« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

46/07/12

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (الثامن والخمسون): صحة التفصيل بين جهاد الكتابي وغيره

الموضوع: الدرس (الثامن والخمسون): صحة التفصيل بين جهاد الكتابي وغيره

التحقيق في صحة تفصيل المشهور بين جهاد الكتابي وغير الكتابي من الكفار

ذهب المشهور بل ادعي الإجماع أن الكافر في الجهاد والقتال:

إما أن يكون من أهل الكتاب كاليهودي والنصراني

وإما أن يكون من غير أهل الكتاب كالوثني ومن يعبد الكوكب.

وحكمهما يختلف:

[القسم الأول: حكم الكافر الكتابي]

فإذا كان الكافر من أهل الكتاب، فإنه يخير بين ثلاثة أمور:

الأول الإسلام؛

الثاني دفع الجزية والالتزام بشروط الذمة،

الثالث القتل إن لم يقبل بالإسلام أو دفع الجزية.

[دليل]

والدليل على ذلك قوله تعالى:

﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾ [1]

[القسم الثاني: حكم الكافر غير الكتابي]

إذا كان الكافر من غير أهل الكتاب كالوثني، فإنه يخير بين أمرين فقط:

الأول: الإسلام؛

الثاني: القتل إن لم يسلم، ولا يوجد الخيار الثالث وهو الجزية.

والدليل على ذلك قوله تعالى: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾[2]

وقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾[3]

وقد نقل السيد ابن زهرة في الغنية الإجماع[4] على كل الحكمين.

وخالف في ذلك من المعاصرين المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله، فقال: إن الكافر سواء كان كتابيًا أو غير كتابي، إما أن يكون تحت رعاية الدولة الإسلامية، فحينئذٍ يخير بين ثلاثة أعيان: بين الإسلام أو دفع الجزية أو القتل؛ والقسم الثاني هو الكافر الذي يعيش خارج الدولة الإسلامية، سواء كان كتابيًا أو غير كتابي، وهذا يطلب منه الجزية ولا يشمله القتل، هذا كلامه بشكل مجمل ومختصر.

[استدلال الشيخ شمس الدين على تفصيله المتفرد به]

وقد استدل بأدلةٍ لا ترجع إلى محصل:

الأول: فقد استدل أولًا بالكتاب الكريم وذكر أربع طوائف [يُراجع جهاد الأمة، صفحة 398 إلى 401]،

الثاني: ثم استدل بالأخبار وذكر خمس روايات [يُراجع جهاد الأمة من 401 إلى 460]،

الثالث: ثم ذكر كلمة العلامة الحلي في القوانين وحاول أن يستخرج منها ما فهمه وما ذهب إليه[5] .

[الرد على تفصيل الشيخ شمس الدين]

وما ذهب إليه لا يمكن قبوله نظرًا لعدم الدلالة عليه:

[أما الروايات:] أما الروايات الخمس التي استدل بها فكلها ضعيفة السند، ولا توجد رواية واحدة منها صحيحة السند، بل إن الشيخ شمس الدين نفسه قد ذكر بعضها وضعفها كالحديث الخامس وهو رواية الأسياف الخمسة، وهي نفس الحديث السابع والعشرين الذي ذكره في جهاد الأمة وضعفه، فهذه الروايات الخمس ساقطة سندًا بل دلالة، ولا داعي لإطالة البحث.

[أما الآيات:]أما الطوائف الخمس التي ذكرها بآياتها، فهذه الآيات تسند إطلاق الآيات التي ذكرناها لكل القسمين، ولنقرأ هذه الآيات لنرى أن هذه الآيات إنما تسند الحكم الثلاثي بالنسبة إلى الكتابي والحكم الثنائي بالنسبة إلى غير الكتابي، وهذه الآيات كُتبت في جهاد الأمة، صفحة ثلاثمائة وثمانية وتسعين، وسنرى عند قراءتها أنها لا تتنافى مع آيات كل الحكم بل تسند الإطلاق فيهما.

قال تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ﴾[6]

﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾[7]

قال تعالى:﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ﴾[8]

فهذه الآية تؤيد التقسيم الثلاثي فإنها قالت:

﴿فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ﴾

﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ﴾

فهذه الآية تأمر بالقتال.

والأصرح قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ﴾

أي إذا أسلموا وصار الدين لله انتهى القتال، فهي تذكر خيارين فقط للمشركين غير الكتابيين: القتل أو الدخول في الإسلام.

الآية الثانية:

﴿فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ "[9]

هذا مؤيد للتقسيم الثنائي، فاقتلوا المشركين إشارة إلى الأول وهو القتل، فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة فخلوا سبيلهم أي إذا اسلموا فخلوا سبيلهم، والآية مطلقة لم تقيد في داخل البلد الإسلامي أو خارج البلد الإسلام، وكذلك الآية الأولى مطلقة.

الآية الثالثة:

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ﴿۸۸﴾ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ﴿۸۹﴾ إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا ﴿۹۰﴾ سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ﴿۹۱﴾[10]

هذا يؤيد التقسيم الثنائي، قوله تعالى: ﴿فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ هذا إشارة إلى الأول، وقوله تعالى: ﴿فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ أي حتى يدخلوا في الإسلام إشارة إلى العنصر الثاني.

الآية الرابعة قوله تعالى:

﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ﴾[11] أيضًا إشارة إلى قتال الخائنين.

كل هذه الآيات ليس فيها تفاصيل بين داخل الدولة الإسلامية وخارجها، وهي مطلقة.

أما الآية الخامسة:

﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾[12]

وهذه الآية فيها شق الدخول في الإسلام ﴿أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا﴾ وليس فيها ما يدل على التفصيل.

[كلام الشيخ شمس الدين]

ولنقرأ كلام المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين بالتفصيل من باب الأمانة العلمية ونناقش مناقشات بسيطة حسب ما يسعه الوقت.

قال رحمه الله في جهاد الأمة، صفحة ثلاثمائة وأربعة وتسعين، وقد ذكر قسمين، بيان ذلك:

أولًا: إذا كان الكفار من سكان الدولة الإسلامية، جرت عليهم الأحكام التي ذكرها الفقهاء للكتابة من التخير بين الإسلام أو الجزية والقبول بأحكام الإسلام، فإن تمردوا على الحكومة الإسلامية خيروا بين القتل والإسلام والجزية. في الحاشية، يقول: يستثنى من ذلك جزيرة العرب التي لا يجتمع فيها دين آخر مع الإسلام، لأن النبي أمر بإخراج المشركين من جزيرة العرب.

ثم يقول في المتن: ويحتمل بملاحظة كلمات بعض الفقهاء أن يعاقبوا بالنفي إلى خارج دار الإسلام، وهو ما يسمى في عصرنا بالتجريد من الجنسية، وقد لا تجري بعض الأحكام إذا رأى ولي الأمر في الدولة الإسلامية، وهو الفقيه على مبنى ولاية الفقيه، أو الهيئة المنظمة المنتخبة من الشعب على مبنانا مصلحة للإسلام والمسلمين في ذلك.

ولا فرق في ذلك بين كون الكفار في هذه الحالة كتابيين أو مشركين، فلا يتعين في المشركين التخيير بين الإسلام أو القتل فقط.

[استغراب]

وهذا غريب عجيب، كيف تأخذ الجزية على الكافر غير الكتابي؟ ما الدليل على ذلك؟ حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون، خاصة بالكتابي. فكيف تعدى إلى غير الكتابي؟

ثم قال رحمه الله: وقد صرح الفقهاء في عدة موارد بما يخالف المبنى المشهور في حكم المشركين، وأنه القتل أو الإسلام فقط، وأنه لا تقبل الجزية من مشرك. واختصاص الكتاب بقبول الجزية منه، فإن مقتضى هذا المبنى أن لا تضم الدولة الإسلامية رعاية من المشركين، وأن لا تكون هناك أي علاقة مسالمة بين دولة الإسلام والمشركين، فمما خالفوا فيه هذا المبنى يذكر ثلاثة موارد.

[وجه الإشكال في كلام الشيخ شمس الدين]

وقبل أن نذكر هذه الموارد، نذكر وجه الإشكال فيها، فلا بد أن ننقح المطلب ببيان موضوع بحثنا، ما هو موضوع البحث؟ جهاد المشركين من كتابيين وغير كتابيين، أي موضوعنا القتال، يعني عند المواجهة، نحن ندرس كتاب الجهاد، فموضوع بحثنا عند مواجهة الكافر لقتاله.

أولاً نعرض عليه الإسلام، سواء كان كتابيًا أو غير كتابي، إن لم يقبل الإسلام، فحينئذٍ إن كان غير كتابي يقاتل ولا يعرض عليه الجزية، وإن كان كتابيًا يعرض عليه الجزية والقبول بشروط الذمة، فإن قبل دخل في ذمة المسلمين وحرم ماله وعرضه، ودخل ضمن شروط الذمة في الدول الإسلامية، وإن أبى يقاتل هذا هو موطن بحثنا.

النقض الأول: ومنه يتضح إن النقض بالأسير يكون بعد القتال، وكلامنا قبل القتال، فالنقض بالأسير خارج تخصصًا، وهذا الأسير من شأن ولي الأمر والإمام، يتصرف فيه وفق الأحكام، فإما منًّا وإما فداء، ذاك موضوع آخر مختلف، هذا النقض الأول.

النقض الثاني: الاستعانة بالمشركين، هذا خلاف نقض الغرض، خلاف موضوعنا، موضوعنا أنك تقاتل المشرك المعادي الذي تريد أن تقاتله، وأنت في قتالك للمشرك الذي عاداك، يمكن أن تستعين بمشرك آخر، فالاستعانة بالمشرك الآخر غير موضوع بحثنا، وهو قتال المشرك وعند قتاله تخيره بين الإسلام والقتل.

النقض الثالث: وهكذا بالنسبة إلى النقض الثالث، وهو ما ذكر من أن النبي غزى بني المستلق من دون أن يشعرهم، ومن دون دعوة إلى الإسلام وهذا خلاف التاريخ، التاريخ أن بني المستلق أعدوا العدة لقتال النبي، فعلم النبي بذلك، فصار إليهم بغتة وقتلهم وسبى ذراريهم.

إذن، هذه النقوض الثلاثة لا تصلح، هذا بالنسبة لما أفاده بالنسبة إلى داخل إطار الدولة الإسلامية.

أما خارج إطار الدولة الإسلامية، فهذا خارج تخصصنا عن موطن بحثنا هو كلامنا أنه هذا كافر يقاتل، فإذا تم النصر عليهم، دخلوا ضمن حدود الدولة الإسلامية فلا يأتي البحث أنه خارج إطار الدولة الإسلامية، فيصير البحث خارج تخصصنا.

فلنقرأ ما أفاده رحمة الله عليه قال: "فمما خالفوا فيه هذا المبنى الأول مسألة الأسرى بعد انقضاء الحرب فقد حكموا فيهم بعدم جواز قتلهم، وإن لم يكونوا من أهل الكتاب، وهذا يستلزم كونهم من أهل الجزية سواء بقوا على الرق أو تحرروا".

من قال أن الجزية تثبت لمن هو تحت رعاية الدولة الإسلامية؟ قد يقال هناك خصوصية للكتابي؛ فكيف تسرى وتعدى إلى غير الكتابي؟

قال العلامة في التحرير: "إن أسروا بعد أن وضعت الحرب أوزارها وانقضاء القتال، لم يجز قتلهم، وكان الإمام مخيرًا بين المن والفداء والاسترقاق، وهذا التخير ثابت في كل كافر، سواء كان ممن يقر على دينه بالجزئية أو لا"[13] .

وقال الشيخ: "إن كان من عبدة الأوثان، تخير الإمام بين المن والفداء، خاصة، وليس بمعتمد، ولا فرق بين العرب والعجم في ذلك"، "وإلى هذا ذهب الشهيد الثاني في الروضة والمسالك، وهذا هو مقتضى إطلاق آية الأسرى التي لا تفرق في الحكم، وهو التخير بين المن والفداء بين الكتابي والمشرك".

أقول: هذا النقض ناظرة إلى موضوع آخر غير موضوع بحثنا، فهذا النقض ناظرة إلى حكم الأسرى، وحكم الأسرى بعد انتهاء القتال، وكلامنا عند القتال، فموضوع بحثنا يختلف.

النقض الثاني: مسألة الاستعانة بالمشركين في القتال، واستئجارهم على ذلك، والرضخ لهم من الغنيمة، يعني الدفع لهم العطية لهم من الغنيمة، مما يأتي بحثه في باب الغنائم، فإن هذا لا يتصور على المبنى المشهور من حكم المشرك بالتخيير بين الإسلام والقتل.

أقول: كلامنا في التخيير بين الإسلام والقتل عند مواجهة المشرك، وقتاله، وجهاده، والنقض بالاستعانة بالمشرك الآخر، هذا غير صحيح، لأن هذا المشرك الآخر قد يكون بيننا وبينه معاهد، فلا يجوز قتاله لوجود المعاهدة، فقد نستعين بالمشرك المعاهد في قتال مشرك آخر معادي، ولا يصح هذا النقض.

ثم يقول: "وإنما لا بد من فرض حالة ثالثة له، هي حالة الذمة وعلاقة الأمن والمسالمة، بجزية أو بدونها، سواء كانوا تحت رعاية الدولة الإسلامية أو من دولة أخرى".

النقض الثالث: ومما يمكن أن يستدل به على خلاف مذهب المشهور في أهل الكتاب، ما ثبت من أن النبي صلى الله عليه وآله غزى بني المصطلق وهم من يهود المدينة، من غير إعلام ولا إنذار ولا دعوة إلى الإسلام، وتخير بينه وبين الجزية والقتل، واستأصلهم مع أن مقتضى مذهب المشهور هو تخيرهم بين الأمور الثلاثة.

هذا الكلام خلاف التاريخ، خلاف الحقائق الواقعية، إذا نراجع التاريخ، سنجد أنهم ينصون على أن أحداث غزوة بني المصطلق جرت في شهر شعبان من السنة الخامسة للهجرة، وسببها أنه لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وآله أن الحارث بن أبي ضرار، رأسه سيد بني المصطلق، سار في قومه وبعض من حالفه من العرب، يريدون حرب رسول الله صلى الله عليه وآله، وقد ابتاعوا خيلاً وسلاحًا وتهيئوا للخروج، حينها بعث رسول الله صلى الله عليه وآله بريد بن الحصير الأسلمي ليستطلع له خبر القوم.

فجاءهم حتى ورد عليهم ماءهم، وقد تألبوا وجمعوا الجموع، ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلمه، ورجع إلى رسول الله فأخبره خبرهم، فنادى رسول الله صلى الله عليه وآله الناس، فاسرعوا في الخروج، وخرج معه سبعمائة مقاتل وثلاثون فرسًا، وكان منهم جماعة من المنافقين، واستعمل على المدينة زيد بن حارثة.

وبلغ الحارث بن أبي ضرار ومن معه مسير رسول الله إليه فخافوا خوفًا شديدًا، وتفرق عنهم من كان معهم من العراب وانتهى رسول الله إلى المريسع، وهو مكان الماء، فضرب عليه قبته، هذه الغزوة تسمى غزوة المريسع أو بني المصطلق.

إذًا، واضح أنه لا يصح النقض بها، هم أعدوا العداء، والنبي باغتهم.

ثم يقول المرحوم شمس الدين: "وحين انتصر على المشركين في بدر وحنين وغيرهما، فإنه لم يخيرهم بين الإسلام والقتل"، الكلام قبل المعركة وليس بعد المعركة، يعني قبل البدء بالقتال، يقول لهم: "قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وتحفظ دماؤكم" إذا لم تقبلوا، بيننا وبينكم القتل، بعد الانتصار عليهم، يأتي حكم آخر، حكم الأسرى.

وهكذا يقول: "فإنه لم يخيرهم بين الإسلام والقتل، بل منه على بعضهم، فأطلقهم من غير فداء، وأخذ الفداء عن بعضهم، ولما فتح مكة، لم يخِر المشركين بين الإسلام والقتل، بل قال: "اذهبوا فأنتم الطلقاء".

هذا النقض لا يصح به لأنه بعد المعركة وليس قبل المعركة، كلامنا قبل المعركة عند القتال، يخيرون، ثم بعد أن فتح مكة جاءوا وأسلموا، حتى قال أمير المؤمنين: "ما أسلموا ولكن استسلموا"[14] ، فلا يصح النقض بهذا.

هذا بالنسبة إلى الشق الأول.

الشق الثاني: أما إذا كان الكفار كتابيين أو مشركين من رعاية دولة أخرى، وكانوا خاضعين لسلطة سياسية أخرى، فإما أن يعتدوا على المسلمين ويدخلوا في حرب معهم، أو لا تكن بينهم وبين المسلمين حالة حرب، إذا لا توجد حالة حرب، فبعض عندهم علاقات سلام. وإذا توجد حالة حرب، إما أن يكونوا من أهل الكتاب، أو من غير أهل الكتاب، إذا كان من غير أهل الكتاب، يقول المرحوم شمس الدين صفحة ثلاثمائة وثمانية وتسعين: "لا يبعد أن يكون الحكم فيهم هو الحكم في أهل الكتاب في هذه الحالة"، وهذا غريب، كيف يتعدى حكم أهل الكتاب إلى غير أهل الكتاب؟!

هذا تمام الكلام في هذه المسألة.

واتضح أن رأي المشهور هو المنصور، إذ كلام المشهور موافق لإطلاق الآيات ودلالة الروايات، والآيات التي استدل بها المرحوم شمس الدين إطلاقها يوافق إطلاق الآيات المستدل بها على تقسيم المشهور، والروايات التي استدل بها ضعيفة السند، وأما من ناحية الدلالة فلا تنافي ما ذهب إليه المشهور.


[5] يُراجع جهاد الأمة، صفحة 406 إلى 412.
logo