« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

46/06/06

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (السادس والثلاثون): علة مشروعية الجهاد

الموضوع: الدرس (السادس والثلاثون): علة مشروعية الجهاد

يوجد قولان في علة الجهاد:

القول الأول: أساس مشروعية الجهاد القتالي هو صرف الكفر.

فإما أن يكون الكافر كتابيًا فيخير بين الدخول في الإسلام أو الدخول في عهدة الإسلام بدفع الجزية، أو يقتل.

وإما أن يكون الكافر ليس كتابيًا، فحينئذ يخير بين الإسلام والقتل، وهذا ما يعرف بجهاد الدعوة، أي الجهاد والقتال للدعوة إلى الله تبارك وتعالى.

القول الثاني: أو أن علة مشروعية الجهاد القتالي هو كون الكافر محاربًا للإسلام ومعتديًا على المسلمين أو متأهبًا للعدوان عليهم.

اختلف فقهاء المسلمين في ذلك على قولين.

ويمكن مراجعة هذا البحث والخلاف في هذه المسألة، ويرجع إلى كتاب ابن رشد "بداية المجتهد"[1] ، و"المغني"[2] ، و"فتح القدير" لابن همام[3] ، و"مغني المحتاج" للشربيني [4] ، و"التحفه" لابن حجر[5]

قولان في علة مشروعية الجهاد:

القول الأول: إن صرف الكفر علة تامة لقتال مع الكافرين. وذهب إلى هذا القول الحنفية والمالكية والحنابلة وبعض فقهاء الشيعة.

القول الثاني: إن عدوان الكافر هو علة الجهاد القتالي، وقد ذهب إليه بعض فقهاء الشيعة والشافعي في أظهر قوله والظاهرية، وهذا هو مذهب ابن حازم الأندلسي الظاهري في فقه العامة.

ويمكن أن يعاد وأن يذكر قولا ثالثا في المسألة: وهو ما ذهب إليه الفقيه أبو الصلاح الحلبي في كتابه "الكافي"، وهو أن علة الجهاد القتالي هي الكفر، لكن يكون قتال الكافر من قبيل الحد والعقوبة على الكفر وليس للدعوة إلى الإسلام، فبمقتضى هذا القول يكون الكافر إذا أسلم قد أنقذ نفسه من العقوبة وهي القتل.

رجحان للقول الأول هو أن الكفر علة للجهاد القتالي.

[دليل القول الثاني وهو علة الجهاد هي العدوان]

وقد ذهب المرحوم شمس الدين رحمه الله إلى القول الثاني، وهو أن علة الجهاد القتالي هي العدوان المعبر عنه في فقه العام بالحرابة، فإذا لم يكن من الكفار عدوان أو تأهب للعدوان على المسلمين، فإن قتالهم تحت شعار الجهاد لدعوتهم إلى الإسلام يكون أمراً غير مشروع بنظره، واستعرض أدلة من الكتاب والسنة تثبت مشروعية الجهاد القتالي عند العدوان.

[وفيه:]

أقول: إثبات الشيء لا ينفي ما عداه، فالإتيان بآيات وروايات تثبت مشروعية الجهاد القتالي عند عدوان الكفار لا ينفي مشروعية الجهاد القتالي لدعوة الكفار إلى الإسلام. إذ أن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه.

[سؤال: لو نفى الأدلة الجهاد من أجل الدعوة إلي الإسلام]

نعم، لو كان لسان الأدلة من الآيات والروايات مثبتًا للجهاد عند العدوان ونافياً للجهاد من أجل الدعوة إلى الإسلام، فحينئذ تكون هذه الأدلة تامة.

[الجواب:]

لكن الصحيح أن هذه الأدلة إنما تثبت الجهاد القتالي عند العدوان، وهذا ما اصطلحنا عليه بالجهاد الدفاعي، فلا يشترط في الجهاد الدفاعي فعلية العدوان، بل تكفي الشأنية القريبة من الفعلية، كما لو تأهب العدو الكافر لمهاجمة المسلمين.

فتبقى الأدلة التي أقمناها على مشروعية الجهاد الابتدائي على ما هي عليه، وقد أقمنا أربعة أدلة قرآنية وأربعة أدلة روائية، والمجموع ثمانية، ويمكن أن تؤيد ببعض الآيات والروايات.

[الأدلة على رحجان القول الثاني]

ونتطرق إلى الأدلة التي ذكرها المرحوم شمس الدين في "جهاد الأمة" صفحة مئتين وثمانية وعشرين على رجحان القول الثاني، أي أن الجهاد القتالي علته عدوان الكافر.

وسيتضح أنها لا تنفي مشروعية الجهاد الابتدائي، وإنما تثبت مشروعية الجهاد الدفاعي.

الدليل الأول:

الكتاب الكريم

الأدلة على مشروعية الجهاد عند العدوان من كتاب الله كثيرة، وهي على صنفين:

الصنف الأول: الآيات الصريحة في عدم جواز القتال إلا مع العدوان.

الصنف الثاني: الآيات التي قرنت كل أمر بالقتال بالنهي عن العدوان.

ومن الواضح أن قيد النهي عن العدوان قيد غير قابل للتخصيص، فلا يصح في حكم العقل أن يقال: "يحرم عليك العدوان إلا هذا العدوان الفلاني"، فإن أحكام العقل مطلقة آبية عن التخصيص. والعدوان من القبائح العقلية، فيكون داخلاً في كلية التحسين والتقبيح العقليين وغير قابل للتخصيص.

هكذا أفاد المرحوم شمس الدين رحمه الله.

[وفيه:]

أقول: العدوان بمعنى تجاوز الحد، والذي يعين الحد هو الشارع المقدس. فإذا التزمنا وفقا للأدلة بمشروعية الجهاد الابتدائي، فحينئذ يكون القتال الابتدائي ليس تجاوزا للحد، بل ضمن الحدود الشرعية التي أقرها الشارع المقدس، فلا يلزم حينئذ التخصيص، بل يكون المورد من موارد التخصص.

فيكون الجهاد الابتدائي خارجاً تخصصاً لا تخصيصاً، إذ أن الشارع المقدس يكون قد بيّن حدود الجهاد، فذكر حدين:

[الحدان للجهاد:]

الحد الأول: هو القتال لدفع العدوان.

الحد الثاني: هو الدفاع من أجل الدعوة إلى الله والإسلام.

فحينئذ لا يقال: "يحرم عليك العدوان إلا العدوان من أجل الدعوة إلى الله"، إذ أن القتال من أجل الدعوة إلى الله لا يصدق عليه أنه عدوان، فلا توجد حاجة إلى التخصيص، فينتفي ما أفاده رحمه الله.

[التأمل في الآيات التي استدل عليها في الدليل الأول]

[الجواب عن الدليل الأول قبل ذكر الآيات]

أقول: فلنتأمل في هذه الآيات، وسنجد أن موردها الجهاد الدفاعي وهو رد العدوان، وليس ناظرة ولا رادعه للجهاد من أجل الدعوة إلى الله، فإثبات الشيء وهو الجهاد الدفاعي لا ينفي ما عداه وهو الجهاد الابتدائي، فلنتأمل في هذه الآيات الأربعة.

ولنتطرق إلى هذه الآيات:

أما الصنف الأول: وهو الآيات الصريحة في عدم جواز القتال إلا مع العدوان.

فنذكر منها أربع آيات، وهي كلها آيات مدنية، والبعض منها نزل في عهد متأخر جداً.

الآية الأولى: قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[6]

ولا تعتدوا أي قاتلوهم كما يقاتلونكم من دون زيادة عن الحد، ومن دون تجاوز لحدود الله تبارك وتعالى، هكذا يفهم الفهم العرفي، فهي ليست ناظرة إلى الجهاد الابتدائي إذ أنه أجنبي عن مورد الآية.

الآية الثانية: قوله تعالى: ﴿أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةً﴾[7]

الآية الثالثة: قوله تعالى: ﴿ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ﴾[8]

ولا يخفى أن قوله "كما يقاتلونكم كافة" هو للتعليم كما نص على ذلك المفسرون.

الآية الرابعة: قوله تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[9]

[وفيه:]

فهذه الآيات نص على أن مشروعية وعلة الجهاد القتالي هو كونهم معتدين، لكنها لا تنفي مشروعية القتال من أجل الدعوة إلى الله، فهي لا تنفي وجود علة أخرى للقتال وهي الكفر.

وأما الصنف الثاني من الآيات: هي التي قرنت الأمر بالقتال بالنهي عن العدوان.

فقد ورد النص في القرآن الكريم على تحريم العدوان باعتباره أساسًا من أسس العقيدة والشريعة.

قال تعالى: ﴿وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾[10] .

[وفيه:]

وقد أجبنا على الاستدلال بذلك، وهو أن الاعتداء هو عبارة عن تجاوز الحد، فيبقى الكلام في تحديد وتعيين الحد الذي عينه الشارع، فمن يرى أن أدلة مشروعية الجهاد الابتدائي تامة يرى أنها ضمن الحدود التي أقرها الشارع، فلا عدوان في الجهاد الابتدائي.

الدليل الثاني:

السنة الشريفة

وهناك روايات كثيرة من طرق السنة والشيعة تدل على مشروعية الجهاد للدفاع عن النفس والأهل والعرض ولدفع العدوان عن الأمة.

وقد تطرق المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله إلى 32 رواية قد يستدل بها على مشروعية الجهاد الابتدائي، وناقشها سنداً ودلالة، وانتهى إلى أنها لا تدل على مشروعية الجهاد الابتدائي، وذهب إلى عدم مشروعية الجهاد الابتدائي لأن الآيات والروايات والإجماع وسيرة المتشرعة لا تنهض بالدلالة على مشروعية الجهاد الابتدائي.

[رد الدليل الثاني:]

وقد اتضح فيما تقدم أن الأدلة تنهض بذلك، فقد أقمنا أربعة أدلة من القرآن الكريم وأربعة أدلة من الروايات الشريفة تثبت مشروعية الجهاد الابتدائي.

فتكون النتيجة إن علة مشروعية الجهاد الابتدائي هي صرف الكفر؛ فالكافر يقاتل ليس من باب العقوبة كما في كلمات أبي الصلاح الحلبي، وليس من أجل توسعة الدولة الإسلامية والسيطرة على أراضٍ إضافية وتوسعة الحكم والسلطنة، بل من أجل الدعوة إلى الله، ولا تصل النوبة إلى الجهاد إلا في مرتبة متأخرة، فهناك الدعوة إلى الله بالقول الحسن وبالتي هي أحسن، فإذا انتهينا إلى القتال وتهيئة الظروف للدعوة إلى الله والإسلام، فحينئذٍ يشرع الجهاد الابتدائي.

وقد دل على مشروعيته الآيات والروايات، وهو معروف في كلمات الفقهاء من الشيعة والسنة، فمعروف بعنوان جهاد الدعوة في كلمات العامة، كما أن الجهاد الدفاعي معروف بعنوان جهاد الحرابة أو المحاربين.

هذا تمام الكلام في أدلة القول الثاني، وهو أن العدوان هو علة الجهاد، واتضح أنها تامة، لكنها لا تنفي العلة الثانية التي هي علة القول الأول، وهو أن الكفر هو العلة.

إذن يبقى الكلام في أدلة القول الأول هل هي ناهضة بأن الكفر هو علة القتال والجهاد أو لا؟.

يأتي عليه الكلام.


logo