« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

46/06/30

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (الواحد والخمسون): سقوط شروط الجهاد الابتدائي بالجهاد الدفاعي

الموضوع: الدرس (الواحد والخمسون): سقوط شروط الجهاد الابتدائي بالجهاد الدفاعي

[إلغاء شروط الجهاد الإبتدائي في الدفاع عدى البلوغ والعقل]

تطرقنا إلى شرط استئذان الإمام المعصوم أو نائبه الخاص أو نائبه العام، وهو الفقيه الجامع لشرائط الفتوى، وقلنا إنه معتبر في الجهاد الابتدائي وليس بمعتبر في الجهاد الدفاعي، بل تسقط جميع شروط الجهاد الابتدائي في الجهاد الدفاعي عدا البلوغ والعقل، أي التكليف، على أنه يوجد كلام أيضًا بالنسبة إلى البلوغ كما سيأتي، فبقية الشروط، كالذكورة والحرية والقدرة الجسدية والقدرة العقلية، ليست بمعتبرة في الجهاد الدفاعي.

والظاهر من كلمات الفقهاء رضوان الله عليهم سقوط اعتبارها في وجوب الجهاد الدفاعي، فيجب الجهاد على كل أحد بحسب قدرته، والمدار كل المدار على المكنة، أي تمكن المسلم من دفع العدو الكافر، وتمكن كل فرد بحسبه، فبعضهم يتمكن من النصر، وبعضهم يتمكن من إيقاف العدو، وبعضهم يتمكن من صد العدو ولو بمقدار تقدمه.

[كلمات الفقهاء والأدلة]

ونتطرق إلى كلمات الفقهاء أولاً، والأدلّة وما يستفاد منها ثانياً.

الأول:

أقوال الفقهاء:

قال القاضي ابن البراج في المهذب ما نصه: "وإذا أحاط الحرب بالبلد وجب على كل من ذكرناه الخروج. وليس له الامتناع من ذلك بشي‌ء من الأعذار التي وصفناها ولا غيرها ، ولا يجوز لصاحب الدين ولا غيره المنع عن ذلك على كل حال"[1]

وقال العلّامة الحلي في التحرير: "الجهاد للدفع يجب على المقل والمكثر، ولا يجوز لأحد التخلف إلا مع الحاجة، إما لحفظ المكان أو الأهل أو المال".[2] فقوله رحمه الله "ولا يجوز لأحد" أي من المكلفين، أي البالغين العاقلين.

وقوله "لحفظ المكان أو الأهل أو المال" ليس المراد به ما هو شخصي للمكلف بل المراد به المكان والأهل والمال المتعلق بجميع أهل البلد المتعرض للهجوم، وهذا النوع من الحفظ هو المصطلح عليه في زماننا بحفظ الخطوط الخلفية أو حفظ الأمن الداخلي.

وقال العلّامة الحلي في القواعد: " و إذا وطئ الكفار دار الإسلام، وجب على كل ذي قوة قتالهم حتى العبد و المرأة، و يحل الحجر عن العبد مع الحاجة إليه. "[3]

وقال الشهيد الثاني في الروضة البهية في شرح اللمع الدمشقية: "وهذا يعني اشتراط إذن الإمام أو نائبه في الجهاد بالمعنى الأول، يعني الابتدائي. أما الثاني فيجب الدفع على القادر، سواء الذكر والأنثى، والسليم والأعمى، والمريض، والعبد وغيرهم"[4] .

ولعل ذكره للأعمال بيان انحلال الشرائط، وأن هذه الشرائط التي قد ذكرت في وجوب الجهاد الابتدائي تسقط في وجوب الجهاد الدفاعي.

وقال الشهيد الثاني في المسالك: "وجهاد هذا القسم ودفعه واجب على الحر والعبد والذكر والأنثى إن احتيج إليها، ولا يتوقف على إذن الإمام ولا حضوره، ولا يختص بمن قصدوه من المسلمين، بل يجب على من علم بالحال النهوض إذا لم يعلم قدرة المقصودين على المقاومة، ويتأكد الوجوب على الأقربين فالأقربين، ويجب على من قصد بخصوصه المدافعة بحسب المكنة، سواء في ذلك الذكر والأنثى، والسليم والأعمى، والمريض والأعراج، والعبد وغيرهم"[5] .

هذا تمام الكلام في بيان أقوال الفقهاء.

ثانياً:

الاستدلال:

يمكن الاستدلال على سقوط هذه الشروط بأن أدلة اعتبار هذه الشروط لا تشمل حالة الدفاع، بل هي ناظرة إلى الجهاد الابتدائي، فالشروط المذكورة إنما هي في حالات عدم تعرض بيضة الإسلام والمسلمين إلى الخطر، وعدم استيلاء الكفار المعتدين على بلاد الإسلام وكسر شوكتهم.

وأما في حالة عدوان الكفار على المسلمين، فالدليل على وجوب الجهاد والدفاع هو العمومات والمطلقات السليمة عن المخصص والمقيد، وهي تدل على وجوب الدفاع عن الإسلام والمسلمين على كل مكلف، فمن بلغ وهو عاقل وأصبح مكلفًا، يجب عليه الدفاع، فهذا عنوان يشمل جميع المسلمين المكلفين عدا الصبيان والمجانين لعدم تكليفهما.

ولكن يجب أن يعلم أن عدم اعتبار هذه الشروط، كلا أو بعضاً، يدور مدار خطورة الحالة التي يمر بها المسلمون وقوة العدو وكثرة ودرجة استعداد المسلمين، ونهوض من به الكفاية.

فإذا كفى وجود جيش محترف، لم يجب عليه ذلك. وإذا لم يكفِ الجيش المحترف في الدفاع عن المسلمين، لا بد من تشكيل حرب العصابات. وإذا لم يمكن تشكيل حرب العصابات، يجب دفع الكافر المعتدي، ولا يجوز الاستسلام.

وبالتالي، يجب دفع المعتدين على النساء والعبيد وذوي الأعذار من فقر أو دين أو منع والدين أو عذر صحي إذا يتحقق وتحقق بهم الكفاية لصد عدوان الكفار.

وأما القدر المالي

فقد يقال بسقوطها بأحد وجهين:

الأول: لزوم بذل ذوي اليسار مالاً زائداً على الخمس والزكاة لأجل تجهيز المجاهدين من الفقراء بالسلاح ووسائل النقل ونفقة عائلاتهم، وبالتالي، وإن كان فقيرًا لكن نفقته قد تكفل بها، فيجب عليه.

الثاني: لو وفرت الحكومة هذه الأمور للفقير، فيجب عليه حينئذ الالتحاق بالقتال والقيام بما يفيد المجاهدين في صد العدوان.

وأما البلوغ

فإنه قادر على إعلان الصبي حتى يحتلم، لكن يمكن أن يُلتمس وجوه في سقوط البلوغ فيما لو احتيج إلى الصبيان في صد العدوان، بأن يقال إنه يجب على ولي الصبي أن يأمره بالمشاركة في الجهاد القتالي إذا كان قادرًا على حمل السلاح واستعماله، أو يأمره بالقيام بأعمال المساندة والمساعدة للجبهة وساحة المعركة التي ليس فيها قتال، وهذا يكون نظير وجوب تعليمه وتمرينه على العبادات الواجبة.

فالصبي غير مكلف بالصلاة، لكن يجب على وليه أن يمرنه على الصلاة والصوم.

ولا بد من وضع ضابط عامة في مسألة اعتبار الشروط وعدم اعتبارها، كلًا أو بعضًا، وهذه الضابطة يمكن أن يقال هي "المكنة"، أي التمكن من صد العدوان ولو بحسبه، فكل شرطٍ تكون مراعاته موجبة لتأخر المسلمين في الدفاع أو قلة كفاءتهم أو عدم كفايتهم، فإنه يسقط اعتباره.

اعتبار المكنة في وجوب الدفاع

سؤال: هل تعتبر المكنة في وجوب الدفاع؟

فيجب الجهاد الدفاعي مع إحرازها، ولا يجب الدفاع مع عدمها. وحينئذ يجوز التسليم للكفار ولا يحرم.

قال الشهيد الثاني في المسالك عند تعليقه على المحقق الحلي، فقد قال المحقق الحلي: "فإن بدأوا فالواجب محاربتهم"، فقال الشهيد الثاني: "لا شيك أن وجوب محاربتهم مع بداءتهم به إنما يجب أيضًا مع المكنة.[6] "

مسالك الإفهام، الجزء الأول، صفحة 117.

الجواب: ولبيان حقيقة الحال في اعتبار شرط المكنة أو عدم اعتباره،

نتكلم في جهتين:

الجهة الأولى: الموقف من الكافر المعتدي:

ومن الواضح بل من المسلمات حرمة اللامبالاة بعدوان الكفار على المسلمين، فلا يجوز للمسلم أن يعتبر نفسه غير معني بهذا الشأن، فضلًا عن الرضا الباطني القلب بعدوان الكفار على المسلمين، فضلًا عن إظهار الرضا بذلك والتسليم به، فالواجب على جميع المسلمين أن يهتموا بأمر المسلمين، ويلتزموا الإسلام في مقابل الكفر، وأن يغضب المسلم قولًا وعملاً بعدوان الكفار على المسلمين، وإن لم يتمكن فبالإنكار القلبي على الأقل.

ولا يجوز الاستسلام، ويدل على الدفاع وعدم الاستسلام في هذه الحالة عدة أدلة:

منها الآيات المباركة، ولعل دل على هذا قوله تعالى:

﴿إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَـٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[7] .

فهذه الآية تنهى عن تولي المعتدين، فلا ولاية ولا علاقة بين المسلم المعتدى عليه والكافر المعتدي، وهذه الآية لا تخاطب المقاتلين المخرجين بأعيانهم فقط، بل الجميع منهيون عن تولي المعتدين على البعض منا.

ومنها الأخبار الكثيرة البالغة حد التواتر في هذا المضمون: كقوله صلى الله عليه وآله: " مَنْ لَمْ يَهْتَمَّ بِأُمُورِ الْمُسْلِمِينَ فَلَيْسَ بِمُسْلِمٍ"[8] .

الجهة الثانية: تحديد المراد من المكنة:

يوجد احتمالان:

المعنى الأول: المراد القدرة على إحراز النصر والسيطرة على العدو.

ولا شك أن هذا شرط للجهاد الابتدائي، وكذلك التمكن من النصر شرط في القسم الثالث من أقسام الجهاد الدفاعي، وهو ما لو اعتد الكفار على بلد آخر مسلم أو غير مسلم، فتجب نصرتهم لتحقيق النصر.

وأما في المورد الأول، وهو تحقق العدوان الفعلي من الكفار على المسلمين، فلا يعتبر فيه وجوب الدفاع تحقيق النصر؛ لأن هذا يستلزم أنه إذا لم يتمكن من تحقيق النصر، حينئذٍ يجوز الاستسلام، وهو مما تعلم حرمته من الأدلة، فالمكنة بالمعنى الأول، أي التمكن من تحقيق النصر، ليست بمعتبرٍ في المورد الأول، وهو العدوان الفعلي من الكفار على المسلمين.

المعنى الثاني: بمعنى القدرة على المدافعة وعدم تمكين العدو من الاستيلاء والاستقرار.

وهذا لا شك ولا ريب في اعتباره.

ويمكن أن يذكر للمكنة بالمعنى الثاني معياران:

الأول: معيار يتعلق بالمسلمين أنفسهم

الثاني: معيار يتعلق بهدف العد.

أما المعيار الأول: الذي يتعلق بالمسلمين، وهو أن تكون عندهم منعة، ولا تكون لديهم هزيمة نفسية وقبول بالذل والاستسلام للكفار؛ فلا يترك البلد للكفار بحيث يحصل ما يسمى في زماننا هذا بالنزهة العسكرية، الكل يترك سلاحه والجيش يستسلم، وتدخل إسرائيل تتنزه، هذا لا يجوز، فكل الآيات التي تدل على وجوب الجهاد تأمر هنا بالدفاع، ولا يوجد دليل يدل على مشروعية الاستسلام، بل الأدلة فيه لزم التصدي للعدو الغاشم.

وأما المعيار الثاني: الذي يتعلق بهدف العدو، فالعدو له أهداف، قد يكون هدفه النصر، وأنت تتمكن من تعطيل نصره، وقد يكون هدفه الحصول على المزيد من الأراضي وتقدمه، وأنت تستطيع أن تمنعه، قد يكون هدف العدو الاستيلاء على الموارد الاقتصادية أو منابع الماء أو النفط، وأنت تستطيع أن توقفه.

فحينئذٍ يجب على المتمكن أن يمنع العدو، فلو كان غرضه الاستيطان وأنت تستطيع أن تمنع الاستيطان، فهذا واجبك، كما هو الحال بالنسبة إلى إسرائيل التي تستوطن فلسطين المحتلة، وهضمت الجولان وغيرها.

وإذا كان هدفه التمصير أو التهويد أو التمجيس أو التوثين، كما حصل بعض ذلك في بلاد الأندلس، فهنا يجب أيضًا الدفاع مع التمكين، قد يكون الهدف هو السيطرة على الموارد الاقتصادية والمواقع العسكرية والاستراتيجية، كما هو الحال في الاستعمار القديم (بريطانيا وفرنسا) وغيره، أو الاستعمار الجديد الذي يهدف إلى السيطرة على الموارد الاقتصادية.

فيكون مقياس المكنة هنا هو تعطيل هدف العدو، يعني: الخطة المضادة، تطلع على خطة العدو وترسم خطة مضادة، فليس المراد من التمكين فقط صد العدوان العسكري أو منع الناس، بل منع جميع خطط ومآرب العدو الكافر الذي يطمح للسيطرة على بلاد المسلمين وثرواتهم.

هذا تمام الكلام في المورد الأول: إذا وقع عدوان فعلي من الكفار على المسلمين، وجب الدفاع وسقطت جميع الشروط، فمع المكنة يجب الدفاع، فقط عندنا شرط: التكليف، البلوغ والعقل والقدرة، وقدرة كل بحسبه.

فلو كان هذا المكلف مصابًا بالشلال الكامل، فحينئذٍ يسقط عنه وجوب الدفاع، لكن لو أمكنه إخافة العدو بعينه، يجب عليه، فقدرة كل مكلف بحسبه، والله العلم.

المورد الثاني من موارد الجهاد الدفاعية يأتي عليه الكلام.


logo