46/07/18
الدرس (الواحد والستون): الإمساك عن القتال حتى يبدأ الكفار به
الموضوع: الدرس (الواحد والستون): الإمساك عن القتال حتى يبدأ الكفار به
[إستحباب الإمساك عن القتال حتى يبدأ الكفار به]
من العناوين البارزة في كتابات الفقهاء في باب الجهاد استحباب أن لا يبدأ المسلمون القتال حتى يبدأ الكفار به.
وقد صرح أبو الصلاح الحلبي في الكافي[1] وابن زهرة في الغنية[2] والحلبي في إشارة السبق[3] بأنه ينبغي للمسلمين، بعد دعوة الكفار إلى الإسلام وامتناعهم من الاستجابة لها، أن يمسكوا عن قتال الكفار حتى يكون البادئ بالقتال هو الكفار ليحق عليه الحجة ويستوجب خذلان البارئ.
وظاهر الفقهاء استحباب ذلك وليس وجوبه.
[الغرض من استحباب الإمساك عن القتال]
ولعل الغرض من ذلك إثبات عدوانية الكفار عمليًا، وأن المسلمين لا يبدأون بالقتال وليس غرضهم من القتال الاستعلاء والتسلط بل غرضهم السلم والدعوة إلى الله.
لكن الملاحظ أن الفقهاء قد استندوا في هذا الحكم إلى روايات واردة عن أمير المؤمنين عليه السلام وسيرته في حرب البغاة، ولم يرد منها شيء في حروب الرسول صلى الله عليه وآله مع الكفار، فكيف أمكن تعدية الحكم من حرب البغاة إلى حرب الكفار، خصوصًا في الجهاد الابتدائي؟
[الدليل على إستحباب الإمساك عن القتال]
يمكن التمسك بخبرين:
الرواية الأولى: ما رواه محمد بن يعقوب الكليني قال في حديث عبد الرحمن بن جندب عن أبيه: " أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ص كَانَ يَأْمُرُ فِي كُلِّ مَوْطِنٍ لَقِينَا فِيهِ عَدُوَّنَا فَيَقُولُ لَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ فَإِنَّكُمْ بِحَمْدِ اللَّهِ عَلَى حُجَّةٍ وَ تَرْكُكُمْ إِيَّاهُمْ حَتَّى يَبْدَءُوكُمْ حُجَّةٌ لَكُمْ أُخْرَى "، إلى آخر الحديث.[4]
الرواية الثانية: قال الكليني: وفي كلام آخر له عليه السلام: " وَ إِذَا لَقِيتُمْ هَؤُلَاءِ الْقَوْمَ غَداً فَلَا تُقَاتِلُوهُمْ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فَإِذَا بَدَءُوا بِكُمْ فَانْهُدُوا إِلَيْهِمْ "[5] ، إلى آخر الحديث.
وهاتان الروايتان واردتان في قتال البغاة من أهل القبلة ولم يردا في قتال الكفار، والأمر سهل إذ أن الحكم هنا ترخيصي وهو الاستحباب، فيقال ينبغي أن لا تبدأ بالقتال، وهذا لا يعني أنه لا يجوز أن تبدأ بالقتال، فيجوز البدء بالقتال في قتال البغاة وقتال الكفار، لكن الأفضل أن لا تبدأ بالقتال.
توزيع القوى
بحث الفقهاء مسألة توزيع القوى العسكرية بحسب المبادئ العسكرية التي كانت سائدة في العصور الإسلامية الأولى، وقد استخدموا المصطلحات الرائجة في تلك الأزمان، وربما عبر بعضهم عن ذلك بصيغة الحكم الشرعي، الاستحباب وغيره، مع أنه ليس لذلك أثر في أخبار الجهاد. وهذه مجرد أمور تنظيمية وتدبيرية، وتختلف باختلاف الأزمان والأماكن.
نعم، ورد في القرآن الكريم الإشارة إلى صلاة الخوف عند القتال، فقد جاء في سورة النساء:
﴿وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا﴾[6]
وهذه الآية واردة في صلاة الخوف وكيفية صلاة الخوف، ويمكن أن تكون موضعًا للابتلاء في كل عصر وزمان، وقطع النظر عن نوع الأسلحة. ومع ذلك إذا أمكن الإتيان بالصلاة تامة الأجزاء والشرائط في حالة الخوف، وعدم الاضطرار إلى هذه الصلاة، فلابد من الإتيان بالصلاة العادية والمعروفة.
وإن حصل الخوف، فإن أمكن الإتيان بهذه الصلاة، فبها ونعمت، وإن لم يمكن الإتيان بالصلاة جماعة، فصلاة الخوف تُؤدى بالكيفية التي يمكن أن تُؤدى بها اضطرارًا، لأن الصلاة لا تسقط بحال، فقد تُؤدى بالإيماء والإشارة، وهذا خارج عن موطن بحثنا وهو بحث الصلاة وعدم سقوطها بحال، وبحثنا في كتاب الجهاد.
[الخلاصة]
لا توجد كيفية خاصة لتوزيع القوى، ففي القديم كانوا يقسمون الجيش إلى خمسة أقسام: المقدمة وجناحين، أما الآن، فيقسم الجيش إلى فرق، والفرق تقسم إلى ألوية، والألوية إلى سرايا، وغير ذلك من التشكيلات العسكرية. وهذه أمور تدبيرية، لا مانع منها.
[التعبئة الروحية]
ينبغي للقائد عند العزم على الشروع في القتال أن يستخير الله تعالى فيه هكذا ذكروا، ويدعو الله تعالى بالنصر، والاستخارة بالمعنى العام، إذ أن الهمزة والسين والتاء إذا دخلت على شيء، دلت على الطلب، فتقول استحمام أي طلب الحمام، وتقول استخارة أي طلب الخير من الله تبارك وتعالى، فالمراد من الاستخارة في القتال ليس الاستخارة بالقرآن والسبحة والتفاؤل واستخارة ذات الرقاع أي الكيفيات المخصوصة، بل المراد الدعاء والطلب من الله أن يحقق الخير للمسلمين فيما أقدموا عليه.
فلا بد للمسلم من تسليم الأمر إلى الله والتوكل عليه بأن يختار الله للمستخير ما فيه الصلاح والخير بالنسبة إلى العمل الذي يوشك أن يقع وأن يعمله، فإن كان خيرًا يسره الله وإلا صرف العبد عنه.
وهذا إشارة إلى التعبئة الروحية، وهي مطلوبة، فلا بد أن يحشد القائد همم المقاتلين ويستنفرهم للقتال، وقد أشار الفقهاء أنه ينبغي للقائد بعد أن يوزع قواته أن يجتهد في وصيتهم بتقوى الله والإخلاص في طاعته وبذل النفس في مرضاته، وتذكير المجاهدين بما لهم في ذلك من الثواب في الآجل، ومن الفضل والعزة وعلو الكلمة في العاجل، ويخوفهم الفرار ويذكرهم ما فيه من عاجل العار وآجل النار، كما قال السيد ابن زهرة في الغنية، خصوصًا إذا لاحظنا أن الجهاد من الواجبات العبادية التي يشترط فيها قصد القربة، وليس من الواجبات التوصيلية. فالجهاد عبادة، فلا بد أن يذكرهم بما يستحضرون معه قصد القربة إلى الله تعالى.
وذكروا أنه ينبغي أن يدعو عند اللقاء بدعاء النبي صلى الله عليه وآله الذي دعا به يوم غزوة أحد، وهو: "اللهم لك الحمد، وإليك المشتكى، وأنت المستعان"[7] .
ودعاء أمير المؤمنين عليه السلام، وهو: "اللهم أنت عصمتي وناصري وبغيتي، اللهم بك أصول وبك أقاتل"[8] ، ذكر ذلك ابن البراج في المهذب[9] .
ولا يفوتنا دعاء الحسين عليه السلام عندما برز للمقاومة في يوم عاشوراء فقال: " اللهم أنت ثقتي في كل كرب وأنت رجائي في كل شدة وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة كم من هم يضعف فيه الفؤاد وتقل فيه الحيلة ويخذل فيه الصديق وشمت فيه العدو أنزلته بك وشكوته إليك رغبة منى إليك عمن سواك "[10] [11] ، وما شابه لذلك من الأدعية.
"أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق"، "اللهم عافني في يومي هذا، حتى أمسي"، "اللهم إني أسألك بركة يومي هذا وما نزل فيه من مغفرة ورحمة ورضوان ورزقٍ واسعٍ حلالٍ طيبٍ مبارك".[12] إلى آخر الأدعية.
الخلاصة
تنبغي التعبئة الروحية على تحشيد القوم للقتال وطلب الخير من الله تبارك وتعالى.
[كراهة إقامة الحدود]
ذكر الشيخ الطوسي في المبسوط[13] كراهة إقامة الحدود في المعركة، وعَلَلوا ذلك بالخشية من أن يهرب المحدود إلى دار الحرب، وهذا معنى أن ينتظر انتهاء القتال والعودة إلى دار الإسلام لتجرا الحدود هناك، واستثنوا من ذلك ما لو قتل مسلم عمدًا، فإنه يُقَص من هذه الحالة لأنه يقتل به، فينتفي المانع حتى لا يُشُعَّ القتل.
قال الشهيد الثاني في المسالك[14] : "وعلى هذا فينبغي استثناء جميع الحدود الموجبة للقتل كالرجم، حيث إن الجاني يقتل، فلا يخشى فراره إلى دار الحرب" إذا كانت العلة أنه إذا قطعت يده، فإنه يفر إلى دار الحرب. فأي حدود فيها قتل مثل الرجم في الزنا والضرب بالسيف في اللواط أو الإحراق في اللواط، ينبغي أن لا تستثنى.
وهذه المسألة تختلف باختلاف الزمان والمكان، فهذا شأن تنظيمي وتدبيري، ففي زماننا هذا مع وجود السجون ووجود الكثير من الأمور، قد لا يستطيع الهرب، فينبغي أن ينظر إلى هذه الأمور مع ملاحظة إمكانات الدولة الإسلامية واختلاف الزمان والمكان.
[وقت الشروع في القتال]
ذكر الفقهاء أن الوقت المناسب للشروع في القتال هو بعد الزوال، وأداء صلاة الظهرين، حذرًا من الانشغال عنهما بالقتال، وزاد في المسالك بأن هذا الوقت أقرب إلى الليل، فيقل القتلى[15] ، وعُلل ذلك الشهيد الثاني في الروضة بقوله: ولأن أبواب السماء تفتح عنده وينزل الناصر وتقبل الرحمة[16] .
وقد اختلفت عباراتهم في التعبير عن هذا الحكم، فظاهر بعضهم وصريح الآخر استحباب ذلك، كأبي الصلاح الحلبي في الكافي[17] ، والقاضي بن البراج الترابوليسي في المهذب[18] ، وابن إدريس في السرائر[19] ، والعلامة في التحرير[20] ، والمحقق الحلي في الشرائع، حيث قال: "ويستحب أن يكون القتال بعد الزوال"[21] . فهؤلاء عبروا بالاستحباب.
وعبر بعضهم بالكراهة قبل الزوال، كالعلامة الحلي في القواعد، وفي التحرير في موضع آخر[22] ، والمحقق الحلي في الشرائع في موضع آخر، وفي المختصر النافع قال: "ويكره القتال قبل الزوال"[23] ، وقال ابن إدريس في موضع آخر من السرائر: "ولا بأس بقتال المشركين في أي وقت كان"[24] .
وقد عقب كلامه في المقام بقوله: فإن اقتضت المصلحة تقديمه قبل ذلك فلا بأس[25] ، فما هو السر في التفنن في التعبير؟ فبعضهم عبر بالاستحباب بعد الزوال، والآخر عبر بالكراهة قبل الزوال.
ولعل منشأ اختلاف التعبير الاستناد إلى المبنى الأصولي القائل بانتزاع الأحكام من بعضها، فما كان مستحبًا فخلافه مكروه، وما كان مكروهًا فخلافه مستحب، وهذا المبنى لم يثبت في علم الأصول، فلا ملازمة بينهما، فقد يثبت استحباب الشيء ولا تثبت الكراهة لتركه.
[دليل الحكم]
المستند في هذا الحكم هو صحيحة يحيى بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه السلام قال: "كان أمير المؤمنين عليه السلام لا يقاتل حتى تزول الشمس ويقول : تفتح ابواب السماء ، وتقبل الرحمة ، وينزل النصر ، ويقول : هو اقرب إلى الليل واجدر ان يقل القتل ويرجع الطالب ، ويفلت المنهزم "[26] .
[إسنادالحديث]
وهذا الحديث له أسانيد ثلاثة كلها صحيحة:
السند الأول: محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمر عن أبان بن عثمان عن يحيى بن أبي العلاء عن أبي عبد الله عليه السلام.
السند الثاني: الصدوق في علل الشرائع عن محمد بن الحسن عن الصفار عن معاوية بن حكيم عن ابن أبي عمر عن أبان بن عثمان عن يحيى بن أبي العلاء.
السند الثالث: في التهذيب بإسناده عن محمد بن أحمد بن يحيى عن معاوية بن حكيم عن ابن أبي عمر عن أبان بن عثمان عن يحيى بن أبي العلاء.
والأسانيد الثلاثة كلها صحيحة بناءً على اتحاد راوي الحديث مع يحيى بن أبي العلاء البجلي.
[دلالة الحديث]
ويلاحظ على هذا الحديث أنه وارد في شأن حرب أهل القبلة وقتال البغاة، وهم مسلمون، وفي مثله لا ريب في لزوم فعل كل ما يجنب زيادة القتل في المسلمين، ولكن لا مانع من ذلك بالنسبة إلى الكفار إذا كان يرجى دخولهم في الإسلام، ويراعى هذا الحكم إذا تساوت الأوقات من حيث المصلحة، وأما إذا تفاوتت الأوقات فلا شك في لزوم مراعاة ما تقتضيه مصلحة المسلمين من حيث توفير أسباب النصر وشروطه، حتى لو كان قبل الزوال أو في أي وقت آخر.
وقد صرح بذلك الشيخ الطوسي في النهاية، وابن إدريس في السرائر، والعلامة الحلي في التحرير، فقالوا: واللفظ للشيخ الطوسي ما نصه: "فإن اقتضت المصلحة تقديمه قبل الزوال لم يكن به بأس"[27] ، والأساس في هذا التوجيه هو تأكيد البعد الإيماني الرسالي للحركة، وتأكيد التوكل على الله.
الخلاصة:
إن وجد وقت راجح للقتال بحيث يتحقق فيه النصر، فهو المقدم، وإن تساوت الأوقات، فالأفضل بعد الزوال نظرًا لنزول الرحمة والنصر، وتفتح أبواب السماء، وتحقيق قلة القتل، وإذا حل الليل، فإنه يمكن الهروب.
هذا تمام الكلام في وقت القتال، تبقى مسألة أخيرة: القتال في الأشهر الحرم وفي الحرم، يأتي عليها الكلام.