« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

46/05/24

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (الخامس والثلاثون): شمول كلمات الفقهاء لموارد الجهاد الدفاعي عدا صورتين

الموضوع: الدرس (الخامس والثلاثون): شمول كلمات الفقهاء لموارد الجهاد الدفاعي عدا صورتين

تطرقنا إلى كلمات الفقهاء الثلاثة عشر في الجهاد الدفاعي، واتضح شمولها للموارد الأول من الموارد الثلاثة للجهاد الدفاعي، وهو أن يعتدي الكفار على المسلمين فعلاً أو يهموا بالاعتداء.

نعم، خرج من الموارد الأول صورة واحدة، وهي الحرب الاقتصادية كما لو قام الكفار بإرهاب الطرق الدولية لتجارة المسلمين، فكلمات الفقهاء غير ناظرة إلى الحصار الاقتصادي وتغيير مجاري الأنهار ومنابع المياه وغير ذلك.

[المورد الثاني]

أما المورد الثاني وهو إحداث الكفار الفتنة بين المسلمين والعمل على تفريق كلمتهم.

فلا شك أن كلمات الفقهاء ظاهرة في مشروعية الجهاد الدفاعي عند حصول الفتنة من قبل الكفار، فإن الفتنة بين المسلمين أمر يخاف منه على الإسلام والمسلمين، وتدخل في عموم قول الفقهاء أو إطلاقهم للفظ الأمر.

وكذلك عبارة من عبر بهذا التعبير "دهم أمر يخشى" أو "أمر يخاف منه على بيضة الإسلام والمسلمين" فإن ظهور هذه التعابير لا يقتصر على خصوص العدوان الحربي الفعلي أو الوشيك، بل تشمل أعمال الفتنة وأساليب التخريب الأمني والاقتصادي والسياسي والإجتماعي، فيكون الدفاع مشروعاً ضدها لحماية المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية، فلابد أن يحزم المسلمون أمرهم الداخلي ويدافعوا عن أنفسهم ضد الدولة أو الأمة المعتدين.

[المورد الثالث]

أما المورد الثالث وهو أن يعتدي الكفار على شعب مستضعف.

وللشعب الملسم صورتان:

الصورة الأولى أن يكون الشعب مسلماً.

والصورة الثانية أن يكون الشعب كافراً.

فكلمات الفقهاء لا تشمل ولا تعم المورد الثاني، وهو ما إذا كان المجتمع الآخر كافراً، لكنها صريحة في وجوب الدفاع في الصورة الأولى، وهي ما إذا كان المجتمع الآخر مسلماً، كقول الشيخ الطوسي[1] وابن إدريس[2] في عبارتهم المتقدمة: " أو يخاف على قوم منهم "، وقول ابن حمزة[3] : "يخاف على مسلم في نفسه وماله" فإنه يشمل هذه الحالة، وهي الاعتداء على مجتمع مسلم غير مجتمعنا، فالمعتدى عليهم قد يكونون جزءاً من مجتمع المدافعين، وقد يكونون جزءاً من مجتمع إسلامي آخر منفصل، كما هو الحال اليوم في غزة ولبنان، فهذه مجتمعات إسلامية بعيدة عنّا، فإذا هجم الإسرائيليون والصهاينة المعتدون عليهم، وجب الدفاع عنهم.

[تنبيه مهم]

[شرعية الدفاع عن غير الشيعة]

ربما يتوقف البعض عند شرعية دفاع الشيعة الإمامية عن غيرهم من المسلمين المخالفين كأهل السنة أو الزيدية أو الإسماعيلية. ولعل هذا التوقف يظهر من عبارة أبي الصلاح الحلبي المتقدمة في قوله: "الدفع عن دار الإيمان"[4] .

ومنشأ التوقف ما عاناه الشيعة الإمامية على مر الزمان من مطاردة وفتنة وعدوان على يد بعض الجماعات والغلاة.

لكن الصحيح أن هذا ليس بتام لأمرين:

الأمر الأول هو التأمل في نفس عبارات أبي الصلاح الحلبي.

فعندنا حلبيان:

الأول: شيخنا الحلبي، عندنا أبو الصلاح الحلبي صاحب "الكافي". وقد ذكرنا قوله كقول ثانٍ،

الثاني: وعندنا الحلبي الذي ذكرناه في القول السادس في كتاب إشارة السبق، وهو الشيخ علاء الدين أبو المجد الحلبي. وكلامنا ليس عن أبي المجد الحلبي، بل كلامنا عن أبي الصلاح الحلبي صاحب "الكافي”.

فلو تمعنا في كلماته لوجدنا أن مراده من دار الإيمان هي خصوص دار الإسلام وليس خصوص التشيع، فلنقرأ كلامه الذي ذكره في "الكافي" في الفقه، سلسلة الينابيع الفقهية، فصل في الجهاد وأحكامه، صفحة واحد وثلاثين.

ففي كلامه يوجد مقطعان: في البداية يذكر الإسلام، ثم يعقب بدار الإيمان، مما يكشف أن مراده من دار الإيمان هو نفس دار الإسلام.

قال رحمه الله: «فإن خيف على بعض بلاد الإسلام من بعض الكفار أو المحاربين، وجب على أهل كل إقليم قتال من يليهم ودفعه عن دار الإيمان».

فيفهم من قوله: "دار الإيمان" بلاد الإسلام، لأن صدر المسألة يتكلم فيها عن الخوف على بعض بلاد الإسلام.

ويلاحظ المقطع الثاني إذ قال رحمه الله ما نصه: «وعلى قطان البلاد النائية عن مجاورة دار الكفر أو الحرب النفور إلى أقرب ثغورهم بشرط الحاجة إلى نصرتهم حتى يحصل بكل ثغر من أنصار المسلمين من يقوم بجهاد العدو ودفعه فيسقط فرض النفور عن من عداهم».

إلى أن يقول الآن شاهد : «ويقصد المجاهد. والحال هذه نصرة الإسلام والدفع عن دار الإيمان»، ومن الواضح أنه مراد من دار الإيمان هو دار الإسلام.

[المناقشة الأولى التي أجيب عنها أخيرا]

إن نفس كلام أبي الصلاح الحلبي ظاهر في دار الإسلام، لا خصوص دار الإيمان بمعنى بلاد التشيع الإمامي، هذا أولا.

[المناقشة الثانية]

وثانيا لو تنزلنا وحملنا قوله: "دار الإيمان" على المصطلح الخاص وهو الإيمان بمعنى كون الشخص مسلم شيعي إثنى عشري، فإن حصر وجوب الدفاع بخصوص بلاد الإيمان والتشيع يحتاج إلى دليل، ونتمسك لوجوب الدفاع عن مطلق بلاد الإسلام سواء كانت إمامية أو غير إمامية بمقتضى مطلقات الآيات والأخبار، ويؤيده صريح كلام أكثر الفقهاء إلى الحد الذي يمكن تحصيل الإجماع عليه.

بل جرت سيرة الفقهاء على عدم ملاحظة الانتماء المذهبي للمسلمين، وجعل الملاك في باب الجهاد هو عنوان الإسلام الجامع لجميع طوائف المسلمين، وعنوان الأمة الواحدة.

[الجهاد مع السلطان الجائر]

وأما ما ورد من الأخبار التي تدين بذات خروج إلى الجهاد تحت لواء السلطان الجائر والظالم، فالملحوظ فيها خصوص النظام الجائر ودعم السلطان الظالم، وليس الملحوظ فيه الأمة المحكومة والمظلومة، وهذا يقودنا إلى بحث الجهاد مع السلطان الجائر: فهل هو جائز أم لا؟

[توضيح الإشكال]

هذا البحث نشأ من القول بوجوب الجهاد الدفاعي في عصر الغيبة، فنشأ إشكال يتعلق بالموقف من الحاكم الجائر.

فمقتضى عدم مشروعية حكم السلطان الجائر عدم جواز الدفاع عن كيانه وسلطنته، بل حرمت مطلق ما يؤدي إلى تقويته ودعمه.

ومن جهة أخرى، إن مقتضى وجوب الجهاد الدفاعي إذا تحقق المقتضي والموضوع، وهو دهم الكفار لبلاد المسلمين، هو وجوب القتال تحت لواء الحاكم الجائر لصد العدو الغازي، وفي القتال تحت لواء السلطان الجائر اعتراف بشرعية حكمه ودعم لسلطنته وكيانه، فما هو الحل لهذا التعارض؟

[حل الإشكال]

وقد جاء الحل فيما ذكرناه من كلمات الفقهاء المتقدمين كالشيخ الطوسي وغيره، وهو أن يقوم المجاهد بواجبه الجهادي تحت راية السلطان الجائر، لكن من دون أن يجعل من نفسه جزءًا من كيان السلطان الجائر، ولا يقصد الدفاع عن ذلك النظام، بل يقصد الدفاع عن نفسه وأهله والمسلمين أو بلاد الإسلام.

[روايات النهي عن المحاربة تحت لواء الجائر]

لكن في بعض الروايات ما ظاهره التشنيع والنهي عن المحاربة تحت لواء السلطان الجائر، ولعل أصرح هذه الروايات في هذا المجال رواية يونس بن عبد الرحمن عن الإمام الرضا عليه السلام قال: «سأل أبا الحسن عليه السلام رجل وأنا حاضر، فقلت له: جعلت في ذاك إن رجلين من مواليك بلغه أن رجلاً يعطي سيفاً وقوساً في سبيل الله، فأتاه فأخذهما منه...».

في نسخة الكافي توجد إضافة، «وهو جاهل بوجه السبيل»[5] .

«ثم لقيه أصحابه فأخبروه أن السبيل مع هؤلاء لا يجوز.

قال: فليفعل.

قال: قد طلب الرجل فلم يجده، وقيل له: قد قضى الرجل، وفي نسخة: قد مضى الرجل.

قال: فليرابط ولا يقاتل.

قال: مثل قزوين وعصقلان والديلم وما أشبه هذه الثغور.

قال: نعم.

في نسخة توجد هذه الإضافة، «قال: فإن جاء العدو إلى الموضع الذي هو فيه مرابط، كيف يصنع؟

قال: يقاتل عن بيضة الإسلام، لا عن هؤلاء»، كما في نسخة على الشرائح.

«قال: يجاهد؟

قال: لا إلا أن يخاف على دار المسلمين، أرأيتك لو أن الروم دخلوا على المسلمين، لم ينبغ لهم أن يمنعوهم؟» وفي نسخة «لم يسع لهم أن يمنعوهم».

قال: «يرابط ولا يقاتل، وإن خاف على بيضة الإسلام والمسلمين قاتل، فيكون قتاله لنفسه، لا للسلطان، لأن في دروس الإسلام دروس ذكر محمد صلى الله عليه وآله»[6] .

[إسناد الحديث]

روي هذا الحديث بأربعة أسناد، ثلاثة منها صحيحة، والرابع قابل للتأمل والتضعيف.

السند الأول: محمد بن الحسن بإسناده عن محمد بن الحسن الصفار عن محمد بن عيسى عن يونس.

السند صحيح، البعض قد يتأمل في محمد بن عيسى اليقطيني لأنه استثناه محمد بن أحمد بن يحيى في نوادر الحكمة، لكن الصحيح أنه استثناه للإسناد المنقطع لا لتضعيف شخصه، فهو ثقته.

السند الثاني: محمد بن علي بن الحسين في علال الشرائع عن أبيه عن سعد بن عبد الله عن محمد بن عيسى عن يونس.

السند صحيح.

السند الثالث: محمد بن يعقوب عن علي بن إبراهيم عن محمد بن عيسى اليقطيني عن يونس بن عبد الرحمن.

السند أيضاً صحيح.

طبعاً، من يضعف محمد بن عيسى ليقطيني، تكون الأسانيد الثلاثة ضعيفة لورود اليقطيني فيها.

السند الرابع: محمد بن يعقوب الكليني عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن يحيى بن أبي عمران عن يونس.

هذه الرواية ضعيفة بيحيى بن أبي عمران الهمداني اليونسي، لقب باليونسي لكثرة روايته عن يونس بن عبد الرحمن، وكان من تلامذته، لم يوثق، لكن يمكن عده في الحسان والممدوحين.

فتكون الرواية السند الرابع إما ضعيفة أو حسنة.

أما محمد بن عيسى، هو محمد بن عيسى بن عبيد بن يقطين، وهو ثقة.

النتيجة: الرواية صحيحة السند، الأسنايد الثلاثة الأول دون السند الرابع.

[دلالة الحديث]

أما الدلالة فواضحة، فهذه الرواية محمولة على حرمة القتال تحت راية الجائر لو قصد المقاتل الدفاع عن الجائر أو عن نظام الجائر، كما لو نوى أن يكون جزءاً من نظام الجائر ودرعاً له، فيدافع عن السلطان الجائر بقطع النظر عن أي جهة تهدد نظام السلطان الجائر.

لكن لو خرج المسلم إلى القتال لا بعنوان الدفاع عن السلطان الجائر أو حكم السلطان الجائر، بل الدفاع عن نفسه أو عن عرضه أو عن بيضة الإسلام والمسلمين، فيكون دفاعه حينئذٍ مشروعاً لأنه دافع عن بيضة الإسلام والمسلمين.

هذا تمام الكلام في الجهاد الدفاعي.

واتضح أن الجهاد الدفاعي تام بمقتضى الآيات والروايات، كما أن الجهاد الابتدائي تام بمقتضى الآيات والروايات.

وكلمات الفقهاء صريحة في مشروعية كلا الجهادين: الجهاد الابتدائي والجهاد الدفاعي.

فما هي علة مشروعية الجهاد؟ هذا ما سنبحثه إن شاء الله في الأيام المقبلة.


logo