بدر: "يا منصور أمت"، وشعار يوم أحد للمهاجرين: "يا بني عبد الله، يا بني عبد الرحمن"، وللأوس: "يا بني عبد الله".[32]

إذاً، المراد بالشعار هنا، في ذلك الزمان، يختلط الجيش والجنود، فأحيانًا لا تعرف هذا من جماعتك أو من المشركين، فهناك تكون كلمة السر أو شعار، الآن ما يُطلق على الشعار يعني إطلاق وسام معين ومصطلح يختزل الهدف، تقول شعار هذا العام يعني الفكرة التي نريد أن نحققها في هذا العام.

لعل الشعار بمعنى أنه كلمة السر الآن في هذه الجيوش الحديثة لعله ما نحتاج مثل هذه الشعارات، لكن نحتاج إلى شعارات بمعنى الكلمات التي تختزل الفكرة التي نصبوا إليها، على كلٍ يستحب اتخاذ الشعار في الحرب.

يبقى الكلام في من الزحف

سؤال: فلو كان المشركون ضعيفين أمام المسلمين أو أقل منهم أو أكثر، فهل يجوز الفرار من الزحف والمعركة أو لا؟

الجواب: يحرم الفرار من الزحف، بل هو من جملة الكبائر، وقد استفاضت النصوص في حرمة الفرار من المعركة، فلا يجوز الفرار من المعركة، وتفصيل ذلك يأتي إن شاء الله.


logo