46/07/10
الدرس (السادس والخمسون): التجنيد الإجباري
الموضوع: الدرس (السادس والخمسون): التجنيد الإجباري
[التجنيد الإجباري للدافعين]
التجنيد الإجباري لشعب من الشعوب يقوم على أحد الدافعين:
الدافع الأول دفاعي
الدافع الثاني هجومي توسعي.
أما الدافع الأول فهو يقوم على فلسفة دفاعية محظوظة في المجتمعات التي يحكمها هاجس الخوف من العدوان الخارجي، فتهيئ نفسها بأن تجبر أفراد الأمة وأفراد الشعب على الدخول في سلك الخدمة العسكرية، والتدرب على كيفية استخدام السلاح لسنة أو سنتين، وإسداء خدمة للدولة، بحيث يبقى الجيش المحترف متأهب دائمًا، ولكي ينشأ أفراد الأمة على خبرة عسكرية عالية، يمكن الاستفادة منها في النفير العام.
وعادة في الجندية الإجبارية، لا يدرب أبناء الأمة تدريبات عالية ودقيقة كالتدريب على التفخيخ والتفجير، لأن أمن البلد سيتزعزع، ولكن يعطونهم أولويات القتال كالتدرب على السلاح الخفيف لصد العدوان الذي ربما يقع في أي وقت، والتدرب على الدفاع الشخصي عن الفرد وعائلته ومجتمعه.
الدافع الثاني هو الهجوم القائم على روح التوسع الخارجي، وهذه عقلية تحكم المجتمعات الاستكبارية كالولايات المتحدة الأمريكية وبعض الدول الغربية، لكنها تبرر نواياها التوسعية بمبررات منها: ما هو أخلاقي، وهو ما عبر عنه الغرب برسالة الرجل الأبيض، ومنها ما هو ديني كالتبشير، ومنها ما هو اقتصادي كنشر الرفاهية في البلدان، ومنها ما هو ماركسي كنصرة الطبقات الكادحة، ومنها ما هو ديمقراطي كتنشر الديمقراطية، فيقولون: قد أسقطنا النظام الديكتاتوري الاستبدادي لنشر الديمقراطية في المنطقة وفي ذلك البلد.
ومن هنا قد يقال بأن الجهاد الابتدائي بناءً على مشروعيته، كما هو مبني في المشهور، ومبنانا يكون من باب التوسع الخارجي ومن الدافع الثاني.
لكن الصحيح أن الجهاد الدفاعي ليس غرضه التوسع والحصول على رقعة الأرض الإضافية، وإنما الغرض الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، لكن غرض الدعوة هو غرض ماذا؟ أيضاً توسعت عدد المسلمين وتكثيرهم، وليس هو غرض دفاعي.
سؤال: وكيف كان فالمهم هو النظر في أدلة مشروعية التجنيد الإجباري، فهل يوجد في الأدلة الشرعية ما يساعد على مشروعية التجنيد الإجباري؟
والجواب: تارة ننظر إلى أدلة الأحكام الأولية، وتارة ننظر إلى أدلة الثانوية، ولو نظرنا إلى الأدلة الشرعية الأولية، فلعلها لا تساعد على مشروعية التجنيد الإجباري، وذلك لجهتين:
الجهة الأولى: فقدان الدليل، لا يوجد دليل شرعي من آيات أو رواية يدل على مشروعية التجنيد الإجباري وإجبار المكلفين على التدريب وتعلم فنون القتال، بل هو يتنافى مع الأصل المعروف، وهو أن الأصل عدم ولاية أحد على أحد، وإثبات الولاية على خلاف هذا الأصل يحتاج إلى دليل، فإذا شككنا في ولاية السلطة أو الجيش أو المؤسسة العسكرية على التجنيد الإجباري، نلجأ إلى أصل عدم ولاية أحد على أحد، فلا تثبت ولاية المؤسسة العسكرية على سائر أبناء الأمة، فلا يثبت التجنيد العسكري الإجباري.
الجهة الثانية: التمسك بقوله تعالى: ﴿لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا﴾.[1] (سورة النساء، الآية 95).
[وجود حالتين في أبناء المجتمع الإسلامي]
والملاحظ في الآية وجود حالتين في أبناء المجتمع الإسلامي:
الحالة الأولى حالة المجاهدين والقائمين.
الحالة الثانية حالة القاعدين.
وكل منهما مشروع، إذ قال تعالى:﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾، فالحالة الثانية، وهي حالة القاعدين، ليست خارجًا عن الشرعية. بقوله تعالى: ﴿وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى﴾.
نعم، فضل المجاهدين عليهم، والحال إنه في التجنيد الإجباري يكون جميع أبناء الأمة من القائمين والمجاهدين، ولا يبقى من هو قاعد. وبناءً على هذا، وتقسيم الأمة إلى حالتين، لا توجد مشروعية للتجنيد الإجباري التداولي على الأمة بمعناه المعروف من إلزام كل فرد قد بلغ سنة مثل سنة ثمانية عشر سنة أو سنة واحد وعشرين، بحيث يلزم في السلك العسكري لمدة معينة.
[التأمل في هذه الآية]
ولكن قد يتأمل البعض في هذه الآية، فيقول: إنها ناظرة إلى الجهاد الفعلي، وليس الجهاد الشأني، أي أنه إذا قامت المعركة، هناك من يجاهد بالفعل، وهناك من يكون قاعدًا لوجود عذر عنده أقعده، فهو معذور عندما يمرض، فكلًا وعد الله الحسنى المجاهد والقاعد، وليس المراد بالقاعد من ترك الجهاد، نعم المجاهد ثوابه أعظم ودرجته أرفع من القاعد.
فالآية الكريمة ناظرة إلى الجهاد والقعود الفعلي، بينما في التجنيد الإجباري يوجد جهاد شأني، يعني هو يدرب لكي يكون من شأنه أن يجاهد، وتكون له القابلية والقدرة على الدفاع عن البلد والوطن وأبناء الأمة.
وكيف كان يكفي التمسك بأصل عدم ولاية أحد على أحد وعدم قيام دليل على مشروعية التجنيد الإجباري.
هذا تمام الكلام في الأمر الأول أي مقتضى الأدلة الأولية.
الأمر الثاني: مقتضى الأدلة الثانوية، ومنها ولاية الفقه العامة أو ولاية الفقه المطلقة بناءً على أنها من الأحكام الثانوية، وقد يقال إنها من الأحكام الأولية وأنها تقدم حتى على الصلاة والصوم.
وتفصيل ذلك في بحث ولاية الفقه، فإذا رأى ولي أمر المسلمين ضرورة التجنيد الإجباري أو رأى مصلحة في التجنيد الإجباري، فحينئذ يكون التجنيد الإجباري مشروعًا، ويكون كلام المسؤولين نافذاً.
ومن هنا، لو راجعنا كلمات الفقهاء رضوان الله عليهم، سنجد أن بعضها يشير إلى وجوبه إلا اقتضته المصلحة، فهو واجب على كل قادر أو واجب على فئة من الناس متميزة بمواهب وكفاءات خاصة، حتى لو لم يكن المجند قد تعين عليه الجهاد بناءً على الوجوب الكفائي، وهو قول مشهور، وهو ما نبني عليه.
قال العلامة الحلي في القواعد: "ولو أخرجه الإمام قهرًا" يعني بالإجبار، " لم يستحق أجرة- و ان لم يتعين عليه، لتعيينه بإلزامه- و ان كان عبدا أو ذميا"[2] .
والوجه في ذلك عدم جواز أخذ الأجر على الواجب. فإذا ألزمه الإمام وأصبح واجبًا عليه الجهاد، فحينئذ لا يستحق الأجر على الجهاد الواجب عليه. نعم يدفع له من بيت المال.
[مراعاة للكفاءة المعنوية في اختيار الجنود والضباط]
تعرض الفقهاء للصفات النفسية والإيمانية والأخلاقية التي لا يجوز أن يتصف بها الجنود والضباط في الجيش الإسلامي، مثل الجبن، والنفاق، والتجسس، والفتنة، وما إلى ذلك من الأخلاق والصفات الذميمة، خصوصًا التي توجب زعزعة أركان الجيش الإسلامي.
وقد تعرض القاضي ابن البراج إلى ذلك في المهذب، والعلامة الحلي في القواعد والتحرير، قال العلامة في التحرير: " ولا ينبغي للإمام أن يخرج معه من يخذل الناس ويزهدهم في الجهاد، كمن يقول: "الحر شديد" ولا يؤمن هزيمة هذا الجيش، ولا المرجف ، وهو الذي يقول: هلكت سرية المسلمين ولا مدد لهم، ولا طاقة لكم بالكفار لكثرتهم وقوتهم، ولهم مدد وصبر، ولا من يعين على المسلمين بالتجسس للكفار، ومكاتبتهم بأخبار المسلمين، وإطلاعهم على عوراتهم، وإيواء جاسوسهم، ولا من يوقع العداوة بين المسلمين ويسعى بينهم بالفساد. ولو خرج أحدهم، لم يكن له سهم ولا رضخ، ولو كان الأمير أحد هؤلاء قعد الناس عنه".[3] والمراد بالرضخ العطاء اليسير، يعني حتى شيء بسيط ما يعطونه.
وقال الشيخ الطوسي في المبسوط، مثل هذا الكلام، يعني أن العلامة الحلي أخذه من الشيخ الطوسي في المبسوط[4] .
فهذه المسألة تتكون وتتألف، تعبر عن تكوين الجيش الإسلامي والحكم فيها واضح، وهذا شأنه من شؤون الإمام أو نائبه الذي يلزم الجيش، فلابد أن يختار مواصفات خاصة في من يشكل جيش الإسلام.
أما بالنسبة إلى غير الإمام المعصوم عليه السلام، فالحكم في الأصناف المذكورة هو تحريم التحاق المرجفين، المشككين، والمفتنين، والجواسيس بالجيش، وكذلك المخذل الذي يؤثر على معنويات الجيش، فإنه يحرم إخراجه، بل بعض هؤلاء يستحقون العقوبة.
وقد عبر ابن البراج في المهذب بأنه من كان على واحد من هذه الصفات، كان للإمام منعه من الخروج مع المسلمين[5] .
وقد عبر العلامة الحلي بصيغة "ينبغي"، وهي ظاهرة في مجرد الرجحان، بينما عبر ابن البراج بـ"كان للإمام منعه"، يعني يحق له المنع، يعني فيه إلزام، وهذه الأمور عقلائية وواضحة، لا داعي لبحثها كثيرًا.
[تشكيلات الجيش]
من الواضح أن الجيوش في العالم اليوم تتألف من تشكيلات:
وزير الدفاع، ويليه رئيس هيئة الأركان، وهو قائد الجيش فعلاً، وقيادات الألوية والفِرَق وما شابه ذلك، فهل هذه التراتبية العمرية وحق الطاعة مشروع؟ أولاً، خصوصًا في عالم اليوم، أنه لا تجوز المخالفة العسكرية، وتعقد له محكمة عسكرية خاصة لمخالفة الأوامر. فحينئذٍ نقول: تبقى هذه على الأصل، عدم ولاية أحد على أحد، فلا تثبت المشروعية.
ولكن إذا قلنا بأصل مشروعية الجيش، إما بناءً على أصل ولاية الفقه العامة أو المطلقة، أو بناءً على ولاية الأمة التي يؤمن بها المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين، أو بناءً على مشروعية الشورى، شورى المسلمين، إما الشورى العامة أو شورى أهل الحل والعقد.
وقد قرروا تشكيل الجيش، الآن، لا يمكن أن تكون دولة بدون جيش، وإن كان بعض الدول العالمية حتى اليوم ليس لها جيش مثل اليابان. فعلى كل حال، إذا تشكل الجيش بأمر مشروع، صارت هذه التراتبية العمرية مشروعة، ووجب الالتزام بأوامر المسؤولين العسكريين.
ولكن هذه المشروعية لا تشمل الأوامر في الشأن الخاص، فالكثير من الضباط يأمرون جنودهم بتنظيف بيوتهم أو سياراتهم الخاصة، بل قد يعاقبه بتنظيف حمامات، فهذه الإهانات الشخصية، وهذه المشروعية لا تشمل هذه الإهانة في الجانب الشخصي، فالضابط والرئيس له حق الطاعة والتراتبية الإدارية فيما هو ضمن العمل، لا خارج العمل.
[الاستعانة بالكفار]
هل يجوز الاستعانة بالكفار للدفاع عن المسلمين أم لا؟
وبعبارة أخرى: هل يجب أن تقتصر تشكيلات الجيش الإسلامي على خصوص المسلمين، ولا يجوز لقيادة الجيش أن تستعين بقوات أخرى كافرة أو مشركة، سواء كانوا كتابين أو غير كتابين؟ فهل يجوز لهم الاستعانة بالكفار، وأن يدفعوا لهم أجرًا؟
وهذا يفتح الباب لهم بالتطوع. فإذا قلنا بالمشروعية، يقال بالنسبة للكفار إذا أرادوا القتال: فهذه الخدمة متاحة، ويتاح لهم التطوع في مقابل أجر.
[كلمات الفقهاء]
ولنقرأ كلمات الفقهاء، وأهمها الشيخ الطوسي من المتقدمين، والعلامة من المتأخرين، والمهم هو كلمات المتقدمين لقربهم من عصر النص والأصول الأربعمائة.
قال الشيخ الطوسي في المبسوط: "يجوز للإمام أن يستعين بالمشركين على قتال المشركين، بوجود شرطين: أن يكون بالمسلمين قلة، وفي المشركين كثرة. والثاني: أن يكون المستعان به حسن الرأي في المسلمين، كما فعل النبي صلى الله عليه وآله مع صفوان بن أمية، واستعان النبي صلى الله عليه وآله باليهود فيقان، وفي نسخة: قينقاع، فرضخ لهم". وقال: "ويجوز أن يستأجر المشركين إجارة على الجهاد، لأنهم ليسوا من أهل الجهاد"[6] .
مثل ما هو موجود الآن مجموعة فاغنر الروسية، ويقاتلون في أفريقيا وفي كل مكان، بفلوس هؤلاء المرتزقة. هل يجوز استئجارهم أو لا؟
وقال العلامة الحلي في القواعد: "وتجوز له الاستعانة بأهل الذمة، والمشرك الذي تؤمن غائلته، والعبد المأذون له فيه"[7] ، قواعد الأحكام يراجع جامع المقاصد[8] ، المحقق الكركي.
وقال العلامة الحلي في التحرير: "يجوز الاستعانة في الجهاد بالمشركين بشرط أن يكون حسن الرأي في المسلمين مأمون الضرر"[9] ، وقال في موضع ثاني من التحرير: "يجوز للإمام أن يستأجر أهل الذمة للقتال، ولا يبين المدة، فإن لم يكن قتال لم يستحقوا شيئًا، وإن كان قاتلوا استحقوا الأجرة "[10] .
وكلام العلامة هذا مطلق، يشمل ما إذا كان المسلمون قلة ولهم حاجة أو لا.
بخلاف القاضي ابن البراج الذي قيد بما إذا كانت بالمسلمين قلة، أو كانت توجد في المشرك صفة يحتاجها المسلم في حربهم، قال القاضي ابن البراج: "ويجوز للإمام أن يستعين بالمشركين على قتال المشركين، بأن يكون في المسلمين قلة، أو يكون في المستعان جيد الرأي، حسن السياسة"[11] .
قال العلامة في التحرير: "ويجوز للإمام أن يستعين بأهل الذمة في حرب الكفار، بشرطين: أن يكون في المسلمين قلة يحتاج معها إليهم، وأن يكونوا ممن يوثق بهم، ويرضخ لهم". والرضخ بمعنى ماذا؟ العطاء. ويرضخ لهم يعني يعطيهم، "ولا يبلغ به سهم المجاهدين من المسلمين"[12] ، يعني العطية للكفار لا ترتفع ولا تصل إلى سهم المسلمين من الغنيمة.
عموماً والمسألة واضحة، هذه تخضع لولي الأمر وما يراه من مصلحة، سواء كان المسلمون قلة أو كثرة، فإذا شخص ولي أمر المسلمين والقائم على شؤونهم، ذلك جاز، وإلا فلا.
[القيادة]
القائد الأعلى في أصل الشرع هو الإمام المعصوم أو ممثله في القيادة الميدانية للجيش. وفي حال الغيبة، فالأمر إلى الفقيه الجامع لشرائط الفتوى، سواء قلنا بولاية الفقيه المطلقة أو العامة، أو سواء قلنا بولاية الحسبة، كالسيد الخوئي وأستاذنا الميرزا جواد التبريزي، فهؤلاء، حتى مع الولاية بالحسبة، فإن مما يحتسبه الشارع على نفسه أن لا يبقى المسلمون هكذا، فلابد من من إشراف الفقيه.
يراجع كشف الغطاء[13] ، الشيخ جعفر كاشف الغطاء يشير إنه إذا كان الإمام غائبًا، فلا بد من بيان ذلك، وإذا لم يحضر الإمام، بأن كان غائبًا، أو كان حاضرًا ولم يتمكن من استئذانه، وجب على المجتهدين القيام بهذا الأمر، ويجب تقديم الأفضل أو ما دونه في هذا المقام، ولا يجوز التعرض في ذلك لغيرهم، ويجب طاعة الناس لهم، ومن خالفهم فقد خالف إمامه.
هذا تمام الكلام في القيادة، ويبقى الكلام في تشخيص العدو الذي نجاهد، يجب الجهاد ضد من؟ الأعداء، ومن هم الأعداء؟، يأتي عليه الكلام.