« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

46/10/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (السادس والسبعون): بيان من يجب جهاده وكيفية جهاده

الموضوع: الدرس (السادس والسبعون): بيان من يجب جهاده وكيفية جهاده

الركن الثاني:

في بيان من يجب جهاده وكيفية الجهاد

قال صاحب الجواهر في جواهر الكلام[1] ، الجزء الثاني والعشرين، صفحة تسعة وسبعين، تبعًا للمحقق الحلي في شرائع الإسلام:

وفيه أطراف خمسة:

الطرف الأول: في من يجب جهاده،

وهم ثلاثة:

الأول البغاة على الإمام من المسلمين، ويلحق بهم منعوا الزكاة وإن لم يكونوا مستحلين.

الثاني أهل الذمة، وهم اليهود والنصارى والمجوس إذا أخلوا بشروط الذمة.

الثالث من عدا هؤلاء من أصناف الكفار، كالكافر غير الكتابي.

هذه طوائف ثلاثة قد تطرقنا إليها مسبقًا وذكرنا كلام السيد أبو القاسم رحمه الله في منهاج الصالحين، الجزء الأول، كتاب الجهاد، صفحة ثلاثمئة وستين، إذ تطرق إلى الطوائف التي تقاتل.

فهذه الطوائف الثلاثة يجب جهادها لأحد أمرين:

الأمر الأول: كفهم عن فسادهم كما في البغاة الذين هم من المسلمين، وكذلك من هجم على بلاد الإسلام من غير المسلمين، بحيث يخشى على بيضة الإسلام أو يخاف من أسر المسلمين وقتلهم وسبي ذراريهم، فحينئذ يجب على المسلمين النفور إلى هؤلاء لردعهم وكفهم.

نقلهم إلى الإسلام أو الإيمان أو إعطاء الجزية، فالكافر الكتابي يخير بين الإسلام أو دفع الجزية أو القتل، فإذا لم يسلم ولم يدفع الجزية ولم يقبل شرائط الذمة فإنه يُقتل، بخلاف الكافر غير الكتابي كالوثني، فهؤلاء المشركون يُخيرون بين الدخول في الإسلام أو القتل، وهذا ما أخذناه في الجهاد الابتدائي، والذي يُطلق عليه "جهاد الدعوة"، أي الدعوة إلى الله والإسلام.

ولا إشكال في أصل هذا الحكم بعد الأمر به والحث الأكيد عليه في الكتاب والسنة، فهذا الحكم إن لم يكن من الضروريات، فلا ريب في كونه من القطعيات كما يقول صاحب الجواهر[2] .

فإذا أراد الكفار محو الإسلام ودرس شعائره وعدم ذكر محمد صلى الله عليه وآله وشريعته، فلا إشكال في وجوب الجهاد حينئذ، ولو مع الجائر، لكن يقصد بالجهاد معه الدفع عن النفس أو عن بيضة الإسلام، لا إعانة سلطان الجور.

قال صاحب الجواهر بل الإجماع بقسميه عليه[3] يراجع النهاية للشيخ الطوسي[4] ، والسرائر لابن إدريس[5] ، والعلامة الحلي في منتهى المطلب[6] ، والدروس الشرعية للشهيد الأول[7] .

وقد تقدم ذكر عموم الأمر بالقتال في الآيات الكثيرة المتكثرة التي تشمل الفرض، بالإضافة إلى النصوص والروايات التي تقدمت، بل ظاهر الأصحاب أنه من أقسام الجهاد، فتشمله حينئذ آياته ورواياته، وإن كان لا يشترط فيه الشرائط الخاصة التي هي للجهاد الابتدائي للدعوة إلى الإسلام، فهذا يكون جهادًا دفاعيًا لصد العدوان وصد الكفار الذين هدفهم محو الإسلام.

ومن هنا إما أن يبدأ المسلمون، وإما أن يكون المسلمون هم البادئين.

الصورة الأولى: إذا بدأ الكفار الحرب مع المسلمين، فالواجب حَرَبهم مع المكنة بلا خلاف ولا إشكال، بل هذا الحكم كالضروري، فيجب الدفاع، فهذا جهاد دفاعي ولا إشكال ولا ريب فيه.

الصورة الثانية: إن كف الكفار عن البدء بقتال المسلمين، فهنا أيضًا يجب على المسلمين قتال الكفار بحسب المكنة، نظرًا لتعاضد الكتاب الكريم والسنة، والمعلوم من سيرة صلى الله عليه وآله والتابعين من شدة المواظبة والحث عليه، حتى تكرر ذلك منه صلى الله عليه وآله وهو في حال النزع والاحتضار، فقال: "نفذوا جيش أسامة، لعن الله من تخلف عن جيش أسامة"[8] ، وكان قد جهز الجيش لقتال الروم.

يراجع الإرشاد للمفيد[9] .

إذ تشترط المكنة في كلا قسمي الجهاد: الجهاد الابتدائي والجهاد الدفاعي، لكن المكنة في الجهاد الدفاعي بمعنى القدرة على دفع الكفار وردهم وكف أذاهم، وأما المكنة في الجهاد الابتدائي فهي بمعنى القدرة على قهر الكفار للإسلام أو القيام بشروط الذمة، إن كانوا من أهلها، وإلا فالقتل.

قال صاحب الشرائع رحمه الله: "وأقله في كل عام مرة"[10] .

وقد ذكر هذا الحكم غير واحد مستدلين عليه بقوله تعالى:

﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ﴾[11]

لكن الصحيح عدم تقييد وجوب الجهاد بخصوص سنة أو سنتين، فقد تجب الزيادة نظرًا لوجود الحاجة، كخوف قوة العدو، وأدائه إلى ضعف المسلمين، وقد يجوز تركه لسنة أو سنتين لوجود عذر، كأن يكون في المسلمين ضعف في العدد أو العدة أو حصول مانع.

فالصحيح إيكال تشخيص ذلك إلى ولي أمر المسلمين، فهذا يخضع للسياسة، فمن يتولى شؤون المسلمين كولي الأمر هو الذي يستطيع أن يشخص وجود المكنة من عدمها.

ومن هنا إذا اقتضت المصلحة للإسلام والمسلمين مهادنة الكفار جاز، بل قد يجب لكن لا يتولى المهادنة إلا إمام المسلمين أو من يأذن له بالخصوص، فقد صالح النبي صلى الله عليه وآله في صلح الحديبية.

وقيل إن أقصى مدة صلح النبي صلى الله عليه وآله عشر سنين، كما في سنن البيهقي[12] . والسيرة النبوية لابن هشام، جزء ثلاثة، صفحة ثلاثمائة واثنين وثلاثين، والكامل في التاريخ[13] ، وتاريخ الطبري[14] ، والمغني لابن قدامة[15] ، والشرح الكبير، الجزء العاشر، صفحة خمس مئة وستة وسبعين.

بل قيل في المسالك إن النبي صالح قريشًا عشرين سنة حتى نقضوا العهد[16] .

لكن المعروف أن أقصى مدة صلح للنبي كانت عشر سنين.

هذا تمام الكلام في الطرف الأول في بيان الطوائف الثلاث التي تقاتل وكيفية قتالهم من البدء أو الدفاع.

 

الطرف الثاني: في كيفية قتال أهل الحرب، فلو قرر ولي أمر المسلمين قتال الكفار المشركين أو أهل الكتاب أو البغاة، فما هي كيفية قتالهم؟

الأولى أن يبدأ بقتال من يليه كما في شرائع الإسلام[17] ، وفي كتب أخرى ينبغي للإمام أن يبدأ بقتال من يليه من الكفار، إلا أن يكون الأبعد أشد خطرًا، كما في تحرير الأحكام للعلامة الحلي[18] ، وقواعد الأحكام[19] ، ومنتهى المطلب[20] ، وما حُكي عن السرائر لابن إدريس[21] .

وتعبير المحقق الحلي بـ"الأولى" وتعبير العلامة الحلي في كتبه الثلاثة وابن إدريس في السرائر "ينبغي" يدل على الاستحباب، ويمكن إرادة الوجوب من قولهم "ينبغي"، كما هو ظاهر المحقق الحلي في "المختصر النافع"[22] ، والعلامة الحلي في "إرشاد الأذهان"[23] ، و"تذكرة الفقهاء"[24] ، والشهيد الأول في "الدروس الشرعية"[25] ، والشهيد الثاني، والشهيد الأول أيضًا في "اللمعة الدمشقية"[26] ، وابن حمزة في "الوسيلة"[27] ، و"الجامع للشرائع"[28] ليحيى بن سعيد، والشهيد الثاني في "الروضة البهية"[29] .

بل صرح بالوجوب المحقق الكركي في "فوائد الشرائع"[30] ، و"جامع المقاصد"[31] .

كما صرح بالوجوب الشهيد الثاني في "مسالك الأفهام"[32] .

ولعل مستندهم التمسك بظاهر قوله تعالى:

﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ﴾[33]

وصيغة الأمر "قاتلوا" تدل على الوجوب، وقد يناقش في ذلك بأن الأمر بمقاتلتهم غير الأمر بالبدء بقتالهم، فتبقى العمومات حينئذ على حالها.

والصحيح أن الآية ليست في مقام بيان الوجوب، بل إرشاد إلى أمر عقلائي، وهو أن الإنسان يبدأ بدفع الخطر القريب قبل الخطر البعيد، فالأولى هو قتال الكفار الذين يلون المسلمين وبالقرب منهم، وهذا لا يتنافى مع فرض آخر، وهو لو وجد كافر بعيد وهو أشد خطراً من الكافر القريب، فحينئذ يتعين البدء بقتال الكافر البعيد، فالآية أمرت بالبدء بقتال كافر قريب، لأن الكافر والعدو القريب أشد خطرًا عادة، وخطره أقرب من البعيد.

لذا صرح جمع من الفقهاء بأنه إذا كان الأبعاد أشد خطرًا وأكثر ضرراً بدء به، وقد صرح بهذا الأمر العلامة الحلي في "قواعد الأحكام"[34] ، و"تذكرة الفقهاء"[35] ، و"إرشاد الأذهان"[36] .

وكذلك صرح بذلك الشهيد الأول في "الدروس الشرعية"[37] ، و"اللمعة الدمشقية"[38] ، والشهيد الثاني في "الروضة البهية"[39] .

وكذلك الشيخ الطوسي في "المبسوط"[40] ، ويحيى بن سعيد في "الجامع للشرائع"[41] ، والمحقق الأردبيلي في "مجمع الفائدة والبرهان"[42] .

بل قد دعي الإجماع على ذلك، قال صاحب الجواهر رحمه الله: "بل لا أجد فيه خلافاً"[43] ، ولذا أغار النبي صلى الله عليه وآله على الحارث بن أبي ضرار لما بلغه أنه يجمع له، وكان بينه وبينهم عدو أقرب من ذلك، وكذلك فعل بخالد بن سفيان الهزلي.

وتراجع غزوات النبي وقتال النبي لهذين في ، و"مجمع الزوائد"[44] ، و"فتح الوارد"[45] ، و"عمدة القاري في شرح صحيح البخاري"[46] ، هذا بالنسبة إلى قتال الحارث بن أبي ضرار.

وكذلك بالنسبة إلى قتال خالد بن سفيان الهزلي، يراجع "سنن داود"[47] ، و"سنن البيهقي"[48] ، و"مجمع الزوائد"[49] ، و"المغني"[50] لابن قدامة، و"تفسير ابن كثير"[51] ذيل الآية مئتين وتسعة وثلاثين.

إذن إذا كان العدو الأبعاد هو أخطر، وجب قتاله خصوصًا إذا كان الأقرب مهادنًا والأبعد معاديًا، كما صرح به غير واحد من الفقهاء، كالعلامة في "التحرير"[52] ، والشهيد الأول في "الدروس"[53] ، والمحقق الكركي في "فوائد الشرائع"[54] ، كذلك الشهيد الثاني في "المسالك"[55] .

كذلك لو منع مانع من قتال الأقرب، وأمكن قتال الأبعد، فحينئذ يجب قتال الأبعد دون الأقرب.

والخلاصة: تجب مراعاة المصلحة، وهي مختلفة باختلاف الأحوال، ووفقًا للمصلحة يقاتل الأقرب، إلا إذا كان الأبعد أشد خطرًا، فهذا من أحكام السياسة وتشخيص المصلحة التي ترجع إلى نظر إمام المسلمين أو مأدونه.

ومن هنا يقع الكلام في ضرورة التربص للعدو، تفصيل ذلك يأتي عليه الكلام.


[30] يراجع موسوعة آثار المحقق الكركي، الجزء أحد عشر، صفحة ستة وستين، .
[45] فتح الوارد، الجزء السابع، صفحة ثلاثمئة وثلاث وثلاثين.
[54] فوائد الشرائع، موسوعة آثار الكركي، الجزء أحد عشر، صفحة ستة وستين، .
logo