46/06/20
الدرس (الثالث والأربعون): فروع في القدرة المالية
الموضوع: الدرس (الثالث والأربعون): فروع في القدرة المالية
الفرع الأول: إذا لم يكن المكلف مستطيعاً لنفقة الجهاد، وبذل له شخص آخر ما يحتاج إليه في جهاده، فإن قبل البذل، وجب عليه الجهاد بلا شك، نظرا لتحقق شرطه، وهو القدرة المعلية.
ولكن هل يجب عليه قبول البذل أو لا؟ كما في الحج؟
يقولون: لو بذل له شخص ما، وجب عليه القبول للأدلة الخاصة، بخلاف الهبة، فله أن لا يقبل.
سؤال: وهنا في الجهاد، لو لم تكن عنده قدرة مالية على الجهاد، وبذل له المال لكي يجاهد، هل يجب عليه القبول أو لا؟
الجواب:
أقوال ثلاثة:
القول الأول: وجوب القبول، وصرح بالوجوب كل من المحقق في الشرائع والعلامة الحلي في القواعد والتحرير، حيث قال العلامة في التحرير: "الفقير إذا بذل له ما يحتاج إليه، وجب عليه الجهاد"[1] . وقال الشهيد الثاني في المسالك: إن المشهور هو وجوب القبول.[2]
القول الثاني: اشتراط الوجوب على المبذول له بكون البذل من الباذل بوجه لازم كالنذر أو قبول المبذل له، وإلا لم يجب.
نقل هذا القول الشهيد الثاني في المسالك عن بعض الأصحاب ثم قال: "والأول أقوى"[3] ، أي وجوب القبول من دون الاشتراط.
القول الثالث: عدم وجوب القبول عليه، وعدم وجوب الجهاد بمجرد البذل، إذ لا يوجد نص خاص في الجهاد على وجوب قبول البذل، كما يوجد النص في الحج.
ومال إلى القول الثالث المحقق الكركي في جامع المقاصد الجزء الثالث صفحة 373 إذ قال ما نصه: "لأنه واجب مشروط فلا يجب تحصيل شرطه كالحج"[4] .
إذن الجهاد واجب مشروط بالاستطاعة، كما أن الحج واجب مشروط بالاستطاعة. فيريد من ذهب إلى وجوب القبول، أن القبول من الساعي لتحصيل الاستطاعة، ولا وجوب على العاجز، أي لا يجب عليه تحصيل الاستطاعة خاصة في الواجب الكفائي الذي يقولون به من أن الجهاد واجب كفائي، خصوصا إذا كان في القبول وهن عليه، إذ يكون مظنة التلف والهلاك.
والصحيح هو القول الثالث، فلا يجب عليه القبول، ولا يجب الجهاد بمجرد البذل، نظرا لعدم وجود دليل خاص يدل على وجوب قبول المال.
أما التفصيل كما في القول الثاني، بينما إذا كان البذل بوجه ملزم كالنذر وعدمه، فلا وجه له، لأن نذر الناذر لا يملك المنذور له.
هذا تمام الكلام فيما إذا كان البذل من شخصاً.
سؤال: ولكن إذا كان البذل هو الدولة أو الأمة أو جهة خيرية أو اجتماعية، فهل يجب عليه القبول أو لا؟
الجواب: الكلام هو الكلام، والجواب هو الجواب، فلا يجب عليه القبول. نعم، لو كان الآمر بالبذل له هو ولي أمر المسلمين، وجب عليه القبول لأمر ثانوي فيكون حكم ولي الفقيه سارياً عليه، فلو طلب الولي الفقيه من الجميع المشاركة في القتال، وجب التجند على العدد المطلوب أو على الجميع.
هذا تمام الكلام في الفرع الأول.
[لا يجب الجهاد على سبيل الأجرة]
الفرع الثاني: إذا لم يكن مستطيعا، وعُرِض عليه أن يكون أجيراً في الجهاد، لم يجب عليه القبول، وبهذا صرح العلامة الحلي في التحرير[5] والقواعد[6] ، والمحقق الحلي في الشرائع[7] .
الوجه فيه: هو عدم الدليل على وجوب جعل نفسه أجيرا للغير في الجهاد أو في غيره.
نعم، لو وجب عليه أن يسعى لتحصيل قوت نفسه وعياله، بأن كان هو أو عياله قد أشرفوا على الهلاك، فحينئذ يجب عليه السعي في طلب الرزق، لكن لا يتعين عليه أن يكون أجيرا في خصوص الجهاد، بل له أن يؤجر نفسه في عمل آخر غير الجهاد.
[إذا كان سد الجوع منحصرا في التأجير للجهاد]
نعم، لو انحصر أمر الإيجار في الجهاد، ولم يجد قوتا يسد به جوع نفسه وعياله إلا في تأجير نفسه للجهاد، فهل يجب عليه قبول الإيجار في الجهاد أو لا؟
[سؤال: هل يجب قبول الإستيجار للجهاد إذا كان سد الجوع منحصرا فيه؟]
[الجواب: فيه وجهان:]
الوجه الأول: وجوب القبول، ويجب عليه أن يؤجر نفسه للجهاد لكي يحصل قوت نفسه وعياله، والوجه في ذلك انحصار تحصيل القوت بالإيجار في الجهاد، فيجب عليه ذلك.
الوجه الثاني: عدم الوجوب؛ لأن الجهاد مظنة التلف، وأدلة وجوب تحصيل المعيشة قاصرة عن الشمول لحالة مظنة التلف، فحينئذ لا يقال يجب عليه أن يجاهد لكي يحصل قوت عياله، مع أنه قد يتلف ويموت.
سؤال: إذن من أين ينفق؟
الجواب: تجب نفقاته حينئذ من بيت المال. وقد قال المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين في "الوجه الثاني يراد الجهاد" صفحة 287: "ولعل هذا هو الأقوى".
والصحيح أن الوجه الأول هو الأقوى، لأن المانع هو العلم والقاطع بالتلف لا الظن بالتلف، ولذلك لو ظن بالتلف، ولم يقطع به، لا تجب نفقته في بيت المال. فمن ظن التلف من المكلفين والأشخاص القادرين على تغطية نفقاتهم بالقوة، ولو بإيجار أنفسهم في الجهاد، لا تجب نفقتهم في بيت المال.
ومن الواضح أنه لو آجر نفسه، فإنه لا يقطع بالتلف، إلا إذا آجر نفسه في حقل الألغام أو عملية انتخاريه، وهذا الكلام يكون صحيحا، ولكن في غالب موارد الجهاد يكون مظنة التلف، وبالتالي يجب عليه قبول الإيجار والجهاد لتحصيل قوت عياله.
[هل يجب الإستنابة للعاجز عن مباشرة الجهاد؟]
الفرع الثالث: إذا كان عاجزا عن مباشرة الجهاد لمرض أو عاهة، وكان موسرا، أي عنده استطاعة وقدرة مالية، وليس عنده قدرة جسدية، فهل يجب عليه استنابة غيره بأجرة أو بدونها، أو لا يجب عليه ذلك؟
أقوال في المسألة:
القول الأول: عدم وجوب الاستئجار، لأن ظاهر الخطاب في الأوامر الشرعية وغيرها هو إرادة إيقاع الفعل من خصوص المخاطب، لا من غيره، فيحتاج وقوع الفعل من غيره إلى دليل، فتكون أدلة وجوب الجهاد ليست متوجهة إليه.
إذن الظاهر من أدلة وجوب الجهاد هنا، أي في حالة عدم القدرة الجسدية عدم الوجوب، لعدم توجه الخطاب إليه رأسا، ويدل على ذلك قوله تعالى:
﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ﴾[8] .
ولا دليل على توجه خطاب آخر بالاستنابة. نعم، يستحب له ذلك لأنه من إقامة شعائر الله ومن الإنفاق في سبيل الله، وهذا ما رجحه المحقق الحلي في الشرائع، وقال إنه أشبه بعد أن حكى القول بالوجوب[9] .
القول الثاني: وجوب الاستئجار عليه، وذهب إلى هذا القول جماعة من الأصحاب منهم الشيخ الطوسي وابن إدريس الحلي وابن البراج الطرابلسي، والمحقق الحلي في المختصر النافع، خلافا لما ذهب إليه في الشرائع، حيث قال بالاستحباب وعدم الوجوب، والشهيد الثاني في المسالك.
ولنقرأ كلماتهم:
قال القاضي ابن البراج الطرابلسي في المهذب: " واما الذي يجب عليه إقامة نائب عنه فيه ، فهو كل من وجب عليه وعلم من نفسه انه لا يتمكن منه [10] ".
وقال المحقق الحلي في المختصر النافع: "ومن عجز بنفسه وقدر على الاستنابة، وجبت"[11] .
وقال الشهيد الثاني في المسالك: "الأقوى وجوب الاستئجار مع الحاجة إليه أو أمر الإمام له بذلك، وإلا فلا"[12] .
ويلاحظ على كلام الشهيد الثاني أن فرضه خارج عن محل بحثنا؛ لأن مقتضاه التعين عليه، فإذا أمره الإمام أو احتيج إليه، فحينئذ تعين عليه، وهذا خلاف فرضنا، إذ محل الكلام فيما إذا لم يتعين عليه، كما أن في كلام ابن البراج يوجد تناقض بين كون الجهاد واجبا عليه وبين علم المكلف بعدم التمكن، فإذا علم بعدم تمكنه، فكيف يجب عليه الجهاد؟
وقال الشهيد الثاني في المسالك أيضا: فيكون الاستئجار واجبا على الكفاية[13] ، ولا يعرف له وجه، فمع عجز المكلف لا خطاب بالتكليف، ولا دليل على وجود خطاب آخر بالاستئجار.
[أربعة استدلال على وجوب الإستيجار للجهاد]
وقد استدل على وجوب الاستئجار بأربعة أدلة، وهي:
1. قوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾[14] .
2. الخبر العامي: "إِذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا مِنْهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ.[15] "
3. خبر عوالي الآلي لابن أبي جمهور الإحسائي، وهو مرسل، إذ فيه: "الميسور لا يسقط بالمعسور.[16] "
4. خبر وهب بن وهب عن الإمام الصادق عليه السلام عن أبيه، أن عليا عليه السلام سُئل عن الإجعال للغزو، فقال: "لا بأس بأن يغزو الرجل عن الرجل، ويأخذ منه الجعل"[17] ، أي ما يجعله في مقابل الجهاد.
[الجواب عن الأدلة الأربعة]
وجميع هذه الأدلة ضعيفة ولا تنهض بإثبات الوجود.
أما الآية المباركة: فهي أعم من الفرض، وهو كون المكلف موسراً عاجزاً، وذلك أن المكلف إذا كان قادرا على الجهاد وموسرا، وجب عليه الجهاد بماله ونفسه، وإن كان عاجزا وموسرا، وكانت بالمسلمين حاجة إلى المال، وجب عليه أن يجاهد بماله فقط، وإن كان قادرا وفقيرا، وجب عليه أن يجاهد بنفسه إذا لم نشترط القدرة المالية. وإذا اشترطنا القدرة المالية، فلا يجب عليه الجهاد.
فمع كون المكلف موسرا وعاجزا، ولم تكن بالمسلمين حاجة إلى المال، في هذه الحالة لا يجب عليه الاستنابة، ولا يوجد دليل يدل على وجوب الاستنابة. إذاً لا يمكن التمسك بالآية على وجوب الاستنابة.
وأما الحديثان: المدعى جبر ضعفهما بالشهرة، فموردهما ما إذا كان الميسور والمستطاع من سنخ المعسور، فإذا كان الميسور بعض من أبعاض ومن سنخ المعسور، والاستنابة في مورد بحثنا من جنس آخر؛ فهي ليست من نفس عمله. عمله وفعله شيء، واستنابة الآخرين شيء آخر، ففرق بين الفعل المباشر (وهو فعله) وبين الفعل مع الواسطة عن طريق غير مباشر.
وأما خبر وهب بن وهب: فهو ضعيف سندا؛ ضعيف من وهب بن وهب. ودعوى الجبر بعمل المشهور غير تامة، لأن بعض الأصحاب لم يقل بالوجوب، بل الحديث لا يدل على المدعى، لأن نفي البأس يفيد أصل المشروعية لا أكثر، ولا نظر في الرواية إلى وجوب الاستنابة على الموسر العاجز، أو جوازها للموسر القادر.
إذن القول الثاني وهو الوجوب ليس تاما.
القول الثالث: ذهب الفقيه أبو الصلاح الحلبي إلى أن عليه معونة المجاهدين بماله في الخيل والسلاح والظهر والزاد وسد الثغر.[18] انتهى كلامه رحمه الله.
ويمكن أن يستدل بقوله تعالى:
﴿وَكَرِهُواْ أَنْ يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾[19]
فالله عز وجل قد ذمهم على عدم الإنفاق، فيكون الإنفاق واجبا.
وهذا القول ثالث في المسألة؛ يعني عدم وجوب الاستنابة، ووجوب الاستنابة، والقول الثالث هو وجوب معونة المجاهدين بالمال والعتاد، فهذا القول يرى وجوب إنفاق المال.
والصحيح عدم وجوب الاستنابة وعدم وجوب إنفاق المال إلا إذا ألزمه ولي الأمر، فحينئذ يجب عليه.
الفرع الرابع: يأتي عليه الكلام.