« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

46/06/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (الثاني والأربعون): الشرط السادس القدرة المالية

الموضوع: الدرس (الثاني والأربعون): الشرط السادس القدرة المالية

لقد اتفقت كلمات الفقهاء على اشتراط الاستطاعة المالية في وجوب الجهاد الابتدائي، وإن اختلفت عباراتهم في بيان ذلك.

[المجاهد يحتاج إلى المال في ثلاثة أمور]

فالمجاهد يحتاج إلى المال في ثلاثة أمور:

الأول: النفقة على عياله فترة غيابه.

الثاني: السلاح ولوازم القتال.

الثالث: وسيلة النقل والآلات التي يستخدمها في تنقله.

هذه الأمور الثلاث تختلف باختلاف الأزمان والأماكن، وقد اختلفت كلمات الفقهاء في التعبير عنها، ولا موضوعية ولا تعبدية لبعض الأدوات كالفأس أو السيف أو الرمح وما شاكل ذلك.

ولنقرأ كلمات الفقهاء لكي نتعرف على اشتراط القدرة المالية في الجهاد الابتدائي.

صرح الحلبي في "إشارة السبق" باعتبار الاستطاعة له ... بما لا يتم كونه جهاد إلا به من ظهر وآلة وكلفةٍ ونفقةٍ وغير ذلك [1] .

واعتبر السيد ابن زهرة الحلبي في "الغنية" من شرائط الوجوب القدرة على ما يكتسب إليه من ظهر ونفقة[2] ، والمراد بالظهر: الدابة التي يركبها كالحصان أو الحمار أو الجمل.

واشتراط الشهيد الأول في "اللمعة" والشهيد الثاني في "الروضة البهية" السلامة من الفقر الموجب للعجز عن نفقته ونفقة عياله وطريقه وثمن سلاحه[3] ، وقد أشاروا إلى الأمور الثلاثة التي ذكرناها: النفقة والسلاح ووسيلة التحرك.

واعتبر المحقق الحلي في "شرائع الإسلام" من مسقطات فرض الجهاد الفقر الذي يعجز معه عن نفقة طريقه وعياله وثمن سلاحه، ويختلف ذلك بحسب الأحوال[4] .

وإلى هذا ذهب العلامة الحلي في "قواعد الأحكام" حيث قال: ولا فقير يعجز عن نفقة عياله وطريقه وثمن سلاحه[5] . وقد اعتبر المدين المعسر فقيرًا، ولا يجب عليه الجهاد.

ولم يعتبر فريق آخر من الفقهاء ذلك على إطلاق بل قيّدوا شرطية الاستطاعة المالية بالحاجة إلى المال للجهاد. فقيد ابن حمزة في "الوسيلة" اليسار بقوله: واليسار إذا احتاج إليه[6] .

وهو ظاهر العلامة الحلي في "التحرير"، حيث قال: ولو احتاج إلى نفقة وعجز عنها، سقط عنه فرض الجهاد، فإذا كانت المسافة قصيرة، لم يجب حتى يكون له زاد ونفقة عياله في غيبته وسلاح يقاتل به، وإن كانت طويلة افتقر مع ذلك إلى وجود الراحلة والضابط الحاجة إليها سواء قصرت المسافة أو طالت. والشيخ اعتمد مسافة التقصير وليس بمعتمد[7] .

ولكن إذا رجعنا إلى كلمات الشيخ الطوسي في "المبسوط"، فإننا سنجد أنه لم يعتمد مسافة التقصير بل اعتبر الزاد والنفقة فيما دون المسافة، مسافة التقصير، واعتبر الراحلة زيادة على ذلك فيما زاد عن مسافة التقصير.

قال الشيخ الطوسي ما نصه: وأما الإعسار، فإنه ينظر، فإن كان الجهاد قريبًا من البلد وحوله لزم لكل أحد، فلا يعتبر فيه وجود المال، وإن كان على بعدٍ نظر، فإن كان مسافة لا تقصر فيها الصلاة، فمن شرطه الزاد ونفقة الطريق ونفقة من تجب عليه نفقته إلى حين العود، وثمن السلاح، فإن لم يجد فلا يلزمه شيء لقوله تعالى: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ﴾[8] .

وإن كانت المسافة أكثر من ذلك، فمن شرطه أن يكون واجدًا لما ذكرناه في المسافة القريبة وزيادة راحلة، وفي نسخة: وزاد وراحلة لقوله تعالى: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ﴾[9] . يراجع "المبسوط" للشيخ الطوسي[10] .

وممن اعتبر المسافة القاضي ابن البراج الطرابلسي في "المهذب"،[11] فقد فصل بين الحالين. فإذا كان موضع الحرب قريبًا من البلد الذي هو فيه، فالجهاد واجب عليه مطلقًا. وإن كان موضع الحرب أبعد من ذلك، فإن لم توجب قصر الصلاة، فالجهاد واجب عليه أيضًا، وإن أوجبت القصر لم يجب على المعسر الجهاد لحاجته إلى النفقة ونفقة العيال وثمن السلاح وغير ذلك، واستدل على ذلك بالآيتين المتقدمتين في كلام الشيخ.

وقال الشهيد الثاني في "المسالك" في توضيح اختلاف الأشخاص في الاستطاعة المالية، قال: وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْتَادُ النَّفَقَةَ الواسعة، وَهُوَ مِنْ أَهْلِهَا، فَيُعْتَبَرُ فِي حَقِّهِ وَالْفَقِيرُ يَخْتَلِفُ الْحَال فِيهِ بحسب اختلاف الأشخاص، فَقَدْ يُطْلَقُ الْفَقِيرُ عَلَى شَخْصٍ مَعَ مُلْكِهِ لِمَالٍ كَثِيرٍ، وَغَيْرُهُ يُعَدُّ غَنِيًّا بِذَلِكَ الْمَالِ[12] .

هذا تمام الكلام في بيان عبارات الأصحاب، والظاهر عدم اختلاف المراد عند الجميع.

[ الشرط هو الإستطاعة لا الغنى ]

وقد يتوهم اشتراط الغنى العرفي، حيث عبر بعضهم بكون الفقير معذورًا، وقد يتوهم اشتراط الغنى الشرعي، فيقال: تشترط الاستطاعة المالية العرفية أو الشرعية في وجوب الجهاد.

ولكن الظاهر عدم تمامية ذلك، فلا الغنى الشرعي شرط في وجوب الجهاد، ولا الغنى العرفي. بل المدار كل المدار على توفر الاستطاعة في ثلاثة أمور:

[ الإستطاعة في ثلاثة أمور: ]

الأول: نفقة ونفقة عياله.

الثاني: السلاح وما يلزمه في القتال.

الثالث: آلة النقل والحركة.

فمن استطاع هذه الأمور التي تعطيه قدرة على القتال، ومن لم يستطع فلا يجب عليه القتال، ولو كان غنيًا عرفًا أو شرعًا.

[ هل الفقير الشرعي مستطيع؟ ]

فلو كان المكلف فقيرًا بالفقر الشرعي، يعني: لا يجد قوت يومه، ووجد هذه الثلاثة: نفقة عياله، والسلاح، وآلة النقل، كما لو بذل له باذل، فحينئذٍ يجب عليه الجهاد.

ولعله إلى هذه النقطة تنسب كلمات المحقق في "الشرائع"[13] والعلامة في "القواعد"[14] حينما عبر بأن ذلك يختلف بحسب الأحوال والأشخاص.

وقول العلامة في التحرير: "والضابط الحاجة إليها"[15] .

[ هل تكون المسافة مقياسا للإستطاعة؟ ]

وأما من جعل مسافة القصر ومقدار البعد عن البلد مقياسًا لاعتبار الاستطاعة المالية كالقاضي ابن البراج[16] والشيخ على ما قاله العلامة في التحرير[17] ، فإن كان مراده اعتبار ذلك بحسب المتعارف مقياسًا للحاجة إلى المال، فالمقياس هو الحاجة وعدمها كما ذكرنا، ولا مناقشة في هذا المثال. وإن كان مراده اعتبار ذلك مقياسًا تعبدياً، فهو غير صحيح ولا دليل عليه.

سؤال: وهنا ينبثق سؤال التكليف بوجوب الجهاد: يتوجه إلى من؟

الجواب: توجد ثلاثة احتمالات:

الاحتمال الأول أن يتوجه إلى الفرد المكلف من الرجال.

الاحتمال الثاني أن يتوجه إلى الأمة كمجموع، لا إلى الأفراد.

الاحتمال الثالث أن يتوجه إلى الدولة التي تحكم، والأمة ليست هي الدولة، الأمة الإسلامية موجودة في عدة دول، والمراد بالدولة هو الإطار التنظيمي الذي يحكم، والأمة هي الرابط بين أبناء المسلمين.

ذهب المرحوم الشيخ شمس الدين رحمه الله إلى أن المخاطب بالجهاد هو الأمة وليس الأفراد، فالامة مكلفة بالجهاد سواء أكانت منتظمة في دولة أم لا. غاية الأمر أنه حيث يكون الأفراد هم الذين تتشخص بهم الأمة، فهم مكلفون بتهيئة السلاح والمؤونة ووسائل النقل وكل ما تحتاج إليه العملية الجهادية.

فلو فرضنا أن موارد الدولة المنفصلة، كمداخيل الثروات الطبيعية مثل النفط والمعادن، ومداخيل الخدمات العامة كضرائب الجمارك وضرائب الدخل وغير ذلك، قصرت عن تغطية نفقات الحرب وجب على الأمة حينئذٍ أن تموّل ميزانية الجهاد كل بحسبه، كما للدولة أن تفرض ما قد يسمى بضريبة الدفاع، متمظهرة بشكل طابع مالي أو ضرائب إضافية على المعاملات التي تجريها الدولة في دوائرها ليساهم المكلفون بذلك في الميزانية الدفاعية.

وقد تعرض بعض الفقهاء إلى مسألة التسليح على مستوى الدولة وتوفير الميزانية المالية اللازمة لذلك. قال العلامة في التحرير: "ما يحتاج إليه من الكراع، يعني وسائل النقل وآلات الحرب إليه، يؤخذ من بيت المال من أموال المصالح العامة، وكذلك رزق الحكام والولاة والمصالح، يخرج من ارتفاع الأراضي المرفوعة عنوة ومن سهم سبيل الله"[18] .

أقول: ظاهر الآيات والروايات توجه الخطاب إلى أفراد المسلمين، قال تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾[19] ، فظاهر الأمر بالقتال هو توجه الخطاب إلى أفراد المسلمين، وليس ظاهر الآية هو توجه الخطاب إلى الأمة.

نعم، هؤلاء الأفراد يشكلون الأمة، لكن الخطاب لم يتوجه إلى الأمة بل توجه إلى أفراد الأمة، كما أن الآيات والروايات لم تخاطب الدولة أو الحكومة أو الإطار السياسي والاجتماعي الذي يحكم الأمة، بل ظاهر الآيات والروايات في باب الجهاد أنها تخاطب المسلمين كأفراد.

نعم، هؤلاء الأفراد يشكلون الأمة الإسلامية وقد يشكل لهم دولة إسلامية.

وأما ما ذكره العلامة في التحرير، من أن "ما يحتاج إليه من الكراع وآلات الحرب إليه يؤخذ من بيت المال من أموال المصالح العامة"[20] ، فهذا ليس ناظرًا إلى التسليح على مستوى الدولة بل ناظر إلى مصدر تمويل احتياجات المجاهد، فهذا المجاهد الذي يحتاج إلى آلات، ويحتاج إلى سلاح، ويحتاج ويحتاج، هل يدفعه من ماله الشخصي؟

[ السؤال: هل يجب على المجاهد يدفع من ماله الشخصي؟ ]

الجواب: يدفعه من بيت المال لأنه يدافع عن الأمة ويدافع عن المسلمين، ولا تنافي بين توجه الخطاب إلى الفرد المسلم وبين كون مصدر تمويل سلاحه وآلات الحرب يكون من بيت مال المسلمين.

نعم، لو وجد ولي الأمر وكان مبسوط اليد، وهو الفقيه الجانب الشرعي في عصر الغيبة الكبرى، فحينئذٍ أيضًا يتوجه له خطاب بتمويل أبناء المسلمين من بيت المال وتجهيز الجيش للجهاد والقتال في سبيل الله.

هذا تمام الكلام في الشرط السادس: القدرة المالية.

يبقى الكلام في فروع الاستطاعة المالية التي تطرق إليها الفقهاء، كما لو بذله باذل، هل يجب عليه الجهاد؟ نعم، لكن هل يجب عليه القبول أم لا؟ هذه الفروع إن شاء الله نتطرق إليها في الدرس القادم إن بقينا أحياء.


logo