« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

46/07/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (الستون): أدلة الحكم بوجوب عودة الكفار إلى الإسلام قبل القتال

الموضوع: الدرس (الستون): أدلة الحكم بوجوب عودة الكفار إلى الإسلام قبل القتال

أدلة الحكم بوجوب دعوة الكفار إلى الإسلام قبل القتال

ذكروا في دليل المسألة روايتين:

الرواية الأولى: رواية السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه عليه السلام، قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: "بعثني رسول الله صلى الله عليه وآله إلى اليمن، فقال: يا علي، لا تقاتلن أحدًا حتى تدعوه إلى الإسلام، وأيم الله لئن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا علي"[1] .

[إسناد الحديث]

هذه الرواية ذُكر لها ثلاثة أسانيد كلها ضعيفة.

السند الأول: الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام، والسند ضعيف بالنوفلي والسكوني.

السند الثاني: الكليني عن عدة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمد بن الحسن بن شمون عن عبد الله بن عبد الرحمن عن مسمعة بن عبد الملك عن أبي عبد الله عليه السلام، والسند ضعيف بسهل بن زياد الآدمي.

السند الثالث: ما رواه الشيخ الطوسي بإسناده عن أحمد بن أبي عبد الله عن النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام، والسند ضعيف بالنوفلي والسكوني.

[تصحيح هذه الإسانيد]

ولكن يمكن تصحيح هذه الأسانيد، فالسند الأول والثالث يمكن تصحيحهما بما نقله الشيخ الطوسي رحمه الله في عدة الأصول من أن الطائفة عملت بروايات السكوني[2] ، والسكوني من العامة، وعمل الطائفة برواياته قد يفهم منه توثيقه.

وأكثر روايات السكوني وصلتنا بواسطة النوفلي، فالعمل بروايات السكوني يعني العمل بروايات النوفلي، فيمكن تصحيح السند الأول والثاني. كما أن السند الثاني لو وثقنا سهل بن زياد الآدمي، وهذا فيه خلاف بين الرجاليين، فحينئذ يمكن رفع هذه المشكلة.

[صحة جميع روايات الكافي]

وكذلك بناءً على صحة جميع روايات الكافي، يمكن العمل بهذه الرواية، لكننا لا نبني على صحة جميع روايات الكافي، إلا أن العمل بروايات السكوني ليس ببعيد، فيمكن تصحيح هذه الرواية.

هذا تمام الكلام في سند الرواية.

[دلالة الحديث]

وأما الكلام في دلالتها فهو واضح، إذ استخدم عليه السلام أداة الغاية، حتى قال: "يا علي، لا تقاتلن أحدًا حتى تدعوه إلى الإسلام"، يعني إلى أن تدعوه إلى الإسلام، فيوجد نهي عن التقال قبل الدعوة إلى الإسلام، أي أن قتال الكفار مشروط بشرطٍ وهو تقدم الدعوة إلى الإسلام على قتاله.

[النتيجة:] فالرواية الأولى تامة السند والدلالة، فيثبت المطلوب وهو وجوب دعوتهم إلى الإسلام قبل قتالهم.

الرواية الثانية: رواية أبي عمر السلمي عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سأله رجل، فقال: "إني كنت أكثر الغزو أبعد في طلب الأجر وأطيل في الغيبة، فحجر ذلك علي"، فقالوا: "لا غزو إلا مع إمام عادل، فما ترى أصلحك الله؟".

فقال أبو عبد الله عليه السلام: "إن شئت أن أجمل لك، أجملت أي الإيجاز، وإن شئت أن ألخص لك، لخصت" أي التفصيل.

فقال: "بل أجمل". فقال عليه السلام: "إن الله يحشر الناس على نياتهم يوم القيامة"، وهذا الجواب قد يفهم منه التقية، لأنه يسأل عن القتال مع إمام عادل، وكان يقاتل مع أولئك القوم، فقد يفهم من هذا الجواب ظروف التقية.

قال: "فكأنه اشتهى أن يلخص له"، قال: "فلخص لي أصلحك الله"، فقال عليه السلام: هات تريد التفصيل، اسأل. " فقال الرجل: "غزوت فواقعت المشركين، فينبغي قتالهم قبل أن أدعوهم".

فقال: "إن كانوا غزوا وقوتلوا وقاتلوا، فإنك تجتزئ بذلك. وإن كانوا قومًا ولم يغزوا ولم يقاتلوا، فلا يسعك قتالهم حتى تدعوهم[3] .

[إسناد الحديث]

وروي هذا الحديث بسندين:

السند الأول: وعن محمد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد بن عيسى ، عن علي بن الحكم ، عن أبي عمرة السلمي ، عن أبي عبدالله عليه السلام.

السند الثاني: رواه الشيخ الطوسي بإسناده عن أحمد بن محمد عن علي بن الحكم عن أبي عمرة السلمي عن أبي عبد الله عليه السلام.

والسندان ضعيفان بأبي عمر السلمي لأنه مجهول.

[دلالة الحديث]

ومن ناحية الدلالة، فالرواية تدل على التفصيل، فمن دُعوا إلى الإسلام لا حاجة لدعوتهم، ومن لم يُدعَ إلى الإسلام، تجب دعوتهم إلى الإسلام قبل قتالهم.

والرواية تشير إلى أن الكفار الذين غزوا وقوتلوا فهذا يعني أنهم قد دُعوا قبل ذلك، فلا حاجة لدعوتهم من جديد.

فهذه الرواية تدل على التفصيل بين من بلغته الدعوة ومن لم تبلغه، والمستند في هذا التفصيل رواية أبي عمرة السلمي، فتجب الدعوة إلى الإسلام قبل القتال بالنسبة إلى من لم يعرف الدعوة الإسلامية من الكفار ولم تبلغه، وأما من عرفها وعرف وجوب اعتناقها، فحينئذ يسقط وجوب دعوته قبل البدء بالقتال.

وقد صرح بهذا التفصيل القاضي ابن البراج في المهذب[4] ، والعلامة الحلي في التحرير، إذ قال: "وإنما يشترط الدعاء في من لم تبلغه الدعوة ولا عرف بالبعثة، أما العارفون بها وبالتكليف بتصديقه، فإنه يجوز قتالهم ابتداءً من غير أن يدعوهم".[5]

وقد اعتبر العلامة في التحرير والشهيد الثاني في الروضة[6] أن الدعاء أفضل في أي حالة؟، في حالة أن قد بلغهم، يكون أيضًا دعاؤهم أفضل وليس بلازم يعني دعوتهم إلى الإسلام.

[فرع]

بناءً على وجوب دعوة الكفار إلى الإسلام إذا لم تبلغهم الدعوة، لو بدر مسلم فقتل كافرًا قبل دعوته إلى الإسلام، فما هو الحق؟

قولان في المسألة:

[القول الأول: لو قتل كافر قبل الدعوة لادية له]

ذهب الشيخ الطوسي رحمه الله، ووافقه أبو حنيفة، إلى أنه لا قود عليه ولا دية، فلا يُقتص من المسلم، وليس عليه دية الكافر، وحكى هذا القول العلامة في التحرير عن الشيخ الطوسي، ولم يعقب عليه ولم يعلق.

[الدليل:] واستدل الشيخ الطوسي على عدم القود والدية بإجماع الفرقة، وأخبارهم، وبأصالة براءة الذمة من الضمان.[7]

[المناقشة في الدليل:] وقد يُناقش في هذه الأدلة بأن إجماع الشيخ مدركي، وعلى مبانيه من قاعدة اللطف، فيكفي أنه يحتمل المدركية للروايات التي ذكرناها، فيسقط عن الاعتبار، وأما الأخبار فلم نقف على أخبار خاصة في هذه المسألة، ولعله أراد الأخبار العامة التي تهدر دم الكافر المحارب، فإذا ذهب دمه هدرًا فلا دية له.

[الإستدلال بأصالة براءة الذمة]

وأما استدلاله بأصالة براءة الذمة من الضمان، فقد يُقال إن مقتضى اشتراط مشروعية القتال بالدعوة إلى الإسلام أن هناك نوعًا من حرمة دم الكافر ما لم يُدعَ، فهذا المسلم يكون معتديًا بقتله الكافر قبل تحققه.

وبعبارة أخرى: إذا صرفنا النظر عن خصوصية الكافر بعد شرطية الدعوة للإسلام في هدر الدم، فسيكون الأصل عدم الهدر والضمان.

لكن هذا الكلام ليس بتام: إذ غاية ما يستفاد من الأدلة هو الحكم التكليفي وهو وجوب دعوة الكافر إلى الإسلام قبل قتاله، فقَبل قتال الكافر الحربي تجب دعوته إلى الإسلام، هذا حكم تكليفي، ومخالفته تقتضي ترتب الإثم إذا كان الإقدام عن عمد لا عن سهوٍ. وأما الأثر الوضعي، فلا يترتب على ذلك، وثبوت الدّية بالنسبة له أثر وضعي، فتشمله عمومات أن دم الكافر الحربي هدر، فحينئذٍ يُشكى في وجوب الدية عليه، وهذا شك في التكليف، فتجري أصالة البراءة الشرعية عن هذا التكليف، فيكون ما أفاده الشيخ الطوسي رحمه الله متينًا.

وقد يحمل كلام الشيخ الطوسي من قوله "أصالة براءة الذمة من الضمان"[8] أنه يريد الأصل الأولي التشريعي في دماء الكفار وهو الهدر.

وهذا الحمل خلاف الظاهر، ولكنه يفيد نفس النتيجة، وهي عدم ثبوت الدية والقصاص.

القول الثاني: ذهب الشافعي حسب حكاية الشيخ الطوسي عنه إلى أن على المسلم القاتل ضمان ديته. [9]

وفيه: ضمان الدية يحتاج إلى دليل، ولا دليل في البين، فإذا شككنا جرت البراءة الشرعية، ونتمسك بعمومات هدر دم الكافر الحربي.

[مقدار الدعوة ونوعها]

اكتفى الفقهاء في مقدار الدعوة أن يقال للكفار: "إنا ندعوكم إلى أن تشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وآله، وأن تعملوا بشريعة الله"، أو يقال لهم: "ادخلوا في الإسلام"، فإذا رفضوا تستباح دماؤهم.

وقد ورد في مقدار الدعوة حديث واحد، وهو رواية سفيان بن عيينة عن الزهري أن رجالًا من قريش دخلوا على علي بن الحسين، فسألوا: "كيف الدعوة إلى الدين؟" فقال عليه السلام: "علي بن الحسين، بسم الله الرحمن الرحيم". فقال عليه السلام: "تقول بسم الله الرحمن الرحيم، أدعوك إلى الله عز وجل وإلى دينه. وجماعه أمران: أحدهما: معرفة الله عز وجل، والآخر: العمل برضوانه، وإن معرفة الله عز وجل أن يعرف بالوحدانية والرأفة والرحمة والعزة والعلم والقدرة والعلو على كل شيء، وأنه النافع الضار القاهر لكل شيء، الذي لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وهو اللطيف الخبير، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن ما جاء به هو الحق من عند الله عز وجل، وما سواه هو الباطل. فإذا أجابوا إلى ذلك فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين".[10]

وقد علق على هذه الرواية الحر العاملي في الوسائل قائلًا: "الظاهر أن هذه أفضل الكيفيات"[11] .

[إسناد الحديث]

هذه الرواية ذُكر لها سندان ضعيفان.

السند الأول: الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن القاسم بن محمد عن المنقري عن سفيان بن عيينة عن الزهري، ضعيف بالقاسم بن محمد وسفيان بن عيينة.

السند الثاني: الشيخ الطوسي بإسناده عن محمد بن الصفار عن علي بن محمد القاساني عن القاسم بن محمد عن سليمان بن داود المنقري، السند ضعيف بعلي بن محمد القاساني وبالقاسم بن محمد.

[دلالة الحديث]

وهذه الرواية ناظرة إلى أفضل الكيفيات، فيكفي في مقدار الدعوة إلى الإسلام أن يقال للمقاتل: "قل أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا رسول الله صلى الله عليه وآله" يكفي هذا المقدار، فتكفي الشهادتان للدخول في الإسلام، أو يقال له: "ندعوك إلى الدخول في الإسلام"، هذا أقل مقدار تتحقق به الدعوة إلى الإسلام.

[نوع الدعوة]

هل تكفي الدعوة إلى الإسلام والالتزام بعقيدته وشريعته، أم أنه لابد من الدعوة إلى الإسلام على طريقة أهل البيت عليهم السلام؟ أي: هل يُكتفى بالشهادتين فقط، أم لابد من ضم الشهادة الثالثة: "أشهد أن عليًا ولي الله" وأن يدخل في التشيع بحيث يكون شيعيًا اثني عشريًا إماميًا؟

فظاهر من بعض الفقهاء كفاية الدعوة إلى مطلق الإسلام والالتزام، لكن لو راجعنا بعض العبارات فإنها تشير إلى ما هو أزيد من الشهادتين، كقول ابن إدريس مع نصه: "والإقرار بالتوحيد والعدل"[12] .

وبذلك عبر الشيخ الطوسي في النهاية[13] والمبسوط[14] .

ولعله الظاهر من العلامة في التحرير، حيث اعتبر ما تعبدنا الله به[15] ، وهو الظاهر من الرياض حيث ذكر التوحيد والعدل.[16]

والصحيح كفاية الدعوة إلى مطلق الإسلام، وكفاية قبول ذلك منهم لتحريم قتالهم، وهذا مقتضى ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله ... فإذا فعلوا ذلك حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها، لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين"[17] .

وأما رواية الزهري المتقدمة فلم يُلحظ فيها الجانب المذهبي وخصوصيات التشيع، بل ذكر فيها الجوانب العامة في الإسلام.

سؤال: هل تعتبر الدعوة في الجهاد الدفاعي؟

الجواب: ما ذُكر من وجوب الدعوة إنما هو في خصوص الجهاد الابتدائي دون الجهاد الدفاعي، إذ لم يصرح أحد من الفقهاء بوجوب ذلك في الجهاد الدفاعي، ومن المعلوم أن الجهاد الابتدائي لا يجوز إلا بحضور الإمام المعصوم أو نائبه الخاص وأمره بالجهاد، ومن ثم فقد اتفقت كلمتهم على أن الداعي إلى الإسلام هو الإمام أو من نصبه.

وعلى مبنانا من مشروعية الجهاد الابتدائي في عصر الغيبة الكبرى فإنه منوط بإذن الفقيه الجامع للشرائط، وحينئذٍ يجب على الفقيه إذا أمر بالجهاد أن يدعو الكفار إلى الإسلام قبل البدء بالقتال، فاشتراط الدعوة إلى الإسلام إنما هو معتبر في خصوص الجهاد الابتدائي دون الجهاد الدفاعي، والله العالم.

المسألة الثالثة: الإمساك عن القتال حتى يبدأ الكفار به، يأتي عليها الكلام.


logo