« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

46/08/13

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (التاسع والستون): القول الثاني التمسك بقوله تعالى: (لا إكراه في الدين)

الموضوع: الدرس (التاسع والستون): القول الثاني التمسك بقوله تعالى: (لا إكراه في الدين)

المقام الثاني: التمسك بقوله تعالى:

﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾[1] ۚ

وهذه الآية من آية الكرسي تعارض آيات سورة براءة التي قد يفهم منها الجهاد الابتدائي، فهذه الآية تنفي الإكراه على الدين، والجهاد الابتدائي قتال فيه إكراه على الدين، فيكون مقتضى الجمع بين آية ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ وآيات الجهاد هو حمل الجهاد على خصوص الجهاد الدفاعي من دون عدوان، وعدم مشروعية الجهاد الابتدائي؛ إذ لا يصح أن نكره أحدًا على توحيد الله عز وجل ونرغمه بحد السيف على الدخول في الإسلام.

إذن، هذه الآية تقتضي نفي الجهاد والقتال الابتدائي في الإسلام، وأن الجهاد في الإسلام لا يشرع إلا دفاعًا، ولا يصح ابتداء.

ولمعالجة التعارض بين آية عدم الإكرام في الدين ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ وبين آيات سورة براءة وغيرها مما دل على وجوب الجهاد الابتدائي، لا بد من معرفة معنى هذه الآية ولا بد من تفسيرها، فعلى أساس تفسيرها أو المعنى الذي يُفهم منها يمكن معالجة هذا التعارض، ولنذكر ثلاثة معانٍ:

[ثلاثة معان لآية عدم الإكراه]

المعنى الأول: عدم الإكراه تكوينًا، فالله عز وجل خلق بعض المخلوقات وجبلها على جبلة خاصة كالملائكة فلا اختيار لها، بخلاف الإنسان فإن الله عز وجل قد خلقه لكنه جعل اختيار أمره بيده ولم يكرهه تكوينا على دين معين أو على شيء معين، بخلاف الملائكة، فقد خلقها الله، ومنها من هو ساجد ومنها من هو راكع، إلى آخره.

والدليل على هذا الفهم: وحدة السياق، خصوصًا فيما يسبق هذه الآية من آية الكرسي؛ فقد ذكرت عدة من الأمور التكوينية، ثم بعد آية "عدم الإكراه" فرَّعت ما يُستفاد منه أن الاختيار بيد الإنسان، مما يعني أنه ليس مكرها على اختياره.

لنقرأ سياق آيات آية الكرسي لنرى ذلك: قال تعالى:

﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾

هذا كل ناظر إلى عالم التكوين بإذن التكوين، الله له السماوات والأرض، وهو صاحب الإذن في الكون.

﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ إلى آخره.

يعلم تكويناً ليس تشريعًا، ثم الآية الكريمة، هكذا إلى أن تأتي هذه الآية: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، يعني أن الله عز وجل لم يخلق الإنسان مكرها تكوينًا على الدين كما خلق السماوات والأرض مكرها. فالله عز وجل لم يخلق الإنسان مكرها على الدين، ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾ ، أي وضح له سبيل الصلاح وسبيل عدم الصلاح. ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾، ﴿فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ﴾،

إذن هذا هناك اختيار لدى الإنسان،

﴿فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.

إذن، هذه الآية "عدم الإكراه في الدين" ناظرة إلى عدم الإكراه تكويناً على الدين، يعني الإنسان لم يُخلق مكرها على دين معين، بل له الاختيار.

وبناءً على هذا الفهم الأول، لا يوجد تعارض بين آية "عدم الإكراه في الدين" وآيات الجهاد الابتدائي.

المعنى الثاني: إن تعاليم الدين التشريعية ليست فيها إكراه وإجبار، والدليل على هذا الفهم هو التمسك بلفظ "في" الظاهر في الظرفي،. فالآية الكريمة لم تقُل "لا إكراه على الدين"، فلم تستخدم لفظ "على" الظاهرة في الاستعلاء، بل استخدمت لفظ "في" الظرفية فقالت ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، أي أن تعاليم الدين ليس فيها إكراه وإجبار، بل هي تعاليم اختيارية وليست تعاليم إجبارية.

[الفارق بين المعنى الأول والثاني]

والفارق بين المعنى الأول والمعنى الثاني هو أن المعنى الأول يحمل الإكراه على الإكراه التكويني، والمعنى الثاني يحمل الإكراه على الإكراه التشريعي، لكنه يرى عدم الإكراه في تعاليم الدين، وهذا لا يتنافى مع الإكراه على الدين، فهناك مصلحة في إكراه الكافر الجاهل بحقائق الدين التي ليس فيها إجبار، فيمكن إكراهه على الدين، لكن نفس تعاليم الدين ليست فيها إكراه، فبناءً على الفهم الثاني لا توجد معارضة، وينتفي التنافي.

المعنى الثالث: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ أي لا إكراه على الدين، فـ "في" الظرفية بمعنى على الاستعلائية، ولا يوجد إكراه على الدين. فهنا قد يُقال بوجود تنافٍ بين آية ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ التي تدل على عدم الإجبار على الدخول في الإسلام، وبين آيات الجهاد الابتدائي التي هي جهاد الدعوة؛ فيدعو الكافر إلى الدين، فإن أبى يُقتل، فهذا فيه إكراه وإجبار على الدين، فيقع التنافي.

والصحيح عدم وقوع التنافي بناءً على المعاني الثلاثة، أما المعنى الأول فواضح إذ هو ناظر إلى عدم الإكراه تكوينًا، وأما المعنى الثاني فظاهر أيضًا لأنه ناظر إلى عدم وجود إكراه في تعاليم الدين، وهذا لا يتنافى مع الإكراه على الدين.

وأما المعنى الثالث: ولعل العرف يفهمه من أن ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ أي لا إكراه على الدين.

والدليل على هذا الفهم الثالث: هو التفريع الذي حصل في الآية:

﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾.

إذن، المؤمن له اختياره والكافر له اختياره، فقد يتوهم وجود تنافي بشكل بدوي، لكن بعد التأمل ينتفي هذا التنافي.

والسر في ذلك إن آية عدم الإكراه على الدين ترتبط بالدعوة إلى التوحيد، وآيات الجهاد ترتبط بإزالة العقبة عن طريق التوحيد، فآية ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ تشير إلى أن الدعوة إلى الإسلام والتوحيد إنما تكون بالقناعة وإيجاد وخلق القناعة في نفس الطرف المقابل، لا من خلال رفع السيف فوق رأسه، كما يفهم البعض من آيات السيف وأخواتها في سورة براءة.

بينما آيات الجهاد هي في سياق القتال لرفع الفتنة والعقبة في طريق الدعوة إلى الله، وهذا واضح من سيرة الرسول الأعظم والأئمة عليهم السلام، إذ لم يذكر التاريخ أن النبي دعا إلى الإسلام ومن يرفض يُقتل، لكن ذكر لنا التاريخ أنه كتب كتبا إلى رؤساء الأمصار ومفادها: "أما بعد، فأسلم تسلم والسلام، فإن أَبَيتَ فعليك آثام"، ويذكر ديانته، مثلا: "فعليك آثام المجوس الوثنيين، فعليك آثام الأصنام".

ومن الواضح أن النبي قاتل الطواغيت والحكام الذين كانوا يشكلون عقبة في طريق الدعوة إلى الله، فيكون مقتضى الجمع هكذا: ﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾، إذ ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾

لكن إن وُجدت عقبات من العقبات كالطواغيت، فحينئذ تأتي هذه الآيات: ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ﴾[2] ،

ويأتي قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ ۖ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ﴾[3]

وقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾[4]

وقوله تعالى: ﴿فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ ۚ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ ۖ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا ۚ وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا﴾[5] .

فمن يتأمل في هذه الآيات يرى أن الغرض من القتال هو رفع الفتنة وأن يكون الدين لله، وأن يكف بأس الذين كفروا، وأن يردع أئمة الكفر، كما في قوله تعالى: ﴿فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ۙ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾[6] .

وهكذا في الآية الأخرى: ﴿فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ ۖ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾[7]

وهكذا لو تأملنا في آيات الجهاد الابتدائي، فإننا سنجد أن مفردة الكفر والقائمين عليها من شأنهم معادات الإسلام والاستمرار في هذه المعادات، فهم يشكلون عقبة كأوده أمام الدعم الإسلامي، فتكون هكذا نتيجة الجهاد: لا يوجد إكراه وإجبار على الدين بالسيف، فالدعوة إلى الله ندعو الكفار باللين، لكن إذا اصطدمنا في طريق دعوتنا بعقبة وفتنة تمنع من أن يكون الدين لله، فحينئذ ندعوهم إلى الإسلام أولاً، فإن أبوا فيكون القتال مشروعًا، فالقتال ليس موضوعه الدعوة، بل موضوعه رفع الفتنة في طريق الدعوة.

 

إذن، عندنا موضوعان: موضوع ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ (الدعوة إلى الدين والإسلام) وموضوع الجهاد الابتدائي (رفع الفتنة في طريق الدعوة).

وهذا ما ذهب إليه أيضًا المرحوم الشيخ الآصفي رحمه الله، في كتاب "الجهاد"، صفحة 53 وما بعده، إذ قال ما نصه: "أما الذي نفهمه نحن، فهو أن آية الإكراه من سورة البقرة تخص الدعوة إلى التوحيد، وأن آية السيف وأخواتها من سورة براءة تخص إزالة الفتنة عن طريق الدعوة إلى الله وتثبيت حاكمية الله على وجه الأرض، ومن المعلوم أن أئمة الكفر يعيقون عملنا في تأدية رسالة التوحيد إلى البشرية، وواجبنا بالمقابل يتحدد برفع الفتنة. "

إذن، نحن نقاتل لا لأجل إرغام الناس على التوحيد، والقتال الابتدائي الذي هو عبارة عن رفع الفتنة عن طريق الدعوة إلى توحيد الله عز وجل لا يعني بالتالي إرغام الناس على التوحيد، فآية ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ غير منسوخة بآيات القتال الابتدائي من سورة براءة، وإنما مهمة آيات براءة هو إزالة الفتنة وتثبيت حاكمية الله على وجه الأرض، وهو لا يتعارض مع آية ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ من سورة البقرة التي تخص الدعوة إلى الله.

وقد ذهب إلى هذا الرأي أيضًا سماحة آية الله الشيخ علي أكبر السيف المازندراني حفظه الله، فمن خلال المباحث معه والمناقشة في وجه رفع التعارض بين آية ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ وبين آية ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ حيث قال حفظه الله إن آية ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ تنفي الإكراه، فلا يوجد إجبار على الدخول في الإسلام، وأما آية ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ فعائدة إلى رفع العقبة في طريق الدعوة إلى الله، إذ أن الطواغيت والحكام كانوا أكبر عقبة في طريق الدعوة إلى الله.

فهؤلاء يدعون إلى الإسلام، فإن أبوا فيقاتَلوا، وفرق بين مفردة القتل وبين مفردة القتال والجهاد، وكلامنا في الجهاد ومشروعية قتال الكفار، فمن قال إن أي فرد من الكفار يُدعى إلى الإسلام فإن أبى يُقتل، بل لا بد من دعوته بالحكمة والموعظة الحسنة حتى يقتنع، وأما آيات الجهاد الابتدائي فهي ناظرة إلى رفع الفتن والعقبة في طريق الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.

إذن، بناءً على الفهم الأول والثاني لا يوجد تعارض، وبناءً على الفهم الثالث يوجد تعارض بدوي يمكن رفعه بهذا التوجيه، وتوجد قرينة على الفهم الثالث من أنه لا يكره في الدين، يعني لا يُكره على الدين، وهي وجود آية أخرى مفسرة لهذه الآية، وهي قوله تعالى: ﴿أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ﴾[8] ، فهي واضحة في أن المراد بالإكراه هو إجبارهم على الإيمان والدخول في الإسلام، وفيها استفهام إنكاري.

إذن، وظيفة النبي الدعوة والتبليغ إلى الإسلام والتوحيد، وليس إجبار الناس على التوحيد، وموضوع الجهاد الابتدائي رافع العقبة في طريق الدعوة إلى توحيد الله، والله العالم.


logo