46/08/16
الدرس (السبعون): الوجوب الكفائي للجهاد
الموضوع: الدرس (السبعون): الوجوب الكفائي للجهاد
أثبتنا مشروعية الجهاد الابتدائي وجهاد المشركين، وبعد الفراغ عن وجوب جهاد المشركين، يقع الكلام في أن هذا الجهاد الواجب:
[وجوب الجهاد، واجب عيني أو كفائي؟]
هل هو واجب عيني أو كفائي؟ أي أن جهاد المشركين هل يجب على عموم المسلمين وأعيان المكلفين منهم أم أنه يجب بقدر الكفاية؟
[الأقوال ثلاثة]
ادعي الإجماع أن جهاد المشركين واجب بالوجوب الكفائي، لا العيني، ويوجد في مقابل ذلك قولان شاذان، فالأقوال ثلاثة:
القول الأول هو الوجوب الكفائي للجهاد.
القول الثاني هو الوجوب العيني للجهاد.
القول الثالث هو وجوب الجهاد على خصوص الصحابة ممن خوطب بآيات الجهاد دون غيرها.
والقول الثاني والثالث لا يعبأ بهما، فهما قولان شاذان، وسيأتي التطرق لهما.
والقول الصحيح هو القول الأول الذي لا منازع له، وهو أن وجوب جهاد المشركين واجب كفائي بالاتفاق، وعليه إجماع السنة والشيعة معاً.
قال الشيخ الطوسي في الخلاف[1] ما نصه: "الجهاد فرض على الكفاية، وبه قال جميع الفقهاء، وقال سعيد بن المسيب: هو فرض على الأعيان"، ثم ذكر الشيخ الطوسي الأدلة على كون الجهاد واجباً كفائياً، فقال: "دليلنا: إجماع الفرقة، وأيضاً الأصل: براءة الذمة"، والمراد بها براءة الذمة من الوجوب العيني، لأن الوجوب العيني وهذا النوع من الوجوب يحتاج إلى مؤونة زائدة، فننفيها بأصل البراءة الشرعية.
ثم قال: وأيضاً قوله تعالى: ﴿لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ- إلى قوله:- وَ كُلًّا وَعَدَ اللّهُ الْحُسْنى﴾، فدل على أن الجميع جائزٌ وإن كان الجهاد أفضل. والمراد بالجميع: القعود والقيام، فالقيام والجهاد أفضل، يعني القعود مفضول لكنه جائز.
ثم قال رحمه الله: "وروي عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال: "من جهز غازياً فقد غزى، ومن خلف غازياً في أهله فقد غزى"، فلو كان فرضاً على الأعيان لكان القاعد يستحق العقاب دون الثواب".
وقد نقل الإجماع على الكفائية، صاحب الجواهر أيضاً، بل ادعى الضرورة على كفائية وجوب الجهاد، فقال في شرح عبارة شرائع الإسلام ما نصه[2] : "نعم فرضه على الكفاية بلا خلاف أجده فيه بيننا، بل ولا بين غيرنا، بل كاد يكون من الضروري، فضلاً عن كونه مجمعاً، مضافاً إلى المعلوم من سيرة الرسول صلى الله عليه وآله وأصحابه، وقوله تعالى: ﴿لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجاهِدُونَ﴾[3] ، وقاعدة الحراج إلا ما يحكى عن سعيد بن المسيب، فأوجبه على الأعيان لظاهر قوله تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً﴾[4] .
ودعوى الضرورة أرقى من دعوى التسالم والإجماع، فهناك درجات من أدنها: نفي الخلاف، ثم تترقى إلى الإجماع، لكن إذا وصلت إلى درجة التسالم فهذا يكون أقرب إلى ماذا؟ إلى البداهة، فدرجة التسالم ودرجة الضرورة تشير إلى كون الشيء من البديهيات التي لا تحتاج إلى نقاش.
وتكمن الثمرة فيما لو قام من به الكفاية، فهل تجب على المسلمين الآخرين بعد انتفاء الحاجة إليهم إذا قام بالجهاد من به الكفاية؟ فمن يرى أن الجهاد واجبٌ عيني، فإن هذا الوجوب لا يسقط بقيام من به الكفاية، بخلاف من يرى أن الجهاد واجبٌ كفائي فإنه يسقط عن الآخرين بقيام من به الكفاية.
ويمكن الاستدلال على عينية الجهاد الابتدائي بأمرين:
الأول: التمسك بظاهر قوله تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾[5]
وهذا يدل على وجوب الخروج إلى الجهاد على الجميع، وعلى كل أحد، وهذا يعني أن جهاد المشركين واجب عيني.
الثاني: التمسك بالرواية النبوية التي رواها البيهقي في السنن الكبرى عن النبي صلى الله عليه وآله بسند فيه أبو هريرة، أن النبي صلى الله عليه وآله قال: "من مات ولم يغزو، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق[6] ".
وروى مسلم في صحيحه[7] هذه الرواية عن محمد بن المنكدر.
وقد تطرق الفاضل المقداد في كتابه "كنز العرفان"[8] ، إلى الاستدلال على عينية الجهاد الابتدائي بهذه الرواية، وقال بأنه ليس بدال على مطلوبهم.
يمكن المناقشة بهذه الأدلة، بل ادعى بعضهم الإجماع على عينية الجهاد الابتدائي.
وفيه أولاً: إن الإجماع معارض بإجماع منقول مثله. بل إن الدعوة المشهورة والمعروفة للإجماع هي على كفائية جهاد المشركين لا على عينيته.
وقد ذكر صاحب الجواهر رحمه الله هذه المطالب وناقشها، فقال رحمه الله في جواهر الكلام[9] ما نصه: "إلا ما يحكى عن سعيد بن المسيب، هذه حكاية عنه، فأوجبه على الأعيان لظاهر قوله تعالى: ﴿انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً ، وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ﴾، ثم قال: ﴿إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً﴾، والنبوي: "من مات ولم يغزو، ولم يحدث نفسه بالغزو، مات على شعبة من النفاق".
وفيه ما قيل من أن الآية منسوخة بظاهر قوله تعالى: ﴿وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ ﴾ ، إلى آخره، أو أنها في خصوص غزاة تبوك الذين استنفرهم النبي صلى الله عليه وآله فيها فتخلف فيها كعب بن مالك وأصحابه، فهجرهم النبي صلى الله عليه وآله حتى تاب الله عليهم.
أو أن المراد من الآية: الوجوب ابتداء، فإن الواجب الكفائي عندنا واجب على الجميع، وإن كان يسقط بفعل من يقوم به منهم، ولذا يعاقب الجميع بتركه، قال أمير المؤمنين عليه السلام في المروي عنه في دعائم الإسلام: "والجهاد فرض على جميع المسلمين لقول الله عز وجل: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ﴾. انتهى كلامه، زيد في علو مقامه.
والتحقيق:
أولا: أن دعوى الناس لا نسلم بها إذ أن القدر المتيقن من وقوع النسخ في القرآن الكريم هو آية النجوى، وما عداها فغير مسلّم.
وثانياً: هذه الآية الكريمة وغيرها إنما هي في مقام بيان أصل الجهاد، وليست ناظرة إلى خصوصية أخرى، وهي كونه واجباً عينياً أو واجباً كفائياً، فهي ناظرة إلى أصل النفر، يعني أصل ثبوت الوجوب للجهاد الابتدائي وللجهاد المشركين، ولعل هذا هو مراد صاحب الجواهر من قوله أن المراد من الآية الوجوب ابتداء، أي أصل تشريع الوجوب، فالآية الكريمة لا تدل على المدعى.
وأما الاستدلال بالرواية النبوية فهي ضعيفة السند بأبي هريرة الواقع في سندها، كما أن دلالتها ليست واضحة، إذ أن النبوي قد جعل للغزو عدلاً، وهما: من لم يحدث نفسه بالغزو، بحيث يصبح معنى النبوي هكذا: من مات ولم يكن غازياً أو مستعداً ومهيئاً نفسه للغزوٍ فقد مات على شعبة من النفاق.
يعني إما يغزو وإما يحدث نفسه بالغزو، ومن لا يحدث نفسه بالغزو يصدق على القاعد الذي لم يغزُ، فهذا المعنى لا يدل على الوجوب العيني، بل يدل على الوجوب الكفائي.
نعم، إذا لم يقم من به الكفاية، وجب على الجميع النفر للجهاد، فالواجب الكفائي هو الواجب الذي يتوجه إلى جميع المكلفين من المسلمين، لكنه يسقط عنهم إذا قام من به الكفاية.
والدليل على توجهه إلى جميع المكلفين: أنه لو لم يقم من به الكفاية استحق الجميع حينئذ العقاب.
هذا تمام الكلام في بيان القول الأول، وهو أن جهاد المشركين واجب كفائي.
وبيان القول الثاني وهو أن جهاد المشركين واجب عيني.
القول الثالث: إن الجهاد مختص بالصحابة لتوجه الخطاب إليهم، وقد ذكر الفاضل المقداد في كتاب الجهاد من "كنز العرفان في أحكام القرآن" صفحة 342 هذا القول ورده بالإجماع القائم على وجوبه على الجميع، وعموم قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا﴾، وقوله صلى الله عليه وآله: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة[10] ".
[القول بعدم الثمرة على نوع وجوب الجهاد والرد عليه]
ومن الغريب ما ذكر في كتب بعض المعاصرين من عدم ترتب ثمرة على القول بعينية الجهاد أو كفائيته، فقال رحمه الله ما نصه: "فإنه إن قام جماعة بالجهاد وحصل الغرض، سقط الوجوب كفائياً كان أم عينياً، وإن تركت هذه الفريضة، عوقب الجميع، كفائياً كان أم عينياً"[11] .
فما أفاده رحمه الله في المقطع الأخير تام، وهو أن فريضة الجهاد إذا تركت عوقب الجميع كفائياً كان أم عينياً، لأن الجهاد يتوجه إلى الجميع سواء قنعنا بالوجوب الكفائي أو بالوجوب العيني، فإذا تركه الجميع، استحقوا العقاب الجميع.
لكن الكلام فيما أفاده في المقطع الأول، إذ قال إن قام جماعة بالجهاد وحصل الغرض، سقط الوجوب كفائياً كان أم عينياً، ومن الواضح أن الوجوب يسقط بناءً على الوجوب الكفائي، لكنه لا يسقط بناءً على الوجوب العيني، إلا أن يحمل كلامه رحمه الله على تمامية الجهاد، أي أنه إذا قام من به الكفاية وتحقق الغرض وانتهى الجهاد، فحينئذ يسقط الوجوب العيني لأنه من باب سالبة بانتفاء الموضوع، إذ أن البعض قام من به الكفاية، قام بالجهاد، وانتهى أمر الجهاد، فهنا انتفى الموضوع فينتفي الحكم.
لكن الكلام فيما قبل فراغ من به الكفاية، فلو قام من بهم الكفاية وقاتلوا، واستمرت المعركة ولم تنتهِ، فبناءً على الوجوب العيني، لا يسقط الوجوب العيني على البقية الذين لم ينهضوا مع من بهم الكفاية.
هذا تمام الكلام في الجهاد الابتدائي جهاد المشركين، واتضح أنه واجب بالوجوب الكفائي، وقد ذكرنا مشروعية الجهاد الابتدائي، ولا تقتصر المشروعية على خصوص الجهاد الدفاعي.
[خلاصة الرأي في القتال]
[الآراء الثلاثة في القتال]
ولا بأس في الختام أن نذكر خلاصة الرأي في القتال في الإسلام، ويمكن أن تذكر آراء ثلاثة:
الرأي الأول: إن القتال له طابع دفاعي فقط، والدفاع بمعنى الدفاع العسكري، وهذا مذهب ابن تيمية.
يراجع كتاب "السياسة الشرعية" أو "نظام الدولة الإسلامية" لعبد الوهاب خلاف صفحة 138.
وممن ذهب إلى هذا الرأي المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين، إذ أنكر مشروعية الجهاد الابتدائي، واقتصر على خصوص مشروعية الجهاد الدفاعي.
الرأي الثاني: مشروعية الجهاد الابتدائي كمشروعية الجهاد الدفاعي، وبه قال المشهور وإليه نُميل، وقد ذكر في كتب العلماء القدماء والمتأخرين والمعاصرين، فقد ذكره العلامة الحلّي في "منتهى المطلب"[12] ، والشيخ محمد حسن النجفي في "جواهر الكلام"[13] ، وذكره أيضاً العلامة الحلّي في "القواعد"[14] .
الرأي الثالث: إن مهمة القتال ليست فقط رد العدوان كما في الرأي الأول وإنما هي صد العدوان أيضاً، فهناك تعميم للرد والصد، الرد ظاهر في الدفاع الفعلي، والصد ظاهر في الدفاع الشأني، فيشمل ما يسمى بالضربة الاستباقية، فلا ننتظر أن يباغتونا لكي نرد عليهم، بل يمكن الهجوم ابتداءً، لكن هذه الضربة الاستباقية ولصد العدوان، هذا غير الجهاد الابتدائي، فهذه ضربة استباقية، ولا ينحصر رد العدوان في رد العدوان فعلياً، بل يشمل رد العدوان شأناً.
وهذا قد يستفاد من آيات كريمة، كقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ﴾[15] ، وقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً﴾[16] .
هذا تمام الكلام في خلاصة الآراء الثلاثة، واتضح مشروعية هذه الأمور الثلاثة، أي الجهاد الابتدائي والجهاد الدفاعي بمعنى الصد، والجهاد الدفاعي بمعنى الرد، والله العالم.