« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

46/07/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (الثالث والخمسون): اختلال الشرط بعد الخروج إلى الجهاد

الموضوع: الدرس (الثالث والخمسون): اختلال الشرط بعد الخروج إلى الجهاد

إذا خرج المكلف إلى الجهاد في سبيل الله واختلت في الأثناء بعض الشروط، فهل يؤثر ذلك في سقوط وجوب الجهاد عليه أم لا؟ فهل يجوز له الرجوع من الجهاد أم أن اختلال الشروط لا يؤثر، ويجب عليه الثبات والاستمرار، ويحرم عليه الفرار من الزحف؟

يمكن تناول هذه المسألة بأمور:

الأمر الأول:

أصناف الشروط وهي ثلاثة:

الأول الشروط التي تتصل بأصل الخلقة، كالبلوغ والذكورة.

الثاني الشروط الطارئة والعارضة على أصل الخلقة، كالحرية والجنون.

الثالث الشروط الطارئة القابلة للحدوث والزوال، كالصحة والمرض، والغنى والفقر، وإذن الوالدين ومنعهما، وإذن صاحب الدين ومنعه، وإذن السيد ومنعه.

هذه أصناف ثلاثة.

أما الصنف الأول: فلا يتصور وقوع الخلل فيه، كالبلوغ والذكورة.

وأما الصنف الثاني: فالمعذرية وسقوط التكليف فيه واضح، فلو جن الرجل أو أصبح رقيقا، فحينئذ لا يجب عليه الجهاد.

يبقى الكلام في الصنف الثالث: وهو محل كلام الفقهاء، أي الشروط العارضة والطارئة والقابلة للحدوث والزوال، كما لو خرج إلى الجهاد صحيحاً فمرض هناك، أو كان قادرًا ماليًا فعجز، أو أذن له الوالدان، فلما ذهب تراجعا عن إذنهما، أو أذن الدائن أو السيد، وبعد ذلك تراجع. فهل يجب على الولد أو المدين أو العبد البقاء في ميدان المعركة أو يجب عليهم الرجوع؟

وفي هذا الصنف الثالث ينبغي ملاحظة القسمين التاليين:

الأول أن يكون العذر في نفس المكلف، أي عذرًا ذاتيًا، كما لو فقد القدرة الجسدية أو القدرة المالية، فالعذر هنا ذاتي أي يرجع إلى ذات المكلف.

الثاني أن يكون العذر خارجيًا، كما لو كان ناشئا من تصرف الغير، كما في إذن الوالدين والدائن والسيد.

إذن العذر إما ذاتي وإما خارجي.

الأمر الثاني: موضع اختلال الشرط

يتصور لتجدد العذر موضعان:

الموضع الأول: قبل أن يتعين عليه الجهاد.

الموضع الثاني: طروء العذر بعد تعين الجهاد عليه.

فإذا تجدد العذر قبل تعين الجهاد عليه فلا كلام في جواز الرجوع وعدم وجوب الاستمرار في الجهاد، لأن الجهاد لم يجب عليه بالوجوب العيني التعيني. نعم، لو تجدد العذر للمكلف بعد تعين الجهاد عليه، وهذا هو موطن البحث، إذا طرأ العذر بعد تعين الجهاد، فهل يجب الرجوع أو يجب الاستمرار في الجهاد؟ هذا ما سنبحثه إن شاء الله.

الأمر الثالث: متى يتعين الجهاد؟ توجد عدة صور لتعين الجهاد، نذكر منها ما يلي:

الأول إذا عينه على نفسه بنذر أو عهد أو يمين أو شبهه.

الثاني إذا عينه عليه ولي أمر المسلمين، فإن الجهاد يتعين عليه.

الثالث إذا ذهب إلى الجهاد.

وهنا توجد احتمالان:

احتمال أول: إن الجهاد يتعين عليه بمسير الجيش وتوجهه إلى الجبهة، وإن لم يلتحم بالحرب مع العدو، فبمجرد الخروج مع الجيش للقتال يتعين عليه الجهاد.

احتمال ثاني: إن الجهاد يتعين عليه عند التقاء الصفين، فبعد التحام الحرب كما في كلام بعضهم، أو عند تقابل الجمعين كما في كلام بعض آخر، ومقتضى ذلك عدم تعين الجهاد عليه قبل ذلك، فلا يتعين عليه بمجرد خروجه مع الجيش، بل يتعين إما عند التحام الحرب وإما عند التقاء الصفين.

[القدر المتيقن من تعين الجهاد]

ولا شك ولا ريب أن القدر المتيقن من هذه الاحتمالات هو التقاء الصفين، فهذا هو القدر المتيقن من تعين الجهاد، إنما الكلام في التعين بمجرد مسير الجيش إلى الجبهة والمعركة وعدم وقوع قتال فعلي، فإن دل دليل على أن الجهاد يتعين بخروج الجيش إلى المعركة فهو، وبالتالي لا يجوز له الخروج ويكون فرارًا من الزحف.

وإن لم يدل الدليل على أن الجهاد يتعين بالخروج مع الجيش أو بالتواجد في الجيش، فيكون المقام من موارد الشك في التكليف، فيكون مجرى للبراءة الشرعية، فيجوز له الرجوع، ويبقى القدر المتيقن وهو عند التقاء الصفين للقتال فحينئذٍ يتعين عليه ولا يجوز له الرجوع.

[حكم الجهاد عند طروء العذر]

بعد بيان هذا التمهيد من الأمور الثلاثة نتكلم عن حكم الجهاد عند طروء العذر.

والبحث في حالتين:

الحالة الأولى: إذا كان العذر ذاتيًا، وسيتضح أنه يجوز الرجوع ولا يجب عليه البقاء.

الحالة الثانية: إذا كان العذر خارجيًا، وسيتضح إن شاء الله تعالى أنه يجب عليه البقاء ولا يجوز له.

ولنتناول هاتين الحالتين تباعًا:

الحالة الأولى: إذا كان العذر ذاتياً إذا كان العذر في نفس المكلف، كالمرض والعاهة كالعمى أو ضعف البصر أو عرج أو إقعاد أو شلل، كان سليماً وذهب إلى هناك، أصيب بالشلل التام أو النصفي، فهل يجب عليه الجهاد أو يجوز له الرجوع؟ وفرض المسألة فيما إذا تعين عليه الجهاد.

وقد اختلفت كلماتهم في طروء العذر الذاتي.

قال المحقق في الشرائع: لم يسقط فرضه على تردد[1] ، وذهب العلامة في التحرير إلى جواز الرجوع للمريض على نحو التخير من غير تفصيل حالته[2] ، وقال في القواعد: لم يسقط على إشكال[3] .[4]

وقد ذكر فخر المحققين ابن العلامة الحلي في كتابه "إيضاح الفوائد في شرح القواعد"[5] ، شرح كتاب أبيه، والمحقق الكركي في "جامع المقاصد في شرح القواعد"[6] أن وجه الإشكال تعارض الآيات النافية للحرج على المريض والضعيف كقوله تعالى:

﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾[7]

فآيات الحرج ترفع وجوب الجهاد وتجيز الرجوع، وهي تتعارض مع الآيات الآمرة بالثبات:

﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا﴾[8]

والآيات الناهية عن الفرار من الزحف.

فالآيات الأولى (أي آيات الحرج) تقتضي سقوط التكليف وجواز الانزحاب، والآيات الثانية (الآمرة بالثبات والناهية عن الفرار) تقتضي لزوم الثبات وحرمة الفرار من الزحف.

فإذا كان مورد إشكال يعني تعارض هذا، بتعبير صاحب الشرائع: تردد، يعني أنه هناك وجه لوجوب الجهاد عليه ووجه لجواز الرجوع.

ولا بأس بذكر وجهٍ وجه لتعين الجهاد عليه ووجه لجواز الرجوع وعدم الوجوب.

ويمكن الإيراد من جهتين:

الجهة الأولى: بأن الآيات النافية للحرج عن المريض والضعيف واردة في بيان عدم توجه التكليف إلى المريض والضعيف، وليست ناظرة إلى سقوطه عنه بعد تعين التكليف عليه، إذ يمكن القول ببقاء التكليف في هذه الحالة، ولا مانع من ذلك إذ يمكن تصور بعض وجوه النفع القتالي في المريض وصاحب العاهة كخدمة العسكر، ومع عدم وجود نفع قتالي لهما يكون الأمر تعبدا محضا، وله آثاره المعنوية على الفرد وعموم المقاتلين، وهو الثبات، إذ أن خروجهم بعد التقاء الصفين قد يوجب انهيار المعنوية، فهذا وجه وجوب البقاء وحرمة الفرار من الزحف.

الجهة الثانية: لكن يمكن الإيراد من جهة أخرى، بأن من طرأ عليه المرض يشك في كونه مصداقا للآيات الآمرة بالثبات والناهي عن الفرار، فيكون التمسك بهذه الآيات من التمسك بالعام في الشبهة المصداقية:

﴿إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا﴾[9]

هذه موجهة إلى السليم لا إلى المريض، والآيات النافية للحراج لسانها بالنسبة إلى آيات وجوب الثبات وحرمة الفرار هو لسان الحكومة والتفسير، أي أنه يجب عليكم الجهاد إلا في موارد الحرج، فهي تدل على صحة الخروج.

ويدل على ذلك: أن آيات الحرج وأدلة الحرج حاكمة على أدلة وجوب الثبات وحرمة الفرار، عدم استهجان التخصيص في قولنا يجب الثبات في المعركة إلا لمن طرأ عليه العذر، فهذا التخصيص صحيح ولا يستهجنه العرف، ولا مانع من أن يكون في هذا التكليف الضرري وهو الجهاد، حالات يلحظ فيها جانب الامتنان، فالجهاد مبني على الضرر هو قتالهم ولكن لا مانع أن يستثنى من هذا الحكم الضرري موارد فيه امتنان كالمريض.

يمكن أن يقال في وجه التردد والإشكال عن المحقق الحلي والعلامة الحلي:

إنه ناشئ من الشك في أن الشرط هل هو شرط للتكليف ابتداء واستدامة، أي أخذ في حدوث وبقاء التكليف، معًا فبمجرد فقده لا تكليف لعدم المقتضي؟ أم أن هذا الشرط شرط للحدوث فقط وليس شرطا للبقاء؟

فإذا توفر الشرط أحدث التكليف وهو الجهاد، وإذا انتفى الشرط يبقى الجهاد، لأن هذا الشرط ليس شرطًا في بقاء التكليف، وإنما هو شرط في خصوص حدوث وابتداء التكليف.

ومن استصحاب بقاء التكليف للشك في كون فقد الشرط رافعًا له من جهة الشك في كونه شرطًا لاستدامة التكليف، نشك أنه شرط في بقاء التكليف بعد أن كان شرطًا في ابتداء التكليف، فإذا تيقنا بتوجه التكليف حدوثًا وشككنا في بقائه عند انتفاء الشرط، فحينئذٍ نستصحب بقاء التكليف، فيجب عليه الثبات في المعركة، ويحرم عليه الفرار من الزحف.

مضافًا إلى أدلة حرمة إبطال الأعمال، قال تعالى: "ولا تبطلوا أعمالكم" فكما أنه لو دخل في الصلاة، لا يجوز له أن يبطلها، كذلك إذا شرع في الجهاد فيما إذا تعين عليه، فلا يجوز له الرجوع.

لكن أدلة وجوب الثبات في موردنا قابلة للمناقشة:

أما الاستصحاب فيرد عليه بأن المكلف بعد طروء العذر قد تعنونه بعنوان أنه من ذي الأعذار، مريض، ضعيف، عرج، فلا يجري الاستصحاب نظرًا لعدم وحدة الموضوع.

كما تناقش أدلة حرمة إبطال الأعمال بأن أدلتنا في الحرج واردة على أدلة الإبطال، فمع طروء العذر لا إبطال.

فالأقوى والصحيح جواز الانسحاب من أرض المعركة مع طروء العذر بعد التحام الصفين. نعم، قد يتعين عليه لأمر ثانوي، كما لو كان خروجه من المعركة يؤدي إلى ضعف ووهن المسلمين، فهنا يجب عليه البقاء، لا بنفسه أمر الجهاد الأول، بل لأمر ثانوي، وهو أن خروجه سيؤدي إلى وهن وضعف المسلمين والانهيار النفسي، وهذا أمر آخر.

وقد أشار إلى هذا العلامة الشهيد الثاني في "مسالك الأفهام"، والمحقق الكركي في "جامع المقاصد".

قال الشهيد في "مسالك الأفهام" : "وإن كان العذر ذاتيًا كالمرض والعمى والإقعاد، ففي السقوط قولان، أقربهما ذلك لعدم القدرة التي هي شرط الوجوب"[10] .

وقال ابن الجنيد: يجب الثبات هنا أيضًا، وهو ضعيف. نعم، لو أدى رجوعه إلى تخاذل في المسلمين وانكسار اتجه عدم السقوط.

وقال المحقق الكركي في "جامع المقاصد" عند قول العلامة لم يسقط على إشكال، ما نصه: "ينشأ من الأمر بالثبات حينئذ ومن عموم ترخيص المعذور، والأصح السقوط إلا أن يلزم في المسلمين انكسار وتخاذل، فلا يسقط حينئذٍ[11] ".

ولو كان العذر الذاتي الطارئ ماليًا بحيث كان قادرًا على المال، وطرأ عليه العجز، إما من جهة سلاحه ونفقته أو من جهة نفقة عياله، فحينئذٍ يجوز له الرجوع إذا تعذر عليه سد عجزه المالي، لكن قد يقال إنه يجب على بيت المال في حالة العجز المالي أن يسد هذا العجز المالي للمقاتل والمجاهد.

هذا تمام الكلام في الحالة الأولى (العذر الذاتي)، واتضح أنه يجوز له الرجوع ولا يجب عليه البقاء، ولا نلتزم بوجوب الرجوع، يجوز له الرجوع والخروج، لا أنه يجب عليه الخروج، ويجوز له البقاء، فلا يحرم عليه الخروج من أرض المعركة، ولا يشمله عنوان حرمة الفرار من الزحف، بل هو معذور بالعذر الذاتي.

هذا تمام الكلام في الحالة الأولى إذا كان العذر ذاتيًا داخليًا يرجع إلى ذات المجاهد الذي تعين عليه الجهاد.

الحالة الثانية: إذا كان العذر خارجيًا. يأتي عليه الكلام.


logo