46/07/07
الدرس (الخامس والخمسون): مشروعية إنشاء الجيش المحترف
الموضوع: الدرس (الخامس والخمسون): مشروعية إنشاء الجيش المحترف
[تداول فكرة إنشاء الجيش المحترف]
تطرقنا إلى أقوال الفقهاء واتضح أن فكرة إنشاء جيشٍ محترفٍ في الدولة الإسلامية هي فكرة تداولها الفقهاء وأقروا بمشروعيتها، لكنهم تطرقوا إلى جوهر هذه القضية ولم يطرحوا نفس عنوان الجيش المحترف، بل نجد الفقهاء قد بحثوا في تفاصيل هذا الجيش ولوازمه المالية وغير ذلك.
وقد تطرقنا إلى كلمات شيخ الطائفة الطوسي المتوفى سنة 460 هجرية، وهو خاتمة المتقدمين وأبرز المتقدمين.
[تقسيم المجاهدين في كلام العلامة الحلي]
ولا بأس أن نتطرق إلى كلمات العلامة الحلي المتوفى سنة 726 هجرية، وهو أبرز المتأخرين. وقد ذكر في كلماتهما تقسيم المجاهدين إلى قسمين:
القسم الأول هو المطوعة أو المتطوعين،
القسم الثاني هو المرصدون أو أهل الديوان وهم المتفرغون للقتال في سبيل الله، فجوهر الجيش المحترف ينطبق عليهم.
[الفرق بين جيش الدولة الإسلامية والدولة الوضعية]
وذكرنا الفارق بين الجيش في الدولة الإسلامية والجيش في الدولة الوضعية، وهو أن الجيش في الدول الوضعية يقبض المال في مقابل العمل الذي يقوم به، فالجندي أو الضابط يستلم الراتب في مقابل العمل الذي يقوم به، وهذا يتنافى مع قولهم: "هذا واجب وطني" فإذا كان واجبًا وطنيًا، فكيف يأخذ في مقابله مال، بخلاف الجهاد في سبيل الله، فإن المجاهد في سبيل الله، وخصوصًا المتفرغ لذلك، كمن تفرغ للمرابطة وحراسة الثغور الإسلامية، فإنه يقبض المال من بيت المال، لكن يسترزق من بيت المال، أي يأخذ رزقه ولا يأخذ هذا المال في مقابل عمله وجهده في سبيل الله، ويأخذ هذا المال بقدر حاجته وحاجة عياله ونفقته وبقدر رتبته وموقعه في الجيش الإسلامي. 7[1]
قال العلامة الحلي رحمه الله في "التحرير": ينبغي للإمام أن يتخذ الديوان، وهو الدفتر الذي فيه أسماء القبائل قبيلة قبيلة، ويكتب عطاياهم ويجعل لكل قبيلة عريفًا، ويجعل لهم علامة بينهم وتعقد لهم ألوية"[2] .
وقال في موضع آخر في "التحرير": " يحصي الإمام المقاتلة و هم البالغون و يحصي الفرسان و الرجّالة و الذريّة و النساء ليعلم قدر الكفاية "، أي يعد الجيش الذي يمكن أن يقوم بالواجب الكفائي للدفاع عن الدولة الإسلامية.
وقال أيضًا في "التحرير" في مقام بيان المال الذي يدفع للجنود ما نصه: " و يقسّم في السنة مرّة، و يعطي المولود، و يحتسب مئونته من كفاية أبيه إلّا انّه يفرد بالعطاء و كلّما زادت سنّه زاد في عطاء أبيه، و يعطي كلّ قوم قدر كفايتهم بالنسبة إلى بلدهم. و يجوز تفضيل بعضهم من سبيل اللّه و ابن السبيل لا من الغنيمة."[3] انتهى كلامه رحمه الله.
والسر في ذلك: أن الغنيمة تقسم بالسوية على المقاتلين، ويكون أربعة أخماس الغنيمة للمقاتل والخمس لله والرسول، ولا بد من إخراج خمس الغنيمة، لكن يمكن أن يعطى المقاتلون من بيت المال على تفاوت باختلاف رتبهم وباختلاف حاجاتهم.
وبعد ذلك نتطرق إلى كلام العلامة الحلي في "القواعد" وتعليق المحقق الكركي في "جامع المقاصد" لبيان النكتة المالية المهمة.
قال العلامة في "القواعد": "والمرصد للجهاد إنما يملك رزقه بقبضه من بيت المال"[4] ، وهنا علق المحقق الكركي في "جامع المقاصد" الجزء الثالث صفحة 423 قائلًا: "لأن ذلك ليس بأجرةٍ، فإن الارتزاق من بيت المال لا يزيد على كونه مصرفًا، فما دام لا يقبضه لا يملكه"[5] .
ففارق في الدول الوضعية: أجر في مقابل العمل، لكن المجاهد في سبيل الله مصرف من مصارف بيت المال، لذلك لا يتعين له إلا بقبضه.
[أن المسلمين بالنسبة إلى الجهاد نوعان]
وقد تحصل من كلمات الشيخ الطوسي والعلامة الحلي والمحقق الكركي أن المسلمين بالنسبة إلى الجهاد نوعان:
النوع الأول: مرصد
النوع الثاني: غير مرصد.
وللمرصد حالتان:
حالة الأولى: التلبس بالجندية والكون في الثغر للدفاع،
حالة الثانية: عدم التلبس به
فغير المرصد هذا النوع الأول، وهو المتطوع. إذا لم يكن في حالة الجندية، لم يذهب إلى القتال، واشتغل بمعاشه نفسه، فلا سهم له. نعم، لو ذهب وقاتل فله حصة من الغنيمة.
والمرصد في حالة الجندية الفعلية إما أن يكون في حالة الجندية وإما لا يكون في حالة الجندية، إذا لم يكن فعلاً في حالة الجندية، هو متفرغ للقتال، لكن لا يقاتل الآن فعلاً، فحينئذ لا سهم له من الفيء، ويختص الفيء بخصوص الجندية الفعلية، والذين لا سهم لهم من الفيء لهم سهم من الصدقات، وإذا تطوعوا لهم حكم الغنيمة، فيكون لهم سهم من الغنيمة.
هذا تمام الكلام بالنسبة إلى كلمات الفقهاء.
[أدلة إنشاء الجيش المحترف]
ولنشرع في بيان الأدلة التي يمكن أن تقام على مشروعية إنشاء الجيش المحترف أو القوات الخاصة أو قوات الرد السريع أو ما شئت من العناوين.
الدليل الأول [الأدلة العامة]
فهو التمسك بالأدلة العامة، فلو راجعنا القرآن الكريم والسنة المطهرة فإننا لا نجد دليلاً يدل على خصوص عنوان الجيش المحترف، لكن مشروعية جوهر الجيش المحترف يمكن استفادتها من الأدلة العامة في الشريعة التي تدل على وجود تنظيم شؤون المجتمع بما يحول دون وقوع المفاسد وما يجلب المصالح، ولا شك أن من أعظم المفاسد التي يمكن أن يتعرض لها مجتمع من المجتمعات أمران:
[أعظم مفاسد المجتمع أمران]
الأمر الأول اختلال الأمن الخارجي بدهم العدو له.
الأمر الثاني اختلال الأمن الداخلي وتسلط أهل الفساد عليه.
[وجوب حفظ الأنفس والأعراض والأموال]
ومما هو معلوم ومن بديهيات الشرع ويكاد يكون من الضروريات وجوب حفظ الأنفس والأعراض والأموال، فهذه الثلاثة يحتاط فيها الشارع المقدس، ووجوب تحصين المجتمع من كل خطر يهدد هذه الأمور الثلاثة، والجيش المحترف والجيش الخاص الذي يحرس الدولة الإسلامية يحصن أمور المسلمين من دماء وأعراض وأموال؛ إذ إن أعظم الأخطار عدوان الأغيار، فلا بد من صد ذلك العدوان وهذا يحتاج إلى جيش محترف مدرب مقتدر، وهذا كافٍ في الدلالة على مشروعية هذا النحو من التنظيم، فقد يقال من جهة العاقل إنه كلما ثبتت مشروعية شيء ثبتت مشروعية لوازمه، إذ إن العقل يحكم بوجوب ما لا يتم الواجب إلا به.
وبناءً على هذا يشرع تأسيس التشكيلات والتنظيمات وتأسيس الجيش المحترف للدفاع عن الناس وعن الدولة الإسلامية، فصحيح إننا نبني على ما يبني عليه المشهور وهو أن الجهاد واجب كفائي وأن التكليف يتوجه إلى أفراد المكلفين، ولكن وإن توجه التكليف إلى أفراد المكلفين من المسلمين، إلا أن مثل هذا التكليف لا يقوم به فرد واحد بل ينهض به جماعة، وهو واجب كفائي، فلا بد أن ينهض من الأفراد ما يحقق الكفاية، فإما أن يؤسس حزبًا أو دولة إسلامية أو تنظيمًا يقوم بإعباء الجيش المحترف للدفاع عن المسلمين.
وأما بناءً على مبنى المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين، فواضح، إذ إنه يرى أن الجهاد واجب عيني وليس واجب كفائي، لكنه واجب عيني على الأمة وليس على أفراد المكلفين، فإذا توجه وجوب الجهاد العيني على الأمة، وجب على جميع المسلمين أن يقوموا بإعباء تشكيل الجيش المحترف والتشكيلات والتنظيمات التي يمكن أن تصد العدوان.
خلاصة الدليل الأول[الأدلة العامة]:
الأدلة العامة تأمر بنظم المجتمع كما جاء في وصية أمير المؤمنين عليه أفضل صلوات المصلين إلى ولديه الحسن والحسين: "أوصيكما، وأهلي وولدي، وجميع من بلغه كتابي هذا" يعني الوصية حتى لنا: "بتقوى الله ونظم أمركم"[6] ، ولا شك أن الجيش المحترف من أبرز مصادر نظم الأمور الاجتماعية والسياسية.
هذا تمام الكلام في الدليل الأول، ومن الواضح أن الأدلة العامة تنهض بمشروعية تأسيس الجيش المحترف.
الدليل الثاني فهو التمسك بآية إعداد القوة، قال تعالى: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْرِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ﴾[7] .
تقريب الاستدلال:
خطاب أعدوا موجه إلى أعيان المكلفين بناءً على مبنانا ومبنى المشهور من أن الجهاد واجب كفائي ويتوجه إلى الأفراد والمكلفين، وأما بناءً على ما ذهب إليه المرحوم شمس الدين في "جهاد الأمة" من عينية الوجوب الجهادي وتوجه الجهاد إلى الأمة، فحينئذ يجب على الأمة بواسطة هيئات منها أو قوة منظمة من الأمة، وهي القوة التي لديها قوة الحكومة أو الولاية، أن تعد القوة والرباط، فعلى كلا المبنيين يجب التنظيم والإعداد، وبالتالي يشرع تشكيل الجيش المحترف. [8]
ومن الملاحظ أن القوة المذكورة في الآية مطلقة بمقتضى كونها نكرة في سياق النفي، إذ قال: ﴿مِنْ قُوَّةٍ﴾ فتشمل جميع مصاديق القوة، وهذا يشمل القوة العسكرية والقوة الاقتصادية والقوة العلمية وغيرها. نعم، أبرز مصاديق هذه القوة التي ترهب العدو هي القوة العسكرية، لأن الآية ناظرة إلى الحرب والقتال، خصوصًا ما جاء بعدها ﴿وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْرِ﴾، فيكون قوله ﴿وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْرِ﴾ من باب عطف الخاص على العام وبيان أبرز المصاديق.
لكن من الغريب ما ذهب إليه المرحوم الشيخ شمس الدين رحمه الله في تفسيره وتحليله لهذه الآية، إذ ذكر في صفحة 374 من "جهاد الأمة" أن إعداد القوة ورباط الخيل مقدمة لإيجاد هذه الرهبة، وأن هذه الآية ليست في وارد بيان القتال، وهذا نص كلامه، تعمق في دلالة الآية:
"عرفت أن الظاهر من الآية المباركة ليس الجهاد بل أمر آخر، وهو إيجاد الرهبة في نفوس الأغياء من الأعداء الفعليين أو ممن يمكن أن يكونوا أعداء في المستقبل، فليس في الآية أي أمر بالقتال"، أما قوله "أعداء فعليين أو ممن يمكن أن يكونوا أعداء في المستقبل"،[9] فهذا يستفاد من قوله تعالى: ﴿وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ﴾، فهؤلاء في المستقبل قد يعادون المسلمين وتصدر منهم العداوة.
لكن لو رجعنا إلى سياق الآيات، خصوصًا ما تقدم هذه الآية، وهي سورة الأنفال آية ستين، سنجد أن السياق هو عن الحرب والجهاد ونكث العهود، فلنقرأ ما يسبق الآية الستين، وهي آية خمسة وخمسين إلى آية ستين، خمس آيات، لنرى أن الآيات جلية في الحرب ونكث العهد والقتال.
قال تعالى: ﴿إنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾.[10]
فسياق هذه الآيات هو سياق حرب من نكثوا العهد، حتى أن الآية بعد الستين تقول: ﴿وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾، فمن الواضح أن هذه الآية من أبرز آيات الجهاد، ونص على الرهبة لإرهاب من نقض العهد حتى لا يتكرر نقضه للعهد كما تكرر مسبقًا.
الخلاصة: آية الإعداد من أبرز الأدلة على مشروعية تأسيس الجيش المحترف.
الدليل الثالث
الأخبار
الأخبار لم تتعرض للجيش المحترف بعنوانه، لكن يمكن أن ننظر إلى بعض الأخبار، ولعل في ثناياها ما قد يكون مشيراً إلى هذا الجيش.
منها صحيحة عمر بن أبان عن الصادق عليه السلام، وقدمت في أدلة وجوب الجهاد، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "الخير كله في السيف، وتحت ظل السيف، ولا يقيم الناس إلا السيف، والسيف مقاليد الجنة والنار"[11] .
تقريب الاستدلال: التمسك بقوله عليه السلام: "ولا يقيم الناس إلا السيف" يعني القوة، فإذا أردت أن تقيم الناس وأن تسوس الناس وأن تكون الدولة الإسلامية قائمة وقوية ومحكمة، فلا بد من السيف، لأنه لا يقيم الناس إلا السيف والقوة، ومن أبرز مصاديق السيف والقوة تأسيس الجيش المحترف.
ومثلها في الدلالة رواية السكون عن الصادق عليه السلام، قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "إن الله أغنى أمتي..." وفي نسخة "أعز أمتي بسنابك خيلها ومراكز رماحها".[12]
تقريب الاستدلال: إن عز الأمة أو غنى الأمة بسنابك خيلها، وهذا كناية عن القوة والقتال والجهاد في سبيل الله، والجيش المحترف والقوي والمقتدر من أبرز مصاديق غنى الأمة وعزتها.
هذا تمام الكلام في مشروعية تأسيس الجيش المحترف، واتضح أنه لا غبار على مشروعيته.
يبقى الكلام في التجنيد الإجباري: هل يجوز للجيش أو الدولة الإسلامية أن تجبر المسلمين والمواطنين على الجندية والخدمة في العسكر أم لا؟
التجنيد الإجباري يأتي عليه الكلام.