« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

46/07/11

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (السابع والخمسون): العدو الذي يجب جهاده

الموضوع: الدرس (السابع والخمسون): العدو الذي يجب جهاده

التجنيد

العدو الذي يجيب جهاده العدوان إما أن يقع من المسلمين وإما أن يقع من غير المسلمين، إذا كان العدوان من المسلمين، فهذا يقال له "البغي".

وهذا العدوان:

إما أن تتمرد جماعة على الحاكم الإسلامي كالإمام المعصوم أو نائبه أو الولي الفقيه الحاكم، فيقال لهم "البغاة" على الحاكم.

وإما أن تبغي فئة مسلمة على فئة أخرى مسلمة، فيقال له "بغي طائفة مسلمة على أخرى"، ويجمعهما عنوان "البغي"، أي أن الاعتداء يكون من المسلم.

وأما إذا كان الاعتداء من غير المسلمين، وهم جميع أصناف الكفار، فهؤلاء إما أن يكونوا كتابيين كاليهود والنصارى، أي أن الله عز وجل أنزل لهم كتابًا سماويًا وشريعة كالتوراة لليهود والإنجيل للمسيحيين.

وإما أن يكونوا غير كتابيين، ويطلق عليهم في المصطلح الفقهي "الحربيين"، فالكافر الحربي يطلق على الكافر غير الكتابي، وإن لم يكن محاربًا، والكافر الكتابي يطلق على الكتابي وإن كان محاربًا.

فهذه طوائف ثلاث تستهدف في الجهاد:

الطائفة الأولى الكفار أهل الكتاب.

الطائفة الثانية الكفار من غير أهل الكتاب.

الطائفة الثالثة البغاة،

[البغاة على قسمين]

وهم على قسمين:

الأول: من بغى على الحاكم.

الثاني: من بغى على فئة أخرى من المسلمين.

وسنتناول هذه الأقسام تباعًا.

القسم الأول:

أهل الكتاب، وهم اليهود والنصارى، وألحق بهم بعض الفقهاء المجوس والصابئة، لكن بعض الفقهاء، كالشيخ الطوسي في "المبسوط"[1] ، يحصرون أهل الكتاب باليهود والنصارى فقط، فيجعلونهم قسمًا مستقلاً برأسه، ويجعلون المجوس قسمًا ثانياً من الكفار بعنوان "من لهم شبهة كتاب"، فحكم اليهود والنصارى ثابت للمجوس، بما هم مصداق لمن لهم شبهة كتاب، أي أن أهل الكتاب من ناحية الحكم أو من ناحية صدق العنوان على قسمين:

[أهل الكتاب على قسمين]

القسم الأول: أهل الكتاب قطعًا، وهم اليهود وكتابهم التوراة والنصارى وكتابهم الإنجيل.

القسم الثاني: من لهم شبهة كتاب كالمجوس، وهم عبدة النار، والصابئة، وهم من يعيشون على أطراف الفرات في العراق، في شمال العراق حيث نينوى وغير ذلك. فهؤلاء لهم شبهة كتاب، يقال إنه كان عندهم نبي وأنزل عليهم كتاب، فصدق الأصل العنوان عليهم، وهو أنهم أهل كتاب، قد يتأمل في ذلك، فيقال لهم "شبهة كتاب"، أي حكمهم وحكم أهل الكتاب واحد.

ولابد من تحقيق الحال في هذه المسألة فإذا ثبت من الأدلة أن عنوان "من لهم شبهة كتاب" توجب الإلحاق بأهل الكتاب في الأحكام، وثبت أن قومًا من أهل الأديان غير المجوس كالصابئة لهم شبهة كتاب، ففي هذه الحالة تثبت لهم أحكام أهل الكتاب التي ثبتت للمجوس، باعتبار أنهم أهل كتاب.

وخالف في ذلك ابن أبي عقيل العماني القديم، فألحق المجوس بالمشركين، وحصر أهل الكتاب بخصوص اليهود والنصارى، ولعله لعدم تمامية إلحاقهم بأهل الكتاب مع كون ظاهرهم الشرك.

القسم الثاني:

المشركون، وهم من عدا أهل الكتاب ومن في حكمهم من أصناف الكفار، كالوثنيين وغيرهم كعبدة الكواكب والنجوم، فهؤلاء ليس لهم كتاب معروف ولا شبهة كتاب، وإن كان الهندوس عبدة الأصنام في الهند يدعون أن عندهم كتاب، فمن عدا اليهود والنصارى وشبههم كالمجوس والصابئة يشملهم العنوان "المشرك غير الكتاب" أو "الكافر الحربي".

[إصطلاح الفقهي في الكافر الحربي]

ففي الإصلاح الفقهي يطلق عنوان "الكافر الحربي" على المشرك غير الكتاب وإن لم يكن محاربًا، ويطلق عنوان "الكتابي" على الكافر من أهل الكتاب، وإن كان محاربًا، فالكتابي لا يطلق عليه "الكافر الحربي" حتى لو كان محاربًا، وغير الكتابي ومن في حكمه من أصناف الكفار يطلق عليه "الحربي" وإن لم يكن محاربًا.

[موضوع البحث]

وموضوع البحث هو الكفار من أهل الكتاب ومن لهم شبهة كتاب والمشركون، وأما أحكام البغاة، فإن وفقنا الله، فسنبحثها بشكل مستقيم إن شاء الله تعالى، فالبحث فعلاً في العدو الكافر.

[حكم الكافر الكتابي والحربي]

الكافر الحربي: ذهب المشهور المنصور إلى أن الكافر غير الكتاب يخير بين أمرين، لا ثالث لهما، فهو يقاتل إلى أن يسلم أو يقتل، فهو يخير بين الدخول في الإسلام أو القتل.

الكافر الكتابي: بخلاف الكافر الكتاب، فهو يخير بين ثلاثة أمور:

إما أن يسلم

أو يدفع الجزية ويلتزم بشروط الذمة

أو يقتل

فيضاف إلى الكافر الكتاب دفع الجزية للدخول في ذمة المسلمين، بخلاف الكافر الحربي وهو غير الكتابي، فلا تأخذ منه الجزية، بل يخير بين الإسلام والقتل.

[مخالفة الشيخ شمس الدين للمشهور]

وخالف في هذا أي ما ذهب إليه المشهور المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله في "جهاد الأمة" صفحة ثلاثمائة وأربعة وتسعين وثلاثمائة وسبعة وتسعين،[2] وجاء بتفصيل جديد وقال:

الكافر سواء كان كتابيًا أو غير كتابي، إما أن يعيش تحت حكم الدولة الإسلامية، وإما أن يعيش خارج حكم الدولة الإسلامية، فإذا كان تحت إطار وحكم الدولة الإسلامية، فإنه يخير بين ثلاثة أشياء كما يخير فيها الكتابي، فيخير بين الإسلام أو دفع الجزية أو القتل، وهذا يشمل حتى الكافر الحربي، والسر في وجود القتل هنا أنه إذا لم يسلم ولم يدفع الجزية، أي لم يكن معاهدًا في الدولة الإسلامية، فهو متمرد على الدولة الإسلامية ويزعزع وجودها، فحينئذٍ يستحق القتل.

بخلاف الكافر خارج حدود الدولة الإسلامية، فإنه يخير بين الإسلام، ولا يشمله القتل لأنه ليس داخل حدود الدولة الإسلامية حتى يكون رافضه للإسلام مزعزعًا للدولة الإسلامية، ويكون متمردين، ففي هذه الحالة، إن كانوا الذين في الخارج إما من أهل الكتاب، فحينئذٍ يخير بين الإسلام ودفع الجزية، وإذا كانوا من غير أهل الكتاب، فالمشهور يرى التخير بين الإسلام والقتل.

لكن المرحوم الشيخ شمس الدين رحمه الله يرى أن حكمهم هو حكم أهل الكتاب، وهذا غريب عجيب، سنتناوله بالتفصيل إن شاء الله تعالى.

وخلاصة رأيه رحمه الله: التفصيل بين الكافر مطلقًا داخل حدود الدولة الإسلامية وخارج حدود الدولة، والتخير بين الإسلام والقتل إنما يكون في خصوص الكافر الذي يعيش تحت إطار الدولة الإسلامية، ولا يشمل الكافر خارج حدود الدولة الإسلامية.

[الأحكام حسب ما يرى المشهور]

ولنتطرق إلى الأحكام حسب ما يرى المشهور ثم بعد ذلك نرى استدلال المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين على الخلاف، وسيتضح أن الصحيح ما ذهب إليه المشهور.

أولًا: الحكم في أهل الكتاب ومن في حكمهم كصبيانهم.

اتفقت كلمة الفقهاء على أن الحكم في أهل الكتاب ومن لهم شبهة كتاب هو أن يقاتلوا حتى يسلموا أو يلتزموا بأمرين:

الأول أداء الجزية

الثاني التقيد بشروط الذمة كعدم إظهار ما ينافي الإسلام كشرب الخمر

والأصل في حكم من يجب قتاله آية الجزية، وهي قوله تعالى:

﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾[3]

فإذا أسلموا كانوا كسائر المسلمين، وإذا أبوا الإسلام والتزموا بشرائط الذمة بدفع الجزية وإخفاء ما يحرم إظهاره من مراسمهم، فحينئذٍ شملتهم شروط الذمة ودخلوا في عداد المسلمين، وإن لم يسلموا ولم يدفعوا الجزية قوتلوا حتى يقتلوا، وتكون دماؤهم وأموالهم هدرًا، وتكون أهاليهم وأموالهم فيءًا للمسلمين.

وهذا الحكم هو نفس الحكم لو دخلوا في الذمة ثم نقضوها بالامتناع عن دفع الجزية أو الامتناع عن الالتزام بشروط الذمة.

وقد استدل السيد ابن زهرة في "الغنية" على هذا الحكم بالإجماع وبآية الجزية المتقدمة.[4]

وقال ابن إدريس في "السرائر": "ومتى امتنع أهل الكتاب ومن له شبهة كتاب من بذل الجزية كان حكمهم حكم غيرهم من الكفار في وجوب قتالهم وسبي ذراريهم ونسائهم وأخذ أموالهم، وتكون فيئًا"[5] .

وهكذا غيره من الفقهاء إذ لم يفصلوا تفاصيل أخرى كالانتماء السياسي، وجودهم تحت إطار دولة إسلامية، أو كونهم من رعايا دولة أجنبية، فلم يذكروا فرضًا رابعًا، بل اقتصروا على الفروض الثلاثة: الإسلام، أو الجزية، أو القتل.

وهكذا بالنسبة إلى الكافر الحربي غير الكتاب، اقتصروا على فرضين: الإسلام أو القتل.

ثانيًا: الحكم في غير أهل الكتاب من الكفار، اتفقت كلمة الفقهاء على أن الحكم في الكفار غير أهل الكتاب ومن في حكمهم هو مقاتلتهم إلى أن يسلموا، وإلا قوتلوا حتى يقتلوا، ولا تقبل منهم الجزية، وتسبى ذراريهم ونساؤهم وتأخذ أموالهم.

واستدل السيد ابن زهرة في "الغنية"[6] على ذلك بالإجماع وبقوله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ﴾[7]

وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ﴾[8]

وشرط في أهل الجزية أن يكونوا من أهل الكتاب أو من له شبهة كتاب ولم يفصلوا في هذا القسم الثاني وهو الكافر الحربي في حالات المشركين بين المشرك الذي هو من رعاية الدولة الإسلامية أو من خارجها، ولم يذكروا فرضًا ثالثًا على هذين الفرضين: الإسلام أو القتل.

هذا ما ذهب إليه المشهور من التقسيم والأحكام، واستدل على كلا الحكمين بالآيات والإجماع.

[التحقيق في المسألة]

يبقى الكلام في تحقيق هذه المسألة، حيث لم يفصل الفقهاء عند تعرضهم لأحكام أهل الكتاب ومن في حكمهم، وكذلك بالنسبة للمشركين لم يفرق الفقهاء بين حالتين:

الحالة الأولى إذا كان الكفار مقيمين داخل المجتمع الإسلامي وتحت سلطة الدولة الإسلامية.

الحالة الثانية إذا لم يكونوا من رعاية الدولة الإسلامية، بل كانوا تحت سلطة سياسية أخرى، وكانوا مقيمين خارج أراضي الدولة الإسلامية وخارج المجتمع الإسلامي، بل أطلق الفقهاء كلامهم في الكفار فجعلوا حكم الكتاب واحدًا وحكم المشرك واحدًا في كلتا الحالتين.

ولعل الفقهاء نظروا إلى الآيات والنصوص الواردة في شرح أفعال النبي صلى الله عليه وآله في حروبه على أنها مطلقة من ناحية الزمان والمكان، فلا توجد خصوصية للمكان حتى تقيد برعايا الدولة الإسلامية أو خارج إطار الدولة الإسلامية.

والحال إنها تعالج حالات خاصة في وضع اجتماعي خاص. وهذا الوضع الخاص قد يكون داخليًا إسلاميًا وقد يكون خارجيًا دوليًا، وبعض هذه الحالات تمثل كيانات سياسية واجتماعية خارجة عن دولة الإسلام ومجتمعه، فلابد من دراسة الأدلة.

[تفصيل الشيخ شمس الدين]

وتحقيق الحال فيما ذهب إليه المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين من التفصيل بين الكفار داخل إطار الدولة الإسلامية، فقال: "يخيرون بين الفروض الثلاثة: الإسلام، والجزية، والقتل"، سواء كانوا كتابيين أم لا، بينما الكفار خارج إطار الدولة الإسلامية، فإن كانوا من أهل الكتاب، يخيرون بين الإسلام والجزية، وإن كانوا كفارًا حربيين غير كتابيين فلا يشملهم القتل.

بيان رأي الشيخ رحمه الله ومناقشته، أي تحقيق المسألة فيما ذهب إليه المشهور، يأتي عليه الكلام.


[2] كتاب جهاد الأمة، شيخ شمس الدين، ص394 و 397.
logo