46/08/17
الدرس (الواحد والسبعون): تفصيل في مشروعية جهاد المشركين
الموضوع: الدرس (الواحد والسبعون): تفصيل في مشروعية جهاد المشركين
[تفصيلات ثلاثة في مشروعية الجهاد ضد المشركين]
اتضح وجوب جهاد المشركين ومشروعية الجهاد الابتدائي، ويقع الكلام في تفصيلات ثلاثة:
الأول عدم مشروعية الجهاد الابتدائي تحت لواء الحاكم الظالم وبأمره وإذنه.
الثاني اشتراط إذن الإمام المعصوم أو ممثله الخاص في وجوب الجهاد الابتدائي في عصر الحضور.
الثالث كفاية إذن الفقيه الجامع للشرائط المتصدي للولاية في مشروعية الجهاد الابتدائي في عصر الغيبة الكبرى وعدم اشتراط حضور المعصوم أو نائبه الخاص.
هذه النقاط الثلاث قد تناولناها بالتفصيل، خصوصاً ما يتعلق بإناطة مشروعية الجهاد الابتدائي في عصر الغيبة الكبرى بإذن الإمام المعصوم.
[اشتراط حضور المعصوم في الجهاد الإبتدائي والمناقشة فيه]
فقد ذهب المشهور إلى اشتراط إذن الإمام المعصوم أو نائبه الخاص في الجهاد الابتدائي، وعدم مشروعية الجهاد الابتدائي في عصر الغيبة فهو من مختصات الإمام المعصوم عليه السلام.
وقد ناقشنا الأدلة هنا وذهبنا إلى أنها لا تنهض باشتراط ذلك، وفاقاً لسيد أساتذتنا السيد أبو القاسم الخوئي أعلى الله في الخلد مقامه فقد ذهب في منهاج الصالحين، في باب الجهاد[1] إلى عدم اشتراط حضور المعصوم عليه السلام، إذ استدل بوجهين:
[خلاصة أدلة المشهور والمناقشه فيها]
الأول وهو الإجماع ولم يثبت.
والثاني الأخبار، وهي لم تبلغ درجة الصحة مع معارضتها لعموم الآيات الآمرة بجهاد المشركين والدالة على مشروعية الجهاد الابتدائي.
[تفصيل النقاط الثلاث في جهاد المشركين على وجه الإيجاز]
ولنتطرق إلى هذه النقاط الثلاث بشكل موجز بما يسعه وقت درس اليوم.
النقطة الأولى: عدم مشروعية الجهاد بدعوة الحاكم الجائر
ويدل على ذلك:
الدليل الأول: الإجماع بقسميه: المنقول والمحصل، كما يقول صاحب الجواهر[2] .
وإذا نوقش في الإجماع فإنه يأتي الدليل الثاني:
الدليل الثاني: وهو التمسك بالروايات الشريفة، وقد دلت مجموعة وطائفة من النصوص على ذلك، منها ما هو صحيح السند ومنها ما هو ضعيف السند، فيتم الاستدلال بالصحيحة وتأييد الضعيفة لذلك، فيثبت عدم مشروعية الجهاد مع الكافرين.
من هذه الروايات رواية بشير الدهان عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "قلت له إني رأيت في المنام أني قلت لك إن القتال مع غير الإمام المفروض طاعته حرام، مثل الميت والدم ولحم الخنزير"، فقلت لي: "هو كذلك" فقال أبو عبد الله عليه السلام: "هو كذلك".[3]
[الإسناد ودلالة الحديث]
وقد تطرقنا إلى هذا الحديث ودلالته واضحة وتامة، إنما الكلام في السند ويمكن تصحيحه، فبشير الوارد في الرواية هو بشير الدهان بقرينة رواية سويد القلاء عنه، وهو من ثقات صفوان بن يحيى بياع السابري،إذ روى بسند صحيح عنه صفوان بن يحيى بياع السابري، في الخصال للصدوق[4] ، وبصائر الدرجات للصفار[5] .
ونحن نبني على وثاقة من روى عنه الثلاثة، أحد الثلاثة الذين لا يروون ولا يرسلون إلا عن ثقة، وهم صفوان بن يحيى، ومحمد بن زياد، وهو محمد بن أبي عمر، وأحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي.
وسويد القلاء هو سويد بن مسلم شهاب القلاء، وثقه أبو العباس في الرجال كما قال النجاشي[6] ، والعلامة في خلاصة الأقوال[7] .
[المناقشة في سند الرواية ودلالتها والجواب عنها]
المناقشة في السند: لكن يمكن المناقشة في هذه الرواية من جهة السند والمتن، فقد يقال إن بشير الدهان إمامي مجهول وكذلك الراوي عنه، وهو سويد القلاء.
وفيه: لكن يمكن توثيق بشير الدهان برواية صفوان عنه على مبنانا، كما أن سويد القلاء وثقه أبو العباس كما قال النجاشي.
المناقشة في الدلالة: كما ناقش بعضهم في الدلالة، وقال إن هذه الرواية كررت فيها الإمام عليه السلام ما ينقله بشير في منامه، وهو غير ظاهر في كونه في مقام الجواب وبيان الحكم الشرعي.
وفيه: وهذه المناقشة ليست في محلها، إذ أن جواب الإمام عليه السلام واضح في التقرير والإمضاء، فيمكن تصحيح هذه الرواية، فيتم الاستدلال بها سنداً ودلالة على المطلوب.
الرواية الثانية: رواية عبد الملك بن عمر قال لي أبو عبد الله عليه السلام: "يا عبد الملك ما لي لا أراك تخرج إلى هذه المواضع التي يخرج إليها أهل بلادك؟" قال: "قلت وأين؟" قال: "جدة وعبادان والمصيصة وقزوين"، فقلت: "انتظاراً لأمركم والاقتداء بكم"، فقال: "إي والله لو كان خيرا ما سبقونا إليه". قال: "قلت فإن الزيدية يقولون ليس بيننا وبين جعفر خلف إلا أنه لا يرى الجهاد"، فقال: "أنا لا أراه؟! بلى والله إني لأراه، ولكن أكره أن أدع علمي إلى جهلهم".[8]
والحكم ابن مسكين وإن لم يرد توثيقه بالخصوص، لكنه من ثقات ابن أبي عمير، فيمكن توثيقه لرواية ابن أبي عمير عنه.
نعم، جاء في الرواية "عبد الملك بن عمر"، وهو مجهول ولم يرد فيه توثيقه، فتكون الرواية غير تامة من ناحية السند فلا يتم الاستدلال بها، ويمكن جعلها مؤيدة للرواية الأولى.
الرواية الثالثة: رواية الشيخ الصدوق في علل الشرائع عن أبيه عن سعد عن محمد بن عيسى عن القاسم بن يحيى عن جده الحسن بن راشد عن أبي بصير عن أبي عبد الله عن آبائه عن أمير المؤمنين عليه السلام: "لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم ولا ينفذ في الفيء أمر الله عز وجل، فإنه إن مات في ذلك المكان كان معيناً لعدونا في حبس حقنا والإشاطة بدمائنا، وميتته ميتة جاهلية".[9]
طبعاً، هذه الرواية صريحة في عدم جواز الخروج مع من لا يؤمن على الحكم ودلالته واضحة جداً، لكن الكلام في القاسم بن يحيى بن الحسن بن راشد، فقد يقال إنه لم يرد فيه توثيق، لكن روى عنه ابن قولويه في كامل الزيارات، ونحن نبني على وثاقة خصوص الرجال المباشرين الذين روى عنهم ابن قولويه في كامل الزيارات.
[المباني الثلاث للخوئي ره في وثاقة رواة كامل الزيارات:]
وقد عدلنا عن مبنانا السابق، فكنا لا نرى الوثاقة لا للمباشرين ولا لغير المباشرين، هذا مبنانا السابق مبنى السيد الخوئي الأقدم، السيد الخوئي عنده ثلاثة مباني:
المبنى الأول: في أوائل الشباب كان يرى عدم استفادة التوثيق لا للمشايخ المباشرين ولا لغير المباشرين، وكنا نبني عليه.
المبنى الثاني: ثم عدل عنه إلى وثاقة جميع الرواة الواردين في كامل الزيارة، سواء كانوا مشايخ مباشرين لابن قولويه أو غير مباشرين.
المبنى الثالث: ثم عدل في آخر عمره إلى استفادة وثاقة خصوص المشايخ المباشرين. فنحن عدلنا ونبني على المبنى الثاني أنه وثاقة خصوص المشايخ له الذي هو المبنى الثالث والآن يعني سابقاً كنا لا نرى الجميع، الآن خصوص المشايخ المباشرين، تفصيل ذلك في بحث الرجال.
الرواية الرابعة: ما رواه محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم عن عثمان بن عيسى عن سماعة عن أبي عبد الله قال: لقي عباد البصري علي بن الحسين في طريق مكة فقال له: يا علي بن الحسين، تركت الجهاد وصعوبة وأقبلت على الحج ولينه إن الله عز وجل يقول﴿إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ فقال علي بن الحسين عليه السلام: "أتم الآية". فقال: ﴿التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾. فقال: علي بن الحسين عليه السلام إذا رأينا هؤلاء الذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج.[10]
وهذه الرواية واضحة الدلالة، لكن في سندها عثمان بن عيسى، فإذا قلنا إنه من أصحاب الإجماع، الذين قال فيهم الكشي: " أجمعت العصابة على تصحيح ما يصح عنهم "، يراجع رجال الكشي[11] ، فحينئذٍ يمكن تصحيح هذه الرواية.
ولكن الروايات بهذا المضمون كثيرة وعديدة، ذكر منها صاحب الوسائل عشرة أحاديث في الباب 12 من أبواب جهاد العدو.[12]
فهذا الحكم، وهو عدم جواز القتال تحت لواء الظالم، مما لا غبار عليه، وقد جاء في بعض الروايات أنه يقاتل لحفظ بيضة الإسلام، فهو يقاتل إما دفاعاً عن نفسه أو لحفظ بيضة الإسلام، وهذا قد مضى الكلام فيه.
مثل هذه الرواية عن يونس، قال: "سأل أبا الحسن رجلً وأنا حاضر"، إلى أن قال: "فليرابط ولا يقاتل". قال: "مثل قزوين وعسقلان والديلم وما أشبه هذه الثغور"، فقال: "نعم". قال: "فإن جاء العدو إلى الموضع الذي هو فيه مرابط، كيف يصنع؟"، قال: "يقاتل عن بيضة الإسلام".
قال: "يجاهد"، قال: "لا، إلا أن يخاف على دار المسلمين إلا أن يقول: "يرابط ولا يقاتل، وإن خاف على بيضة الإسلام والمسلمين قاتل، فيكون قتاله لنفسه، ليس للسلطان"، لأن في دروس الإسلام دروس ذكر محمد صلى الله عليه وآله.[13]
ويمكن مراجعة الباب السادس من الوسائل من أبواب جهاد العدو، فهي في هذا السياق وهذا المعنى.[14]
هذا تمام الكلام في النقطة الأولى.
النقطة الثانية: اشتراط وجوب الجهاد بدعوة الإمام المعصوم أو نائبه الخاص.
وقد تطرقنا إليها بالتفصيل فيما سبق وناقشناها سنداً ودلالة، واتضح أنها لا تدل على ذلك، كما أن الإجماع المدعى لم يثبت، وذكرنا كلام السيد الخوئي هنا وذكرناه هناك بالنص وبالتفصيل.
ويستفاد منها أن مشروعية القتال في عصر حضور المعصوم منوط بإذن الإمام المعصوم أو نائبه الخاص، فالقدر المتيقن منها أنها ناظرة إلى زمن حضور الإمام المعصوم، وأما شمولها لعصر الغيبة ففيه كلام، ولم يثبت أنها تشمل عصر الغيبة، فهي خاصة بعصر الحضور، فلا تدل على المدعى، وتفصيل الكلام مضى.
النقطة الثالثة: وجوب الجهاد ومشروعيته في عصر الغيبة الكبرى.
ويمكن الاستدلال على ذلك بعدة أمور:
الأمر الأول: العمومات الآمرة بجهاد الكفار، وهي كثيرة في القرآن الكريم والسنة المطهرة، وهي غير مقيدة بزمن الغيبة، فيمكن التمسك بهذه العمومات.
الأمر الثاني: التمسك بالروايات التي تقدمت في النهي عن القتال تحت لواء الحاكم الجائر، فقد جاء في بعضها أن هذا منوط بأمر الإمام العادل أو نائبه الخاص، وأنه لا يشرع ذلك بالنسبة إلى الحاكم الظالم.
سؤال: وحينئذٍ نقول: هل تستفاد الخصوصية لزمن حضور المعصوم فلا تشمل عصر الغيبة، أو يفهم منها الإطلاق؟
الجواب: فإن فهم منها الإطلاق والعموم، فحينئذٍ لا تثبت مشروعية الجهاد الابتدائي في عصر الغيبة، وإن لم يفهم منها الإطلاق بل فهم منها الخصوصية، فحينئذٍ يمكن التمسك بأدلة ولاية الفقيه التي تجعل الشأن العام من صلاحيات الولي الفقيه في عصر الغيبة.
بل ادعى الشيخ الآصفي رحمه الله في كتاب الجهاد صفحة 71، أنه لو فرضنا انحصار مشروعية القتال في الإمام المعصوم أو نائبه الخاص، أمكننا أن نقول بحكومة أدلة ولاية الفقيه على أدلة انحصار مشروعية القتال في حضور وإذن الإمام المعصوم، لو ثبت دليل على هذا الانحصار.
أقول: دعوى الحكومة إنما تصح لو ثبتت النظر، وأن أدلة ولاية الفقيه ناظرة إلى أدلة الانحصار، وإذا كانت الأدلة تدل على الانحصار، فلا معنى لرفع هذا الانحصار، إذ رفعه يعني إلغاؤه رأسًا.
النتيجة النهائية: لم يثبت لدينا أن الأدلة تدل على الانحصار في عصر الغيبة، بل تدل على الانحصار في خصوص عصر الحضور، فتكفي عمومات الأدلة لإثبات مشروعية الجهاد الابتدائي، ولو ناقش أحد في العمومات، فإنه يمكن التمسك بعموم أدلة ولاية الفقيه، فيثبت جهاد المشركين والجهاد الابتدائي في عصر الغيبة.
هذا تمام الكلام في القسم الأول من الجهاد وهو جهاد المشركين.
القسم الثاني: جهاد أهل الكتاب يأتي عليه الكلام.