46/10/14
الدرس (الثاني والسبعون): وجوب الهجرة عن بلد الشرك على من يضعف عن إظهار الإسلام
الموضوع: الدرس (الثاني والسبعون): وجوب الهجرة عن بلد الشرك على من يضعف عن إظهار الإسلام
[جواز جهاد الدعوة وقتال المشركين]
تطرقنا إلى القسم الأول من الجهاد وهو جهاد المشركين، المعبر عنه بالجهاد الابتدائي أو جهاد الدعوة أي قتال المشركين ابتداءً من دون سبق عدوان منهم من أجل دعوتهم إلى الإسلام إذا تمكن المسلمون من ذلك.
والسر في ذلك: أن الدعوة إلى الله والإسلام تصطدم بعقبة كؤود، وهي الحكام المشركون الذين يقفون في وجه الدعوة الإسلامية، ومن هنا فإنهم إذا يدعون إلى الإسلام، فإن أسلموا دخلوا في ذمة الإسلام وأصبحوا مسلمين، وإن رفضوا قوتلوا حتى يسلموا.
[بحث إستطرادي وهو حكم الهجرة من بلاد الشرك]
وبعد أن تطرق المحقق الحلي في شرائع الإسلام[1] إلى حكم جهاد المشركين غير الكتابيين، تطرق استطرادًا إلى حكم الهجرة من بلاد الشرك، فمن يعيش في بلاد الكفر، هل يجوز له البقاء في دول الكفر أو لا؟
وتعورف عليه في زماننا من طلب اللجوء السياسي أو الإنساني إلى أوروبا وأمريكا وغيرها من بلاد الكفر، هل يجوز طلب اللجوء أو لا؟
وإذا خالف وذهب إلى بلاد الكفر، هل يجوز له البقاء في دول الكفر والشرك أو لا؟
في هذه المسألة صور:
الصورة الأولى: ألا يتمكن من إظهار شعار الإسلام من الأذان والصلاة والصوم والحج وغير ذلك، سمي ذلك شعارًا لأنه علامة عليه، أو مما هو الثوب الملاصق للبدن، فاستعير للأحكام اللاحقة للدين، فإذا لم يتمكن من الصلاة وأداء الواجبات في بلاد الكفر كما لو كان البلد شيوعيًا أو ملحدًا يحارب الدين ويمنع المحجبات من لباس الحجاب وما شابه ذلك.
[وجوب الهجرة]
فحينئذٍ يجب على المسلم أن يهاجر من بلاد الكفر والشرك، بل ربما يدعى الإجماع على وجوب الهجرة من بلاد الشرك.
قال صاحب الجواهر في جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام[2] ، "بلا خلاف أجده فيه بين من تعرض له" أي لحكم هذه المسألة "كالفاضل والشهيدين وغيرهم"، فما هو الدليل على وجوب الهجرة من بلاد الكفر إذا امتنع أو تعذر عليه إظهار شعار الإسلام؟
والدليل: التمسك بالآيات المباركة كقوله تعالى:
الآية الأولى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا : كُنّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ، قالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها ، فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً ، فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ ، وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً﴾.[3]
الآية الثانية: قوله تعالى:
﴿يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيّايَ فَاعْبُدُونِ﴾[4]
لكن هذا الاستدلال يتم بناءً على كون المراد به الإشارة إلى الهجرة عن المكان الذي لا يتمكن فيه من العبادة.
الآية الثالثة: التمسك بقوله تعالى:
﴿وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ﴾[5]
الآية الرابعة: قوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقاً حَسَناً ، وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ خَيْرُ الرّازِقِينَ﴾[6]
الآية الخامسة: قوله تعالى:
﴿وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً ، وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ، الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾[7]
فقد ذكر صاحب الجواهر رحمه الله هذه الآيات الخمس وعقبها بقوله: "وغير ذلك مما على طلب المهاجرة من الكتاب والسنة كالنبوي: من فر بدينه من أرض إلى أرض وإن كان شبر من الأرض استوجب الجنة وكان رفيق أبيه إبراهيم ونبيّه محمد صلى الله عليه وآله."[8] [9]
أقول: يكفي في وجوب ذلك الآية الأولى ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ﴾ ، كما أن وجوب الهجرة من بلد الشرك الذي يفقد فيه دينه يكون موافقًا للقواعد وموافقًا للصناعة، فلا شك ولا ريب في وجوب ذلك، لذا قال في الجواهر: "والأصل فيه بعد معلومية إيجاب النبي صلى الله عليه وآله لها"[10] أي للهجرة.
نعم تجب الهجرة مع المكنة لا مع عدم التمكن، إذ يستحيل التكليف بغير المقدور، وربما يدعى الإجماع على اشتراط وجوب الهجرة بالمكنة. لذا قال في الجواهر: "بلا خلاف أجده" أيضًا لما سمعته من ظاهر الآية المؤيد بنفي الحرج وغيره من العقل والنقل.
إذاً من لا يتمكن تشمله قاعدة "ما جعل عليكم في الدين من حرج، والمراد بالحرج المشقة الشديدة التي لا تتحمل عادة، كما لو كان شيخًا كبير السن لا يقوى على السفر، ولربما يموت في الطريق، فهذا لا يجب عليه الهجرة.
هذا تمام الكلام في الصورة الأولى، وهي وجوب الهجرة إذا ضعف عن إظهار شعار الإسلام.
وقد صرح بهذه الصور الثلاث العلامة الحلي في المنتهى[11] ، فقال:
الناس في الهجرة على أقسام ثلاثة:
أحدها من تجب عليه، وهو من أسلم في بلاد الشرك وكان مستضعفًا فيهم لا يمكنه إظهار دينه ولا عذر له مرض ونحوه.
الثاني من لا تجب عليه لكن تستحب له، وهو من أسلم في بلاد الشرك أو كان فيها ويمكنه إظهار دينه لعشيرة تمنعه أو غير ذلك، فإنها لا تجب عليه كما صرح به جماعة، بل لا أجد فيه خلافًا للأصل وظاهر الآية أيضًا وغيره، ولكن يستحب له كما صرح به جماعة تجنبًا لهم عن تكثير عددهم وعن معاشرتهم، اللهم إلا أن يكون في بقائه مصلحة للدين، فالبعض قد يبقى في أوروبا أو أمريكا لتبليغ الدين، لكن من دون أن يفقد دينه، قد يحافظ هو على دينه ولكن يفقد دين أولاده أو أحفاده، ففي هذه الحالة البقاء مشكل.
الثالث من لا تجب عليه ولا تستحب له، وهو من كان له عذر يمنعه عنها من مرض ونحوه مما أُشير إليه بقوله تعالى: ﴿إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجٰالِ وَ النِّسٰاءِ وَ الْوِلْدٰانِ﴾[12] .
نعم، إذا تجددت له القدرة وجب عليه الخروج والهجرة من بلاد الشرك.
[رحلة إلى لندن]
أذكر يوم رحت لندن، لعله عام ألفين وتسعة، مجالس محرمة، قالوا: ابق بعدها، قلت: ﴿رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا﴾[13] يصعب على المؤمن أن يبقى هناك، قد يحافظ على كثير من العوائل التي ذهبت، بعضهم حتى معممين، طلق زوجته أو تطلقت منه، خسر زوجته، خسر أولاده إلا القليل، نعم البعض قد يتوجه إلى تكليف خاص إذا أمكن أن يحافظ على دينه وعلى دين أولاده وأحفاده وأن ينشر الدين والمذهب في أوروبا وأمريكا، فحينئذٍ قد يجب عليه.
هذا تمام الكلام في بيان الصور الثلاث للهجرة من بلاد الكفر.
والهجرة باقية ما دام الكفر باقياً، كما صرح بذلك العلامة الحلي والشهيد الأول والشهيد الثاني والمحقق الحلي، قال صاحب الجواهر: "بل لا أجد فيه خلافاً بيننا، بل ظاهر المسالك انحصار المخالف في بعض العامة"[14] .
إشكال: وهنا قد يتوجه إشكال وهو التمسك بالحديث الذي مفاده "لا هجرة بعد الفتح"[15] ، فكيف يسوغ للمسلمين الهجرة إلى بلاد الشرك والكفر بعد فتح مكة؟
وفيه: أولاً: لم يثبت هذا الحديث من طرق على الإمامية، وثانياً: هو معارض بالحديث الآخر، وهو قوله صلى الله عليه وآله: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها"[16] هذا كناية عن الاستمرار، وحينئذٍ لا بد من حمل النبوي "لا هجرة بعد الفتح" على بعض المحامل.
[المحملان للنبوي "لا هجرة بعد الفتح"]
المحمل الأول: إرادة نفي الهجرة عن خصوص مكة، لصيرورة مكة بالفتح بلد الإسلام، فلا هجرة بعد الفتح، يعني لا هجرة لأهل مكة بعد أن فتحها النبي صلى الله عليه وآله، يعني أهل مكة هاجروا إلى المدينة المنورة لظلم مشركي قريش، وبعد الفتح أصبحت مكة بلد إسلام فانتفت الهجرة الأولى، كان هناك هجرات إلى الطائف، ثم هجرة إلى الحبشة، والهجرة الثالثة من مكة إلى المدينة، فانتفت هذه الهجرة، ثلاث هجرات فهاجر المسلمون من مكة لظلم مشركي قريش، وبعد أن فتح النبي مكة وأطلق زعماء قريش، فحينئذ انتفت الهجرة، هذا المحمل الأول، وليس المراد أن أهل مكة اليوم أيضاً لا يجوز لهم أن يهاجروا، الكلام هنا هو أن الهجرة انتفت بعد فتح مكة.
المحمل الثاني: إرادة نفي الكمال، على نحو قوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ﴾[17] ، ويمكن ذكر محامل أخرى، لكن من الواضح أنه لا تحرم الهجرة بعد فتح مكة.
هذا تمام الكلام في وجوب الهجرة عن بلد الشرك والكفر.
سؤال: فهل تجب الهجرة أيضاً عن بلاد المخالفين؟ كما لو عاش الشيعي الإمامي الاثنا عشري في بلد يحكمه أهل السنة أو بعض الوهابية، فهل يلحقه حكم وجوب الهجرة من بلاد الكفر أو لا؟
نقل عن الشهيد إلحاق بلاد الخلاف التي لا يتمكن فيها المؤمن من إقامة شعار الإيمان، فتجب عليه الهجرة إلى مع الإمكان إلى بلد يتمكن فيها من إقامة ذلك، واستحسن هذا القول المحقق الكركي، لكنه قال: "الظاهر أن هذا إنما يكون حال وجود الإمام عليه السلام وارتفاع التقية، أما مع غيبته وبقاء التقية، فهذا الحكم غير ظاهر، لأن جميع البلاد لا يظهر فيها شعار الإيمان، ولا يمكن إنفاذها إلا بالمسارة، وإن تفاوتت في ذلك.[18] "
والصحيح عدم إلحاق بلاد الخلاف ببلاد الكفار، وهذا يظهر من النصوص الواردة في الحث على التقية والترغيب فيها، وهي إنما تكون في بلاد يكثر فيها أهل الخلاف، حتى ورد: " من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول اللّه (صلى اللّه عليه و آله و سلّم) في الصف الأول.[19] "
فالنصوص الواردة في الأمر بحسن المعاشرة والمصاحبة مع أهل السنة والخلاف، وعيادة مرضاهم وتشييع جنائزهم، كما أن السيرة المستمرة الدالة على كثرة ممارسة ذلك وجوارهم، فهذا يدل على عدم وجوب الهجرة من بلاد الخلاف في زمن الغيبة.
نعم، لو خاف على نفسه من القتل مثلاً، فهذا شيء آخر، هنا يجب أن يهاجر لحفظ نفسه، لكن إذا أمكنه أن يحفظ نفسه وأن يقوم بشعائر الإيمان تقية وخفية، فحينئذٍ لا يجب عليه أن يهاجر من بلاد الخلاف، لأن زماننا زمان تقية.
والذي يظهر من قولهم "إظهار شعار الإسلام" أن المراد به هو عدم المعارضة والأذية من العمل على ما يقتضيه دينه في واجب أو فرض، فلو أمكن للمرأة أن تتحجب وأمكنه أن يصلي وأن يذهب إلى الحج وأن يصوم ولم يعترض عليه، فإذا تمكن من أداء واجباته، فهذا لا يصدق عليه أنه لم يتمكن من إظهار شعار الإسلام، والله العالم.
هذا تمام الكلام في حكم الهجرة.
يبقى الكلام في المرابطة ولواحقها، وسيأتي عليها الكلام.