46/07/14
الدرس (التاسع والخمسون): مقدمات وكيفية القتال وما يتعلق به
الموضوع: الدرس (التاسع والخمسون): مقدمات وكيفية القتال وما يتعلق به
مقدمات وكيفية القتال وما يتعلق به
يمكن بيانها في المسائل التالية:
المسألة الأولى:
شعار القتال
[الشعار في اللغة]
الشعار في اللغة هو الثوب الملتصق بالجسد الذي يلبسه الإنسان على جلده مباشرة، ويقابله الدثار الذي هو الثوب الخارجي، وكأن الشعار مأخوذ من الاستشعار والشعور، الذي هو الإحساس، لأنه هو الشيء الذي يباشر عضو الإحساس وهو الجلد.[1]
ولعل الغالب في الأصول اللغوية أن تكون موضوعة لمسميات مادية وحسية، ثم بعد تطور الوعي واللغة تنتقل في الدلالة من الحسيات إلى المعنويات.
[إستعمال الشعار في الأمور الأساسية]
ولعل استعمال لفظ الشعار في الأمور البارزة والأساسية في الدين من باب الاستعارة، ثم حصل بعد ذلك وضع تعييني بسبب كثرة الاستعمال، فاستعمل الشعار والشعيرة والشعائر للأمور الأساسية في الدين التي يعرف بها كون الإنسان متديناً، فيقال شعائر الإسلام أو شعائر الدين.
وفي المسائل السياسية العامة يقال شعار الدولة الفلانية أو شعار القومية الفلانية أو شعار الوطن الفلاني، وربما يتغير هذا الشعار بتغير الظروف التي تمرّ على المجتمع، باعتبار أن هذا المعنى قد يكون لفظاً أو شكلاً مصوراً يلخص مراكز اهتمام هذا الإنسان أو هذه الجماعة من الناس.
وهكذا في المؤسسات والشركات، الآن أصبح من الواضح أن لكل شركة ومؤسسة شعار خاص يطلق عليه باللغة الإنجليزية "لوغو"، ويتداول الآن في اللهجة الدارجة باللغة العربية "لوغو" أي شعار المؤسسة أو الشركة.
[استعمال الشعار في الحرب]
ومن هذا الباب تم استعمال هذا اللفظ وهو الشعار في الحرب والجيوش، فيقال شعار الجيش الفلاني، شعار القوات الفلانية، شعار المقاتلين الفلانيين، وهو ما يتمايزون به عن عدوهم.
وفي نظام القبائل الذي كان سائداً في صدر الإسلام نجد في الأخبار ذكراً لشعارات متعددة بعدد القبائل أو الجماعات المشاركة في القتال، فلديهم رايات وشعارات تشير وترمز إلى خصوصياتهم. وقد ذكر الفقهاء استناداً إلى بعض الروايات أن اتخاذ الشعار مستحب، وهو كلمات يتوافق عليها المقاتلون المسلمون ويرددونها في المعركة.
[الإستدلال على إستحباب الشعار في القتال]
وقد استندوا في حكمهم باستحباب اتخاذ الشعار في القتال والجهاد إلى بعض الروايات، نذكر منها:
الرواية الأولى: صحيحة معاوية بن عمار، وقد رواها الشيخ محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن أحمد بن محمد بن أبي نصر البزنطي عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه السلام قال والسند صحيح.
قال عليه السلام: "شعارنا يا محمد يا محمد! وشعارنا يوم بدر: يا نصر الله اقترب اقترب! وشعار المسلمين يوم أحد: يا نصر الله اقترب! ويوم بني النظير: يا روح القدس ارح! ويوم بني قينقاع: يا ربنا لا يغلبنك! ويوم الطائف: يا رضوان! وشعار يوم حنين: يا بني عبد الله يا بني عبد الله! ويوم الأحزاب: حاميم لا يبصرون! ويوم بن قريظة: يا سلام أسلمهم! ويوم المريسي وهو يوم بني المصطلق: ألا إلى الله الأمر! ويوم الحديبية: ألا لعنة الله على الظالمين! ويوم خيبر: يوم القموص: يا علي آتهم من عل! ويوم الفتح: نحن عباد الله حقاً حقاً! ويوم تبوك: يا أحد يا صمد! ويوم بني الملوح: أمت أمت! ويوم صفين: يا نصر الله! وشعار الحسين: يا محمد! وشعارنا: يا محمد"[2] . [3]
وفي هذه الرواية يستعرض الإمام الصادق عليه السلام ما استعمله المسلمون في الحروب البارزة التي قادها رسول الله صلى الله عليه وآله ومن بعدها قادها أمير المؤمنين في فترة حكمه.
وفي أولها شعارنا يا محمد، وفي آخرها شعارنا يا محمد، مع أن الإمام الصادق عليه السلام لم يخض حرباً، ولم يخض الشيعة المؤمنون بإمامته والذين ساروا على نهجه حرباً، لكن هذا لا يعني أن الإمام حينما قال: شعارنا يا محمد، يا محمد! لم يقصد شعار الحرب.
والقرينة على ذلك أنه قال في بداية الرواية: شعارنا يا محمد! وشعانا يوم بدر: يا نصر الله اقترب اقترب! قال: وشعار المسلمين يوم أحد يا نصر الله اقترب!.
فبهذه القرينة نفهم من ذلك أن الإمام عليه السلام كان مقصودة من الشعار في بداية الرواية وفي نهاية الرواية الشعار عند القتال، إذ تمام هذه الموارد هي موارد الحرب والقتال.
ومن الواضح أنه نسب الشعار إليه أي إلى الأئمة وأهل البيت عليهم السلام.
[النتيجة:] فهذه الرواية إن لم تدل على الاستحباب، فلا أقل من أنها تدل على الرجحان؛ إذ إن الإمام عليه السلام لا يتخذ الشعار عبثاً، ولا يتخذ الشعار المباح، بل يتخذ الشعار الراجح.
فهذه الرواية تثبت الاستحباب، وإذا شككنا فيه فلا أقل من أنها تدل على رجحان اتخاذ الشعار في القتال، والله العالم.
الرواية الثانية: رواية السكوني، وهي ما رواه ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن بعض أصحابه، فالرواية مرسلة عن السكوني عن أبي عبد الله عليه السلام قال: قدم الناس من مزينة على النبي صلى الله عليه وآله فقال: ما شعاركم؟ قالوا: حرام، قال: بل شعاركم حلال.[4]
هذه الرواية ضعيفة السند، وقد يقال إنها لا تدل على استحباب اتخاذ الشعار، فهي مجملة من هذه الناحية. فلعل المراد من قوله حرام أن حوزتهم مصونة، وهم يحمونها ويصيبون بالأذى كل من يقدم عليهم، كما لعل المراد أن هذا هو شعارهم في الحرب، فاستحسن رسول الله صلى الله عليه وآله أن يكون "حلال".
والتحقيق أنه لابد أن يدرس المراد من مزينة، فإذا كان الناس الذين قدموا من مزينة قدموا من معركة وقتال وسألهم النبي: ما شعاركم؟ فهذا يفيد أن النبي صلى الله عليه وآله يرى أن أي معركة أو قتال لابد فيه من شعار، أو على لا أقل إن واقع الحال آنذاك كان بحيث إذا دخلوا معركة أو قتال اتخذوا شعاراً، فسألهم النبي عن ذلك الشعار.
فهي تدل على وجود شعارٍ عند القتال، غاية ما في الأمر، فهذا الشعار هل هو مستحب ومنذوب، أم أنها في مقام بيان واقع الحال في ذلك الزمان؟ فهذا شيء آخر.
وأما إذا كان المراد من مزينة منطقة، والنبي سألهم عن شعار المنطقة أو شعار القبيلة، فهذا لا يدل على اتخاذ الشعار عند القتال والمعركة.
[النتيجة:]والذي يهون الخاطب أن الرواية ضعيفة السند، ويمكن المناقشة في دلالتها، فتسقط عن الاعتبار.
الرواية الثالثة: خبر الكليني، قال: وَ رُوِيَ أَيْضاً أَنَّ شِعَارَ الْمُسْلِمِينَ يَوْمَ بَدْرٍ يَا مَنْصُورُ أَمِتْ وَ شِعَارَ يَوْمِ أُحُدٍ لِلْمُهَاجِرِينَ يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ يَا بَنِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ وَ لِلْأَوْسِ يَا بَنِي عَبْدِ اللَّهِ "[5] .
الرواية الثانية: رواية السكوني، والرواية الثالثة: خبر الكليني.
وهذه الرواية يمكن المناقشة في سندها، كما أن في دلالتها أنها تحكي عن واقع المسلمين في ذلك الوقت، ولا تثبت الاستحباب.
إذن، [النتيجة:] الرواية الأولى وهي صحيحة معاوية بن عمار يمكن أن تثبت الاستحباب ورواية واحدة تكفي في المقام، والله العالم.ٍ
المسألة الثانية:
الدعوة إلى الإسلام قبل الشروع في القتال
الظاهر اتفاق الفقهاء على حرمة أو كراهة الشروع في القتال قبل دعوة الكفار إلى الإسلام، فلا بد للمسلمين من دعوة الكفار إلى الإسلام والإلحاح فيها، والتحذير من الإصرار على الكفر، فإذا رفض الكفار الإسلام، فحينئذٍ يعرض على أهل الكتاب الجزية والدخول في ذمة المسلمين إذا التزموا بشرائط الذمة، فإن أبوا، فحينئذٍ يُشرع القتال.
[عدم التفريق بين الكتابيين والمشركين في الدعوة]
والظاهر من الفقهاء عدم تفريقهم في من تجب دعوتهم بين الكفار الكتابيين ومن في حكمهم وبين الكفار المشركين غير الكتابيين، وإن ورد في عبارات بعضهم حصر الدعوة بالكفار المشركين، كالعلامة الحلّي في التحرير، ولكن إذا لاحظنا تتمة كلامه سنجد ما يدل على أن مراده من المشركين مطلق الكفار وليس خصوص الكفار المشركين.
نعم، ذكر المحقق الحلي في المختصر النافع[6] هذا الحكم، وهو الدعوة إلى الإسلام في أحكام جهاد من ليس لهم كتاب، ولم يذكره في أحكام جهاد أهل الكتاب. وكذلك الشهيد الأول في اللمعة، والشهيد الثاني في الروضة[7] ، إذ ذكروا وجوب دعوة الكافر إلى الإسلام عند كلامهم عن الكافر الحربي ولم يذكروا ذلك في جهاد أهل الكتاب، لكن مرادهما مطلق الكافر، ويشمل أهل الكتاب.
ويشهد لذلك أن الشهيد الثاني رحمه الله ذكر فعل النبي صلى الله عليه وآله في غزوة بني المصطلق حيث غزاهم من غير إعلام واستأصلهم[8] ، ذكره مثالاً لسقوط وجوب الدعوة لمن عرف الإسلام، مع أن بني المصطلق يهود من أهل الكتاب، وليسوا كفار حربين، مما يشهد بأن الشهيد الثاني رحمه الله يرى وجوب دعوة الجميع سواء كان الكافر كتابياً أو غير كتابي، ويرى سقوط وجوب الدعوة بالنسبة إلى من عرف الدعوة.
وبني المصطلق يهود وبحكم جوارهم للمسلمين وتبليغ النبي لهم، فإنهم ممن بلغتهم الدعوة وجحدوها كسائر يهود أهل الحجاز.
وهذا تفصيل في المسألة سيأتي حينما نقرأ كلمات الفقهاء، فقد فصل بعضهم بين من بلغتْه الدعوة الإسلامية فلا يحتاج إلى دعوة، ومن لم تبلغه الدعوة الإسلامية، فحينئذٍ يُدعَى إلى الإسلام والرضوخ لأحكام الإسلام.
ونقرأ أولاً كلمات الفقهاء، وثانياً الأدلة على وجوب الدعوة إلى الإسلام قبل الشروع والقتال.
كلمات الفقهاء
بعضها مطلق، وأنه تجب دعوة الكافر مطلقاً سواء عرف الدعوة أو لم يعرفها، وسواء كان كتابياً أو كان حربياً غير كتابي، وبعض هذه الكلمات مقيدة، فتقيد وجوب الدعوة بمن لم يعرف الإسلام، وأما من وصلته الدعوة الإسلامية، فلا يجِب.
[معنا كلمتي يجب وينبغي]
كما أن بعض هذه الكلمات عبرت بـ"يجِب"، وبعضها عبرت بـ"ينبغي"، ويمكن الجمع بينها بحمل "ينبغي" على "يجِب"، وقد ورد استعمال "ينبغي" في اللغة العربية بمعنى "يجب"، كما في القرآن الكريم في سورة يس: : ﴿لَا ٱلشَّمْسُ يَنۢبَغِى لَهَآ أَن تُدْرِكَ ٱلْقَمَرَ﴾[9] ، يعني يجب أن لا تدرك الشمس القمر. ﴿وكل في فلك يسبحون﴾.
ولنقرأ هذه الأقوال: قال أبو الصلاح الحلبي في الكافي ما نصه: "إذا انتهى إليهم فليدعهم إلى الله تعالى وإلى رسوله وما جاء به وليجتهد في الدعاء وليتلطف ويكرر ذلك بنفسه وذو البصائر من أصحابه"[10] .
وقال القاضي ابن البراج في المهذب: "إذا عزم المجاهدون على الزحف فينبغي لصاحب الجيش أن يعقد الألوية ... ثم يقدم إليهم الإنذار، والأفضل تقديمه[11] ".
وقال في موضع آخر من المهذب: " ومن كانت له دعوة قد بلغته ، وعلم ان النبي يدعو الى الايمان وشرائع الإسلام ، ولم يقبلوا ذلك مثل الترك والروم والهند والخزر ومن جرى مجراهم فإنه يجوز للإمام أو من نصبه ان ينفذ الجند لقتالهم من غير ان يقدم النذارة إليهم ويجوز ان يغير عليهم "[12] .
ثم قال: " ومن لم تبلغه الدعوة فلا يجوز له قتاله ، الا بعد الانذار والتعريف بما يتضمنه الدعوة مما قدمنا ذكره ، فاذا علم ما ذكرناه ولم يقبل ذلك قوتلوا وقتلوا ، فان كانوا من أهل الجزية وأجابوا إلى دفعها لم يقاتلوا ولم يقتلوا وقبل ذلك منهم ، وتركوا على ما هم عليه من دينهم ، فان لم يكونوا من أهل الجزية فعل بهم من القتل وغيره ما قدمناه ".
وقال الشيخ الطوسي في النهاية: "ولا يجوز قتال أحد من الكفار إلا بعد دعائهم إلى الإسلام وإظهار الشهادتين والإقرار بالتوحيد والعدل والتزام جميع شرائع الإسلام، فمتى دعوا إلى ذلك فلم يجيبوا حل قتالهم، ومتى لم يدعوا لم يجز قتالهم"[13] .
وقال ابن حمزة في الوسيلة: "وإذا قوتلوا، لم يبدأوا بالقتال إلا بعد أن يدعوا إلى الإسلام... فإن أبوا... حل قتالهم[14] ".
وقال ابن إدريس في السرائر: "و لا يجوز قتال أحد من الكفار إلا بعد دعائهم إلى الإسلام، و إظهار الشهادتين، و الإقرار بالتوحيد، و العدل، و التزام جميع شرائع الإسلام، فمتى دعوا إلى ذلك، و لم يجيبوا حلّ قتالهم، و متى لم يدعوا لم يجز قتالهم "[15] .
وقال المحقق الحلي في شرائع الإسلام: "ولا يبدأون إلا بعد الدعاء إلى محاسن الإسلام"[16] .
وقال العلامة في التحرير: "وإنما يجوز قتال المشركين بعد دعائهم إلى محاسن الإسلام والتزامهم لشرائعه". ثم قال: "وصورة الدعاء أن يطلب منهم الانقياد إلى الالتزام بالشريعة والعمل بها والإسلام وما تعبدنا الله به"[17] .
وربما يدعى أن ظاهر بعض الفقهاء كون الدعوة إلى الإسلام من جملة آداب الجهاد ومستحباته، وليست الدعوة واجباً يتوقف مشروعية الجهاد والبدء بالقتال عليه، حيث عبروا بلفظ "ينبغي"، التي ظاهرها مطلق الرجحان، كما جاء في كلام ابن زهرة في الغنية حيث قال: "وأن يقدم قبل الحرب الإعذار والإنذار"[18] ، ومثله الحلبي في كتاب إشارة السبق[19] .
لكن هذه الدعوة مردودة، والمراد بلفظ "ينبغي" الدلالة على الإلزام، كما ورد في القرآن الكريم: ﴿لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ﴾[20] .
فظاهر اتفاق الفقهاء على وجوب الدعوة قبل القتال، ولا يكون القتال مشروعاً، ولا يجوز القتال قبل دعوة الكفار إلى الإسلام.
فما هو الدليل على وجوب دعوة الكفار إلى الإسلام؟
دليل هذا الحكم يأتي عليه الكلام.