« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

46/06/16

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (الواحد والأربعون): الشرط الخامس القدرة الجسدية

الموضوع: الدرس (الواحد والأربعون): الشرط الخامس القدرة الجسدية

الشرط الخامس: القدرة الجسدية

وقد اتفقت كلمات الحق على اشتراط القدرة الجسدية في وجوب الجهاد.

نعم، لقد تنوعت وتفننت كلماتهم في التعبير عن هذا الشرط، وما ذكروه من صيغ إنما هو مصاديق تتناسب بزمانها وتتناسب مع حروب تلك الأزمنة بكيفياتها المعروفة، ولا نتعقل التعبد المحض في هذه المصاديق التي ذكرها القدماء، ولا ظهور لشيء من الأدلة التعبدية في اشتراط خصوص تلك الأدوات من سلاح ونقل وما شابه ذلك.

[أصل اشتراط القدرة بالعقل]

والقدرة شرط عقلي إذ يستحيل التكليف بغير المقدور، ويقبح تكليف العاجز، فالقدرة في مقابل العجز. نعم، هناك بعض المصاديق لو دل الدليل الشرعي على أنها معتبرة في القدرة، فحينئذ يكون الدليل على اشتراطها هو الدليل الشرعي والنقلي، لكن أصل اشتراط القدرة الجسدية بالدليل العقلي.

ولنتطرق إلى كلمات الفقهاء ابتداءً بشيخ الطائفة أبي جعفر الطوسي وانتهاءً بصاحب الجواهر أعلى الله في الخلد مقامهما لنرى كيف تطرقوا إلى اشتراط القدرة الجسدية.

قال الشيخ في المبسوط ما نصه: " و الأعذار التي يسقط معها فرض الجهاد:العمى و العرج و المرض و الإعسار. فأما الأعور فيلزمه فرضه لأنه كالصحيح في تمكنه "[1] ،.

وقال الحلبي في إشارة السبق: "القدرة عليه بالصحة والخلو من الآفات المانعة منه والاستطاعة له بالخلو من العجز"[2] ، إشارة السبق للشيخ علاء الدين أبو الحسن علي بن أبي فضل الحلبي.

وقال السيد ابن زهر الحلبي في الغنية: "والاستطاعة له بالصحة والقدرة"[3] ،.

واعتبر ابن حمزة في الوسيلة الصحة من جملة شروط الوجوب، وقال: "إن وجوب الجهاد يسقط عن الشيخ الضعيف والمريض والأعمى والأعراج إذا لم يقدر على الحرب"[4] .

وقوله: "الأعراج إذا لم يقدر على الحرب فارساً" أي أنه قد لا يستطيع القتال راجلاً لأنه لا يستطيع العدو لعرجه، لكنه قد يستطيع امتطاء الفرس والقتال فارساً، فإذا عجز عن القتال ولو بوسيلة كالفرس، انتفت حينئذ القدرة، فالمطلوب القدرة إما مباشرة أو بوسيلة بحيث يستند الفعل إلى من أعمل الوسيلة، فإذا قاتل راجلاً أو فارساً أسند القتال إليه ولا يسند القتال إلى الفرس.

وقال الصدوق في الهداية: "ومن لم يقدر على المال، وكان قويا ليست له علة تمنعه، فعليه أن يجاهد بنفسه"[5] .

وقال الشيخ الطوسي في النهاية[6] ، وابن إدريس في السرائر[7] : "ويسقط الجهاد" إلى أن يقول: "عن الشيوخ الكبار"، إلى أن يقول: "والمرضى ومن ليس به نهضة إلى القيام بشروطه".

وقال القاضي ابن البراج الطرابلسي في المهذب ما نصه: "سليم من الشيخوخة والمرض، والعذر الذي لا يمكنه معه القيام بالحرب"[8] ، المهذب الجزء الأول، صفحة مئتين وثلاثة وتسعين.

وقال العلامة الحلي في التحرير: "يسقط فرض الجهاد عن الشيخ الكبير لعجزه وضعف قوته عن الحرب، وعن الأعمى والأعرج إذا لم يقدر على المشي أو الركوب، وعن المريض إذا كان يضر به"[9] .

إذا من خلال نص العلامة في التحرير يظهر أن المرض لا موضوعية له، بل إذا أضر به في القتال، وكذلك الأعرج لا موضوعية له بل إذا لم يقدر على المشي أو الركوب، يعني تحقق العجز عُرفًا وانتفت القدرة الجسدية عُرفًا.

وقال العلامة الحلي في القواعد: "غير هم ولا أعمى ولا مقعد ولا مريض يعجز عن الركوب"[10] ، جامع المقاصد المحقق الكركي، صفحة ثلاثمائة وثمانية وستين.[11]

وقال المحقق الحلي في الشرائع مع نصه: "غير هم" إلى أن يقول: "فلا يجب على ... الشيخ... ويسقط فرض الجهاد بأعذار أربعة: العمى، والزمن كالمقعد، والمرض المانع من الركوب، والعدو والفقر"[12] ، شرائع الإسلام، كتاب الجهاد، الرقم الأول.

وقال الشهيد الأول والثاني في اللمعة والروضة مع نصه: "والبصر والسلامة من المرض المانع من الركوب والعدو، والعرج البالغ حد الإقعاد أو الموجب لمشقة في السعي لا تتحمل عادة، وفي حكمه الشيخوخة المانعة من القيام به"[13] ،

وقال القاضي ابن البراج في المهذب ما نصه: "إنما ذكرنا الشيخوخة التي لا يمكن معها القيام بالحرب، لأن المكلف بالشيء إنما يكون مكلفًا به مع الاستطاعة له وقدرته عليه، فإذا لم يكن مستطيعًا له ولا قادرًا عليه لم يصح كونه مكلفًا به.

وإنما ذكرنا المرض الذي لا يمكن للمريض معه من القيام بالحرب لمثل ما تقدم" أي أن يمنعه من القتال.

"ولأن المرض إما أن يكون ثقيلاً أو خفيفًا، فإن كان ثقيلاً كالحمى اللازِمَة المطبقة أو البرص وما أشبه، فلا يجب الجهاد عليه لقوله تعالى: ﴿وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ﴾[14] ، فإن كان خفيفًا كالحمى التي ليست لازمة ولا مطبقة، بل تكون بالنوبة في وقت وآخر أو وجع الضرس أو الصداع وما أشبه، فذلك لازِمٌ له" أي الجهاد في هذه الأمور تحصل.

"لأنه كالصحيح. فأما الحمى الثانية - يعني غير اللازِمة - فإنما يسقط وجوب ذلك عليه في حالة النوبة إن كان فيها غير قادر ولا يتمكن من القيام بالحرب، فإن لم يكن كذلك فحاله كحال الصحيح السليم، كما قدمنا".[15]

إلى هنا يتضح أن ظاهر كلمات الأصحاب اشترط القدرة الجسدية في وجوب الجهاد الابتدائي.

وبالنسبة للأدلة على اشتراط القدرة الجسدية في وجوب الجهاد الابتدائي، الأدلة على اشتراط القدرة الجسدية في وجوب الجهاد الإبتدائي يمكن تلخيصها فيما ورد في كلمات الشيخ محمد حسن النجفي في جواهر الكلام،إذ قال ما نصه: "ولا على الشيخ الهم العاجز عنه للأصل وظاهر الآية المعتضد بعدم الخلاف المحكي والمحصل، مضافًا إلى قاعدة نفي الحرج المقتضية كالآية للحوق المريض ونحوه به كما صرح به غير واحد، إلا أن يكون مريضًا مرضًا لا يمنعه منه.

نعم لو فرض قوة الهم عليه وجب عليه وإن كبر سنه، كما وقع من عمار بن ياسر في صفين ومسلم بن عوسجة في كربلاء"[16] . انتهى كلامه، زيد في علو مقامه.

[الأدلة الخمسة على اشتراط القدرة في وجوب الجهاد]

وقد ذكر المرحوم صاحب الجواهر في كلامه أربعة أدلة، ولم يذكر الشرط العقلي وهو الأهم في المسألة، فتكون الأدلة خمسة، فإن ناقشنا في الأدلة الأربعة الأخرى، يبقى الدليل الأول محكمًا وهو الدليل العقلي، فتكون الأدلة خمسة كما يلي:

الدليل الأول: الدليل العقلي، إذ يستحيل التكليف بغير المقدور، ويقبح تكليف العاجز.

الدليل الثاني: التمسك بالأصل العملي، والأصل الجاري هنا هو أصل البراءة الشرعية، إذ أنه مورد للشك في التكليف، فإذا شك غير القادر والعاجز عن الجهاد في وجوب الجهاد عليه، جرت أصالة البراءة الشرعية، والأصل أصيل حيث لا دليل، فنوبته متأخرة عن الدليل الاجتهادي.

الدليل الثالث: التمسك بظاهر آية 91 من سورة التوبة، ﴿وَلَا عَلَى الْمَرْضَىٰ﴾[17] إلى آخر الآية، تذكر أنه لا حرج على المريض، ولا حرج على سائر المصادق التي ذكرتها الآية.

الدليل الرابع: التمسك بالإجماع المنقول والمحصل، وقد نقله صاحب الرياض في رياض المسائل، كتاب الجهاد، من يجب عليه الجهاد، الجزء الثامن، صفحة عشر.[18]

ويمكن تحصيله بتتبع النهاية للشيخ الطوسي والمهذب لابن البراج والسرائر لابن إدريس والوسيلة لابن حمزة والدروس الشرعية للشهيد الأول وغيرهم.

الدليل الخامس والأخير: التمسك بقاعدة نفي الحرج، المستفاد من قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ﴾[19] .

ولا داعي للتفصيل في هذه الأدلة نقضًا وإبرامًا لوضوح المسألة في أن العقل يستقل بقبح تكليف العاجز وأنه يستحيل التكليف بغير المقدور.

[تشخيص معنى القدرة الجسدية]

الشارع سيد العرف والآيات والروايات وكلمات الفقهاء تخاطب العرف، فيحمل كلامهم على العرف فيكون المراد من القدرة الجسدية القدرة العرفية، فإذا سبب المرض عاهة أو عاجز بحيث لا يقدر على القتال كان عاجزًا عرفًا، وإن لم يسبب ذلك وكان المريض قادرًا على القتال وجب عليه، فالمدار على القدرة العرفية.

ومن هنا صرحوا بأن الأعمى هو فاقد العينين معًا، فلا يجب عليه الجهاد، لكن قد يجب الجهاد على الأعور وهو الذي يفقد عينا واحدة، والأعشى وهو الذي يبصر بشكل ضعيف خصوصًا في الليل لا يبصر جيدًا، فليس كل مرض أو عاهة صالحًا للمعذرية، فعنوان الشيخوخة بمجرده لا يمنع من تعلق الجهاد بالشيخ الكبير، لذلك جاء في الشرائع: "الشيخ الهم"[20] ، ومن هنا علل العلامة في التحرير بقوله: "لعجزه وضعف قوته عن الحرب"[21] .

وهكذا عنوان العرج بمجرده لا يمنع من تعلق الوجوب بالأعرج إذا لم يكن عاجزًا عن مباشرة الحرب ولو بوسيلة من الوسائل.

ومن هنا قيد ابن حمزة بقوله: "إذا لم يقدر على الحرب فارساً"[22] ، وقال في المسالك: "ولا يلحق به الزمن كالمقعد، الأعرج الذي يمكنه المشي بدون مشقة"[23] .

 

الخلاصة:

العبرة بصدق القدرة عرفًا على الرجل، ولو بوسيلة، خصوصًا في زماننا هذا، فإن كان يقاتل من وراء شاشة ويضرب على الكمبيوتر أو على الزر ويطلق الصواريخ، وكان بإمكانه في حال مرضه أو عرجه أن يضغط على الزر ويطلق الصاروخ، ومن الواضح أن إطلاق الصاروخ لا يستند إلى الجهاز والآلة فقط، بل يستند أيضًا إلى من ضغط على الزر، فحينئذ يصدق عليه أنه قادر وليس بعاجز، فحينئذ يجب عليه الجهاد.

قال الشهيد في المسالك: يجوز اعتباره، يعني اختلاف الأحوال في المريض أيضًا، فإن الأمراض تختلف في اعتبارها بالنسبة إلى أحوال الجهاد وأنواعه، فإن بعض أفراد الجهاد لا يحتاج إلى ركوب ولا عدو فلا يعتبران في المرض. [24]

هذا تمام الكلام في الشرط الخامس، واتضح أن القدرة الجسدية التي يفهمها العرف هي شرط في ثبوت وجوب الجهاد الابتدائي على المكلف.

الشرط السادس: القدرة المالية، يأتي عليها الكلام.


logo