« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

46/06/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (الرابع والأربعون): الفرع الرابع من فروع القدرة المالية

الموضوع: الدرس (الرابع والأربعون): الفرع الرابع من فروع القدرة المالية

الفرع الرابع من فروع القدرة المالية في الجهاد

إذا كان المكلف قادراً وموسراً، فتحققت عنده القدرة البدنية والقدرة المالية، فهل يسقط عنه الوجوب باستنابة غيره بنحو الإجارة أو غيرها؟

[فرض المسألة]

ففرض المسألة إذا لم يتعين الوجوب عليه، فإذا تعين الوجوب عليه كما لو عينه الإمام عليه السلام أو كان له ضرب من الخبرة يفتقده غيره ولا يوجد إلا عنده، فحينئذٍ يتعين عليه، فإذا تعين عليه الجهاد، لا يسقط وجوب الجهاد من عهدته بإنابة غيره وغير ذلك.

أما إذا لم يتعين عليه الجهاد، والتزمنا بأن الجهاد واجب كفائي، فهل يسقط عنه الجهاد بإنابة غيره أو تهيئة الأموال والعتاد والسلاح والأدوات للمجاهدين؟

ذهب المحقق الحلي في "الشرائع"[1] و"المختصر النافع"[2] والعلامة الحلي في "التحرير"[3] ، والشهيد الثاني في "المسالك" إلى سقوط الوجوب عنه ما لم يتعين عليه.

وقد استدلّ الشهيد الثاني في "المسالك"[4] في صورة عدم التعيين بقوله: لأن الغرض من الواجب الكفائي المقتضي لسقوطه عمن فيه الكفاية هو حصول الكفاية في الواجب بنفسه أو بغيره.

وقد ناقش المرحوم الشيخ محمد مهدي شمسي قائلاً: "وفيه أنه إن كان المدعى هو سقوط الوجوب عنه بنيابة النائب، فلا وجه له؛ إذ الخطاب نوعيًا كان أم شخصيًا يقتضي الامتثال بإيجاد متعلقه في الخارج من قبل نفس المخاطب، وهذا لم يحصل.

وإن كان المدعى هو سقوط الوجوب عنه بقيام من به الكفاية، فهذا لا يتوقف على الاستنابة؛ إذ يمكن أن يحصل بدونها كما يمكن أن لا يحصل معها، فالأحوط إن لم يدل دليل على السقوط هو عدم سقوط التكليف عن المكلف بالجهاد بالاستنابة".[5]

أقول: نختار الشق الثاني، فالجهاد واجب كفائي، وعليه يجب على هذا القادر الموسر، فإذا سعى القادر الموسر لتحقيق من به الكفاية باستنابة الغير وتوفير العتاد والمال للمجاهدين الذين بهم الكفاية، فحينئذٍ يسقط عنه وجوب الجهاد، ولا موضوعية لخصوص الاستنابة، فنختار الشق الثاني في قوله: "وإن كان المدعى سقوط الوجوب عنه بقيام من به الكفاية، فهذا لا يتوقف على الاستنابة؛ إذ يمكن أن يحصل بدونها كما يمكن أن لا يحصل معها." [6]

ونحن نلتزم بذلك، فلا ندعي أن الاستنابة بمجردها توجب سقوط الوجوب ولا حصر فيها.

وهذا ما ورد في السؤال: هل يسقط عنه الوجوب باستنابة غيره بنحو الإجارة أو غيرها؟

الجواب: نعم، إذا كان المدار فقط على خصوص الاستنابة، فصحيح أن مجرد الاستنابة لا يسقط عنه الوجوب، المهم أن تكون الاستنابة وغيرها يوجب تحقق من به الكفاية، أما إذا كانت الاستنابة لا توجب تحقيق من به الكفاية، فكلام الشيخ شمس الدين حول أن مجرد الاستنابة لا يوجب سقوط الوجوب، والله العالم.

الفرع الخامس: إذا كان عليه دين، فهل يجوز له الخروج إلى الجهاد أم لا؟

في المسألة صور أربع:

الصورة الأولى: أن يكون الدين حالًا وهو متمكن من الأداء.

الصورة الثانية: أن يكون الدين حالًا وهو معسراً.

الصورة الثالثة: أن يكون الدين مؤجلاً.

الصورة الرابعة: أن يكون الدين مؤجلاً ويحل وقت أدائه قبل رجوع المدين من الجهاد.

وفي جميع هذه الصور الأربع، إما أن يكون لدى الدائن رهينة على المدين أو لا، أو يكون المدين قد ترك مالاً في مقابل الدين أو لا.

حكم الصورة الأولى (وهي صورة الدين الحال وتمكن المدين من الأداء): فلا يجوز له الخروج إلى الجهاد حتى يقضي دينه لأنه حق قد وجب عليه أداؤه، وخروجه بدون أداء الدين يعتبر تغرير بحق الدائن، إلا أن يأذن له الدائن أو يرضى منه بكفيل أو رهن.

هذا تمام الكلام في الصورة الأولى.

وهذه الصور مفيدة عمليًا اليوم في من يذهبون للزيارة؛ حيث يسافر الحاج سنوياً لزيارة الأربعين وزيارة الأئمة، وزيارة الإمام الرضا، وهو معرض للديون ولا يؤدى الديون إلى الناس، والدائنون يتأذون لرؤيته يسافر يميناً وشمالاً بحجة الحج والزيارة دون أداء الديون، كلامنا هنا في فرض وجوب الجهاد، وهو يذهب لأمر استحبابي.

الصورة الثانية: أن يكون الدين حالًا وهو معسر، فقد ذهب القاضي ابن البراج الطرابلسي في "المهذب" إلى أن لصاحب الدين منعه من الخروج حتى يقضيه[7] .

أما القول الثاني فقد نقل المحقق الحلي في "الشرائع" القول بجواز منعه، واستبعد ذلك؛ أي استبعد جواز المنع[8] .

ورجح العلامة في "التحرير"[9] جواز خروجه بغير إذن صاحب الدين، وهو ما جزم به في "القواعد"[10] .

ولعل الوجه في القول بجواز منعه هو أن في الخروج تغريرًا بحق الدائن، ووجه جواز الخروج هو عدم فعلية الاستحقاق.

والصحيح: جواز الخروج بدون إذن الدائن، بل لا يجوز له منعه، قال تعالى:

﴿وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَىٰ مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾[11] .

فإنها يستفاد منها رفع سلطة الدائن على المدين في المطالبات نظرًا لإعسار المدين، ولا دليل على تقييد تصرفات المدين بإذن الدائن إذا لم تزاحم هذه التصرفات حق الدائن.

وقال ابن البراج في هذه الصورة: فان كان في يد صاحب الحق رهن فيه وفاء ، بالدين ، فاذن له صاحب الحق بالخروج ، خرج.[12]

ولا يعرف وجه لكلامه سواء في فرض وجود الرهن مع فرض إعسار المدين، أو في توقف جواز خروج المدين في هذه الصورة على إذن الدائن، إذ مع وجود الرهن لا يكون هناك إعسار بمعنى العز عن قضاء الدين، لأن الرهن إن كان ملكاً للمدين فلا وجه لإعساره، وإن كان معاراً للمدين والدائن مأذون من قبل صاحب العين بالتصرف فلدائن أن يستوفي حقه من الرهن.

نعم، لو قلنا أن هذا الرهن لمجرد الاستيفاء، لا يحق له التصرف فيه، لكن لا يوجد ما يدل على كلام ابن البراج أن الرهن ناظر إلى خصوص الاستيثاق ومجرد الاستيثاق.

ولا وجه لتوقف جواز الخروج على إذن الدائن للمرتهن بعد وجوب حقه بين يديه، عنده بعد لماذا يحتاج أذنه؟!

حكم الصورة الثالثة أن يكون الدين مؤجلاً، وحينئذٍ يجوز خروج المدين وإن كان موسراً، ولا يتوقف الجواز على إذن الدائن لعدم استحقاقه عليه شيئاً؛ أي أنه لا يوجد في حقه حكم فعلي بوجوب الأداء فيجوز له الخروج.

إلى هذا ذهب الشيخ الطوسي في "المبسوط"، مستدلاً بقوله: "لأنّه في منزلة من لا دين عليه"[13] .

وذهب إليه أيضًا المحقق الحلي في "الشرائع"[14] والعلامة الحلي في "التحرير"[15] و"القواعد"، وقال: "وليس لصاحب الدين منعه لو أراده وإن كان حالا، وكذا الموسر قبل الأجل[16] ".

وحكى ابن البراج في "الجواهر" قول البعض: "إن لصاحب الحق منعه (المدين من الخروج)"[17] .

وفصل ابن البراج في "المهذب" بين حالتين فقال: فان كان الدين مؤجلا وعليه رهن أو لم يكن عليه رهن ، وكان إذا خرج ترك وفائه [٢] فإن له الخروج ، اذن له صاحب الحق أو لم يأذن فيه ، فان لم يترك وفائه فقد ذكر ان له الخروج على كل حال ، وليس لصاحب الدين المؤجل منعه من ذلك ، لأنه بالتأجيل بمنزلة من لا دين عليه.[18]

وفيه: لا دليل على تقييد تصرفات المدين بإذن الدين.

هذا تمام الكلام في حكم الصورة الثالثة.

حكم الصورة الرابعة: وهي أن يكون الدين مؤجلاً، ويحل قبل رجوع المدين من الجهاد، فقد احتمل الشهيد الثاني في "الروضة" (وهو الذي فرض هذه الصورة) أن للدائن منعه من الخروج.[19]

ونُسب التفصيل في "جامع المقاصد" إلى بعض العامة، ولا أعلم قائلاً به من الأصحاب. ثم قال: "وفي هذا التفصيل ظهور إذا علم ذلك بحسب العادة، ويجري ذلك في جميع الأسفار"[20] .

ولعل الوجه فيه هو استلزام الخروج تأخير أداء الحق لصاحبه.

والتحقيق إن المكلف حين خروجه غير مخاطب بأداء الدين، فلا يوجد تكليف فعلي في حقه بوجوب أداء الدين حال خروجه للجهاد، بل هو بالفعل مخاطب بوجوب الجهاد فقط، دون مزاحم، فلا وجه لرفع اليد عن الخطاب الفعلي بالجهاد، خصوصاً إذا كان على الدين رهن أو كان قد وفر مالاً يفي بحق الدائن.

هذا كله إذا لم يتعين عليه الجهاد بسببٍ من الأسباب.

لكن إذا تعين عليه الجهاد: وجب عليه الخروج للجهاد، ولا يجوز لأحد منعه، ولا يجوز له أن يمتنع عن الخروج للجهاد لمنع أحد، سواء كان الدين حالاً أو مؤجلاً، وسواء أكان قادراً على الوفاء أم معسراً، وهذا واضح.

قال العلامة في "التحرير": "يستحب له أي للمدين، إذا تعين عليه، ألا يتعرض لمظان القتل، بأن يبارز أو يقف في أول المقاتلة"[21] ، ولا نعرف وجهًا لهذا الاستحباب؛ فإن وجد دليل خاص فهو وإلا فلا يثبت الاستحباب.

[المسألتان إذا منع المدين من الخروج إلى الجهاد]

إذا منع الدائن المدين من الخروج إلى الجهاد في الصورة التي له منعه، ويجوز له ويحق له أن يمنعه من الخروج إلى الجهاد. فإذا خرج وقاتل وغنم المسلمون غنائم،

فيقع الكلام في مسألتين:

المسألة الأولى: هل يكون سفر المدين في هذه الحالة سفر معصية، فيجب عليه إتمام الصلاة؟، وهل يكون عمله الجهاد عبادة أو يقع محرماً لأنه منهي عنه، فيكون معصية؟

المسألة الثانية: هل يستحق سهمه من الغنيمة كسائر المجاهدين أم لا؟

حكم المسألة الأولى: مقتضى القاعدة أن كون السفر سفر معصية؛ لأنه لا يجوز له الخروج إلى الجهاد بدون إذن صاحب الدين، وقد عصى، فيجب عليه الإتمام.

والحكم بحرمة عمله الجهادي مبني على المبنى في مسألة اجتماع الأمر والنهي؛ فهناك أمر بالجهاد وهناك نهي عن الجهاد، فإذا قلنا إن الموضوع واحد وهو شهر السلاح وإطلاق النار، فهو مورد للأمر لأنه أحد أنشطة الجهاد المأمور به، ومورد للنهي لأنه من أعمال السفر المنهي عنه.

إلا إذا قيل بأن موضوع الناهي يختلف عن موضوع الأمر، فموضوع النهي هو السفر، وموضوع الأمر هو الجهاد والقتال ورفع السلاح، فحينئذٍ لا يجتمع الأمر والنهي.

حكم المسألة الثانية: مقتضى القاعدة استحقاقه لسهمه وحصته من الغنيمة؛ لأن النهي عن السبب لا يقتضي عدم سببيته وتأثيره، والسهم حق للمقاتل إذا حضر في مكان القتال بنية القتال، وإن لم يقاتل، إذا حضر قبل القسمة، فتكون المسألة هنا من باب اجتماع الأمر والنهي في المعاملات إذا كان النهي عن السبب، والصحيح فيها عدم اقتضاء النهي لفساد المعاملة لا من باب الاجتماع في العبادات.

وقد صرح العلامة في "التحرير" بأن المدين في هذه الحالة يستحق السهم من الغنيمة[22] ، وبه صرح الشيخ الطوسي في "المبسوط"[23] .

هذا تمام الكلام في فروع الشرط السادس وهو القدر المالي.

الشرط السابع وهو الخبرة العسكرية، يأتي عليه الكلام.


[5] جهاد الأمة، الشيخ محمد مهدي شمسي صفحة 292.
[6] جهاد الأمة، الشيخ محمد مهدي شمسي صفحة 292.
logo