46/06/13
الدرس (الثامن والثلاثون): أدلة اشتراط الحرية في وجوب الجهاد
الموضوع: الدرس (الثامن والثلاثون): أدلة اشتراط الحرية في وجوب الجهاد
قد استدل الفقهاء على اشتراط الحرية في وجوب الجهاد بعدة وجوه، نذكر منها خمسة وكلها قابلة للمناقشة، فتكون النتيجة أن اشتراط الحرية لم يقم عليه دليل معتبر. نعم، قال به المشهور بل ادعي عليه الإجماع والاحتياط في محله.
[ادلة اشتراط الحرية في وجوب الجهاد والمناقشة فيها]
وإليكم الأدلة:
الدليل الأول: إن العبيد لا يملكون شيئًا، وهذا ما يفهم من قوله تعالى: ﴿ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ﴾[1] .
وفيه: لو نظرنا إلى سياق الآية الكريمة، سنجد أنها أجنبية تمامًا عن بيان الحكم الوضعي. فهي ليست في مقام بيان أن العبد لا يملك شيئًا، وإنما هي في مقام بيان وجوب الطاعة والعبادة على العباد بالنسبة إلى خالقهم تبارك وتعالى، لأنه مطلق الوجود والقدرة، ووجود كل ما سوى الله مفاض من وجوده سبحانه وتعالى. في مقابل الموالي العرفيين بالنسبة إلى عبيدهم. فالمراد أنكم أيها الموالي العرفيون تعتبرون أن عبيدكم لا يقدرون على شيء، فكيف ترون لأنفسكم قدرة على شيء في حضرة مقام العزة الإلهية، وهو المولى الحقيقي سبحانه وتعالى؟!
إذن، الدليل الأول ليس بتام.
الدليل الثاني: التمسك بقوله تبارك وتعالى: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ﴾[2]
وقد استدل الشيخ الطوسي رحمه الله في المبسوط بهذه الآية، [3] ، وكذلك القاضي ابن البراج الطرابلسي قال: "المملوك داخل في ذلك لأنه لا يملك شيئًا مما ذكرنا"، المهذب الجزء الأول، صفحة 294.[4]
وقد ناقش هذا الاستدلال المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين بثلاث مناقشات متينة، تراجع في "جهاد الأمة"، صفحة 259.
[المناقشات الثلاثة للشيخ شمس الدين بهذا الإستدلال]
فهذا الاستدلال بالآية الكريمة قابل للتأمل، وفيه وجوه للنظر:
الأولى: إن الآية الكريمة، وهي قوله تعالى: ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم، إنما هي واردة في مقام بيان سقوط التكليف عن ذوي الأعذار، فسياقها أجنبي عن العلم ما للآية ظاهرة في الفقير، لأن قوله تعالى: ﴿لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ﴾ ظاهر في قابليتهم للملكية، ولكنهم لا يملكون المال فعلاً لكي ينفقوه، وليس ظاهر الآية عدم قابلية الملكية فيهم.
الثانية: إن المفروض كون الحرية شرطًا للوجوب، والرق مانعًا منه، سواء كان العبد يملك وكان مالكًا بالفعل ما يكفيه لنفقة الجهاد، لو قلنا بأن العبد يملك والتزمنا فقهياً بقابلية العبد للملكية، أو قلنا إن العبد لا يملك والتزمنا فقهياً بأن العبد غير قابل للملكية؛ فاشتراط الحرية ينبغي أن يمنع الوجوب عن العبد حتى لو كان غنيًا على القول بملكيته.
الثالثة: إن الاستدلال بعدم وجدان العبد للنفقة يبتني على القول بعدم قابليته للتملك، وأما على القول بقابليته للتملك فلا يتم الاستدلال.
[مناقشة أخرى]
وهناك مناقشة أخرى أوضح، وهو أنه هذا الاستدلال يبتني على عدم الوجوب عليه بالبذل له؛ يعني لا يجب عليه الجهاد حتى لو بذل له باذلٌ. فلو افترضنا أن باذلاً بذل المال للعبد واستطاع أن ينفق ويجاهد، لكان واجدًا لما ينفق، ولم ينطبق عليه قوله تعالى: ﴿وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ﴾.
إذن، الاستدلال الثاني ليس بتام لهذه المناقشات الثلاثة.
الدليل الثالث: استدل صاحب الرياض بعنوان الضعفاء الوارد في الآية الكريمة فقال مع نصه: لا بأس بالاستدلال بالآية إن جعل مناط الدلالة قوله ﴿لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ﴾[5] . فإنه بعمومه شامل لكل فاقد الشروط حتى الحرية؛ فإن المملوك ضعيف عاجز لأنه لا يقدر على شيء كما نص في الكتاب[6] ،
وفيه: إن المتبادر من الضعف عرفًا هو الضعف الجسمي من قبيل العمى والعَرَج، لا الضعف بالمعنى الفلسفي، وهو ضعف الملكات وضعف الكمال. فحينئذٍ يكون عطف المرضى على الضعفاء من باب عطف الخاص على العام أو عطف الأظهر على الظاهر، فإن الضعف كما قد يكون ناشئًا من المرض قد ينشأ من غيره كالشيخوخة وصغر السن وما أشبه ذلك.
إذن، الدليل الثالث ليس بتام.
الدليل الرابع: ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله من أنه كان إذا أسلم عنده رجل قال له: "أو حر أو مملوك؟". فإن كان حرًا بايعه على الإسلام والجهاد، وإن كان مملوكًا بايعه على الإسلام. ذكر هذه الرواية الشيخ الطوسي في المبسوط.[7]
لكن هذه الرواية مرسلة، فهي تامة الدلالة لكنها ضعيفة الإسناد، فلا يصح الاستدلال بها.
الدليل الخامس: التمسك بالإجماع المنقول، فقد استدل به صاحب الرياض وقال: "العمدة على اشتراطها الإجماع المنقول المؤيد بعدم ظهور خلاف يُعتد به حتى من الإسكافي لعدم تصريحه بالمخالفة مضافًا إلى الآية المتقدمة بالتقريب الذي عُرفته، إلى أن يقول مضاعفًا إلى الأخبار النبوية".[8]
وفيه:
ويرد عليه أن الإجماع المنقول ليس حجته لأنه إخبار حدسي عن رأي المعصوم، ولا تشمله أدلة اعتبار حجية خبر الثقة، لأنها تختص بخصوص الأخبار الحسية ولا تشمل الأخبار الحدسية. والإجماع المنقول من الأخبار الحدسية لا الحسية.
إذن، لم يقم دليل معتبر على اشتراط الحرية وعدم الرِّق في وجوب الجهاد على المسلم.
وهذه النتيجة هي ما ذهب إليها سيد أساتذتنا المحققين، السيد أبو القاسم الخوئي رحمه الله في "منهاج الصالحين"[9] ، الجزء الأول، صفحة 362، إذ قال رحمه الله ما نصه: 'اشتراط الحرية على المشهور ودليله غير ظاهر، والإجماع المدعى على ذلك غير ثابت. نعم، إن هنا روايتين، إحداهما رواية يونس بن يعقوب قال: "قلت لأبي عبد الله عليه السلام: إن معنا مماليك لنا وقد تمتعوا علينا أن نذبح عنهم". قال: "إن المملوك لا حج له ولا عمرة ولا شيء"[10] ، وسائل الشيعة، الجزء 11، باب أربعة من أبواب جهاد العدو، الحديث الأول.
والأخرى رواية آدم بن علي عن أبي الحسن عليه السلام قال: "ليس على المملوك حج ولا جهاد"[11] ، الحديث الأول والثاني، وسائل الشيعة، الجزء الثامن، باب خمسة عشر من وجوب الحج، الحديث الرابع.
ثم قال السيد الخوئي رحمه الله: "ولا يمكن الاستدلال بشيء منهما على اعتبار الحرية. أما الرواية الأولى فهي ضعيفة سندًا ودلالة. أما سندًا فلأن الموجود في التهذيب وإن كان هو رواية الشيخ بسنده عن العباس عن سعد بن سعد، إلا أن الظاهر وقوع التحريف فيه، والصحيح "عباد عن سعد بن سعد"، وهو "عباد بن سليمان"، حيث إنه رواه لكتاب سعد بن سعد وقد أكثر الرواية عنه، وطريق الشيخ إلى عباد مجهود. فالنتيجة أن الرواية ضعيفة سندًا.
وأما دلالة فلأنه لا يمكن الأخذ بإطلاقها لاستلزامه تخصيص الأكثر المستهجن لدى العرف، أكثر لا شيء عليه، يعني أكثر الأشياء مرفوعة. هذا مضافًا إلى أنه لا يبعد أن يكون المراد من الشيء في نفسه راجعًا إلى الحج.
وأما الرواية الثانية فهي وإن كانت تامة دلالة إلا أنها ضعيفة سندًا، فإن آدم بن علي لم يرد فيه توثيق ولا مدح.
إذن، لم يقم دليل معتبر على اشتراط الحرية في وجوب الجهاد. والعمدة في ذلك هو الإجماع المنقول أو دعوى الشهرة.
لكن لو سلمنا الاشتراط، فغاية ما يقتضيه الاشتراط هو عدم توجه الخطاب الإلزامي بالوجوب إلى العبد، وهذا لا ينافي بقاء مشروعية الجهاد، فيجوز للعبد أن يشترك في القتال، لكن إذا أذن له سيده ورغب هو فيه.
إذن، لابد من توفر قيدين: الأول إذن السيد، الثاني أن يرغب نفس العبد في الجهاد والقتال.
ومن هنا، ذهب الشيخ الطوسي في الخلاف إلى اشتراط مشروعية قتال العبد بإذن السيد، لكن لابد من تقييد كلامه بقيد آخر وهو رغبة العبد أيضًا في القتال واختياره له فيما إذا أذن له مولاه.
فلو وجب الجهاد على العبد بمجرد الإذن أو أمر المولى، لكان الشرط هو ماذا؟ إذن المولى أو أمره، ولم يكن الشرط في الوجوب هو الحرية وعدم الرضا.
وبناءً على ذلك: لو أذن المولى للعبد في الجهاد ولم يرغب العبد في ذلك، فإنه لا يجب على العبد امتثال الأمر فيما إذا أدى القتال إلى تلفه، لأن ولاية السيد على العبد هي ولاية الخدمة مع حفظ الذات والحياة والسلامة هذا غاية ما تقتضيه ملكية المولى لعبده.
وقد صرح العلامة في القواعد بأن العبد لا يجب عليه الجهاد إذا أمره سيده، وعلل ذلك بقوله: "إذ لا حق له في روحه، وإنما له حق الاستخدام، ولا يجب عليه الذب عن سيده عند الخوف"[12] [13] .
[مشروعية قتال العبد بقيدين]
إذن، بناءً على هذا، الحرية شرط في الوجوب، ولا يرفع الرق أصل المشروعية، وتتحقق مشروعية قتال العبد بقيدين:
الأول إذن السيد،
والثاني اختيار العبد للقتال،
فلا يكفي أحدهما دون الآخر، إذ مع عدم إذن السيد تكون الرقية مانعة، ومع عدم اختيار العبد يكون عدم تسلط السيد على روحه مانعًا من الوجوب عليه.
وقد رتب العلامة الحلي في التحرير على هذا الفرض فقال: "لو أخرج الإمام العبيد بإذن ساداتهم والنساء والصبيان، جاز الانتفاع بهم، ولا يخرج المجنون لعدم الانتفاع به"[14] ، لكن لا بد من تقييد كلامه رحمه الله بكون العبد موافقًا على المشاركة في القتال.
فرعٌ:
فإن لو أذن السيد لعبده ثم رجع في إذنه، ذهب العلامة في التحرير إلى أنه إذا حصل الرجوع بعد استقرار الوجوب لم يؤثر. واستقرار الوجوب يتحقق بتلاقي الصفين عند العلامة الحلي، لكن لو كان قد تراجع قبل استقرار الوجوب، فإن رجوعه يؤثر في رفع الوجوب، وهذا الفرض يأتي بحثه إن شاء الله.
إلى هنا، اتضح الشرط الأول وهو التكليف والبلوغ والعقل، والثاني الحرية على المشهور، ولم تثبت بدليل معتبر. على أن صاحب الجواهر في "جواهر الكلام" قال: "بلا خلاف أجده."[15] فالعمدة هو الإجماع المنقول، ولعله محصل عند صاحب الجواهر، إذ قال: "بلا خلاف أجده".
الشرط الثالث الذكورة، يأتي عليها الكلام.