46/05/22
الدرس (الثالث والثلاثون): موارد ثلاثة لوجوب الجهاد الدفاعي
الموضوع: الدرس (الثالث والثلاثون): موارد ثلاثة لوجوب الجهاد الدفاعي
موارد ثلاثة لوجوب الجهاد الدفاعي:
المورد الأول: أن يعتدي الكفار على المسلمين أو يهموا به، وهذا المورد تتناوله صريح الآيات والروايات، فهو القدر المتيقن من مشروعية ووجوب الجهاد الابتدائي، ولكن لم يرد في هذه الأدلة شيء من ذكر الحرب الاقتصادية التي قد يدعى أنها مندرجة في المورد الأول، فهي ليست مشمولة للقتال الوارد في لسان الأدلة.
ولكن يمكن أن يدعى أن الكتاب الكريم ناظر بإطلاقه إلى مثل هذا المورد، فيمكن التمسك للرد على الحرب الاقتصادية والقتال بقوله تعالى:
﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾[1] .
فالمفهوم العرفي للحرب الاقتصادية يصدق عليه أنه عدوان على من حرضت عليه الحرب الاقتصادية أو المقاطعة.
لكن قد يقال: إن المثلية هنا لا تقتصر على القتال بل بجنس العدوان، فإذا كان الاعتداء اقتصادياً فإن يرد عليه بمثله وهو الاعتداء الاقتصادي، ولا تصل النوبة إلى القتال.
وفيه: أولاً إن المثلية في الآية الكريمة ناظرة إلى أصل الرد والفعل المقابل للعدوان قصاصاً على ما انتهك المعتدون من حرمة، أي كما الإعتدى الأعداء عليكم وتجرؤوا وعادوكم فلكم أيضاً أن تردوا عدوانهم، فالمثلية ناظرة إلى أصل الرد وليست ناظرة إلى الأساليب والوسائل التي اعتدى بها الأعداء، فالآية لا تقول: "إذا اعتدى عليكم الأعداء بأساليب وأدوات فردوا عدوانهم بنفس وبمثل الأدوات والوسائل والأساليب"، كلا وألف كلا، بل الآية تقول: بما أن الأعداء قد اعتدوا عليكم، فلكم أن تردوا عدوانهم.
وهذه الآية وإن كان موردها قتال الكفار في الأشهر الحرم، بعد أن انتهكوها وابتدأوا المسلمين بالقتال في الأشهر الحرم التي يحرم فيها القتال، لكن الآية عامة لغير الأشهر نظراً لقوله تعالى: ﴿وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ﴾.
ثانياً لو تنزلنا وقلنا إن آية ﴿فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم﴾ لا تشمل مورد الحرب الاقتصادية، فإنه يمكن التمسك بمطلقات آيات الجهاد والدفاع عن بيضة الإسلام وناموس المسلمين، فالله عزّ وجل أعطى للفرد من جهة والجماعة من جهة أخرى حقوقاً في الدفاع عن الذات والوجود عند اعتداء الظالم عليه، من دون استفزاز أو تسبب من المظلوم، وهذا يفيد مشروعية الدفاع بأي وسيلة متاحة، فهذا واضح كل الوضوح.
المورد الثاني: إحداث الكفار الفتنة بين المسلمين أو تسببهم ما يمكن أن يؤدي إلى إشعال نار حرب داخلية أو ما يوجب ضعف المسلمين.
ووجوب الجهاد الدفاعي في هذا المورد الثاني واضحٌ، لعين ما ذكرنا في المورد الأول.
ومثاله في زماننا: ما لو أحدث الكفار حرباً ناعمة، فهناك حرب خشنة وهي بالقتال، وهناك حرب ناعمة لا تشعر بها، ولكن من خلال الإعلام والعملاء في وسط المجتمع، يعملون مظاهرات وأعمال قد تكون تخريبية وقد تكون سلمية، لإسقاط النظام الإسلامي.
وقد يقوموا بحملات إعلامية، وقد يحدثوا عدة فتن داخلية، والغرض هو إسقاط النظام من خلال منظمات المجتمع المدني، فظاهرها حسنٌ وباطنها إسقاط النظام الإسلامي وتمزيق المسلمين.
ومن الواضح أن أدلة الدفاع عن بيضة الإسلام تشمل هذا المورد، فيجب الدفاع.
المورد الثالث: أن يعتدي الكفار على شعب مستضعف.
وهذا له صورتان:
الصورة الأولى أن يكون الشعب المستضعف المعتدى عليه مسلماً.
الصورة الثانية أن يكون الشعب المستضعف المعتدى عليه كافراً.
أما الصورة الأولى: فيمكن الاستدلال على وجوب الجهاد الدفاعي فيها بقوله تعالى:
﴿ وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا ﴾[2] .
فالخطاب في هذه الآية:
إما خطاب للأمة كمجموع وكيان،
وإما خطاب لأفراد الأمة، أي أن الخطاب قد توجه إلى الأفراد بما هم أعضاء في أمة الإسلام.
[وجوب الدفاع عن دول إسلامية أو شعب مسلم]
وهذه الأمة الإسلامية قد تتشكل من كيانات سياسية وعدة دول وأنظمة مختلفة ودول متفرقة، لكن عنوان الأمة الإسلامية يعمها جميعًا، كما هو الحال في يومنا هذا: 22 دولة عربية و57 دولة إسلامية، كياناتها وأنظمتها السياسية مختلفة.
فحينئذ لو تعرض شعب أو دولة إسلامية أو كيان من كيانات هذه الأمة، وجب الدفاع عنه، كما هو الحال في يومنا هذا، ما يعمله الإسرائيليون في غزة شمال فلسطين المحتلة، وفي جنوب لبنان، فيتوجه التكليف إلى جميع الأمة، فما قام به الشهيد السعيد حجة الإسلام والمسلمين السيد حسن نصر الله أعلى الله في الخلد مقامه من تشكيل جبهة إسناد لغزة، إنما منطلق بالحكم الشرعي وهو وجوب الدفاع عن المسلمين في غزة الذين انتهك الإسرائيليون والصهاينة حرمتهم، فهذا المورد يشمله إذا تعرضت بيضة الإسلام أو تعرض المسلمون للاعتداء، فحينئذ يجب الدفاع.
إذن الصورة الأولى من المورد الثالث، وهو ما إذا كان المعتدى عليه دولة إسلامية أو شعب مسلم، فهذا واضح في وجوب الجهاد.
أما الصورة الثانية: وهي ما إذا كان المعتدى عليه شعب مستضعف غير مسلم، فيمكن الاستدلال على الوجوب فيه بما هو معلوم من نهج الإسلام في محاربة الطاغوت بكل أشكاله السياسية والاقتصادية والاجتماعية، واعتبار محاربة الطاغوت حرباً في سبيل الله، فيمكن الاستدلال على مشروعيات قتال الكفار الذين اعتدوا على كفار، لكنهم مظلومون ومستضعفون بقوله تعالى:
﴿الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾[3] .
فالكفار على قسمين:
قسم من أهل الطاغوت،
وقسم من المستضعفين،
ولا يوجد تساوي بين عنوان الكفر وعنوان الطاغوت إذ إنه قد يكون الكافر مستضعفًا لا يفقه شيئًا وليس طاغوتًا معاندًا.
ويلاحظ في قوله تعالى: ﴿أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ﴾ فقد يراد من أولياء الشيطان من جعل الشيطان وليًا وصاحب ولاية عليهم، فللشيطان نحو سلطة عليهم، فأولياء الشيطان هم الحكومات الكافرة الطاغية، والمسلمون مأمورون بقتالهم سواء اعتدوا على المسلمين أو اعتدوا على غير المسلمين من المستضعفين والمسالمين، فلعنوان كونهم معتدين وأولياء الشيطان وأولياء الطاغوت، يصح رد اعتدائهم، ويشرع الجهاد الدفاعي في مواجهتهم.
مثال ذلك في العصر الحديث:
المجتمع الإسرائيلي وتأسيس الولايات المتحدة الأمريكية الذي قام على قتل السكان الأصليين وهم الهنود الحمر، وهناك بعض الوثائق التاريخية تذكر أن الهنود الحمر كانوا مسلمين، وأن الأوربيين من الإنجليز وغيرهم قتلوهم وأسسوا الولايات المتحدة الأمريكية، فسواءً كان الهنود الحمر مسلمين أو لم يكونوا مسلمين، بل كانوا مستضعفين، ورأيت هذا الطاغوت من الكفار يقتلهم ويستأصلهم، فحينئذ يجب الدفاع.
إلى هنا، ذكرنا موارد ثلاثة للجهاد الدفاعي.
[موقف الفقهاء من الجهاد الدفاعي]
لو راجعنا كلمات الأصحاب والفقهاء فإننا سنجد أنها مركزة على بيان المورد الأول، وهو أن يعتدي الكفار على المسلمين في إعلان أو يهموا ويعد العدة للهجوم على المسلمين، ولم يتعرضوا إلى الحرب الاقتصادية أو الحرب الناعمة أو غير ذلك، كإيجاد الفتنة الداخلية، كما في المورد الثاني. ولم يتعرضوا إلى المورد الثاني الاعتداء على مجتمع آخر إما مسلم، كما في الصورة الأولى من المورد الثاني، أو غير مسلم، كما في الصورة الثانية من المورد الثاني.
ولكن يمكن أن يدعى أن كلمات الفقهاء بعضها يشمل المورد الثاني، وكذلك الصورة الأولى من المورد الثالث، دون الصورة الثانية من المورد الثاني.
[كلمات الفقهاء التي تشير إلى بعض هذه الموارد الثلاثة]
فلنقرأ هذه الكلمات ابتداءً بشيخ الطائفة محمد بن الحسن الطوسي، المتوفى سنة 460 هجرية قمرية، وانتهاءً بالشهيدين الأول والثاني رضوان الله عليهما، والجهاد الدفاعي مشروعيته ووجوبه من أوضح الواضحات، ولنقرأ كلمات الفقهاء:
الفقيه الأول الشيخ الطوسي قال في المبسوط: «هذا كله إذا لم يتعين الجهاد، فإن تعين وأحاط العدو بالبلاء، فعلى كل أحد أن يغزو، وليس لأحد منعه، لا الأبوان ولا أهل الدين»[4] .
وكان كلام الشيخ الطوسي في البداية عند قوله: «هذا كله» ناظرًا إلى وجوب أخذ إذن الإمام المعصوم، فهو يتكلم عن شروط الجهاد لابتدائه، ثم عطف على الجهاد الدفاع.
وقال الشيخ الطوسي في موضع آخر من المبسوط ما نصه: « إلا أن يدهم المسلمين أمر يخاف معه على بيضة الإسلام و يخشى بواره أو يخاف على قوم منهم فإنه يجب حينئذ دفاعهم و يقصد به الدفع عن النفس و الإسلام و المؤمنين و لا يقصد الجهاد ليدخلوا في الإسلام »[5] .
ومن الواضح أن قوله: «ولا يقصد الجهاد ليدخلوا في الإسلام»، أنه يقصد الجهاد الابتدائي، فقد ذكر الجهاد الدفاعي في مقابل الجهاد الابتدائي.
وقال الشيخ الطوسي في النهاية ما نصّه: «اللهم إلا أن يدهم المسلمين أمر من قبل العدو يخاف منه على بيضة الإسلام، ويخشى بواره، أو يخاف على قوم منهم، وجب حينئذٍ جهادهم ودفاعهم»[6] .
وقوله رحمه الله: «اللهم» هذا استدراك على الشروط المعتبرة في الجهاد الابتدائي.
الفقيه الثاني أبو الصلاح الحلبي في الكافي قال: «وإن كانت داعي إليه غير ما ذكرناه يقصد الإمام المعصوم، وجب التخلف عنه مع الاختيار، فإن خيف جانبه، جاز النفور لنصرة الدين دونه، فإن خيف على بعض بلاد المسلمين من بعض الكفار أو المحاربين، وجب على أهل كل إقليم قتال من يليهم ودفعه عن دار الإيمان، وعلى قطان البلاد النائية عن مجاور دار الكفر أو الحرب النفور إلى أقرب ثغورهم، بشرط الحاجة إلى نصرتهم، حتى يحصل بكل ثغر من أنصار المسلمين من يقوم بجهاد العدو ودفعه عنه، فيسقط فرض النفور عن من عداهم، وليقصد المجاهد والحال هذه نصرة الإسلام والدفع عن دار الايمان ، دون معونة المتغلب على البلاد من الأمر »[7] .
الفقيه الثالث القاضي ابن البراج في المهذب قال: « فان دهم المسلمين العدو وهجم عليهم في بلدهم جاز لجميع من في البلد قتاله على وجه الدفع عن النفس والمال »[8] .
الفقيه الرابع ابن إدريس.
إن شاء الله نكمل بقية الموارد.