46/04/23
الدرس (الخامس عشر): مناقشة الآيات التي استدل بها على وجوب الجهاد الابتدائي
الموضوع: الدرس (الخامس عشر): مناقشة الآيات التي استدل بها على وجوب الجهاد الابتدائي
[الجهاد الإبتدائي مسلم عند الفقهاء]
ذكرت عدة آيات يمكن أن يستدل بها على وجوب الجهاد الابتدائي، وقد أرسل الفقهاء وجوب الجهاد الابتدائي إرسال المسلمات حتى أنهم لم يستدلوا على وجوبهم.
فإذا تراجع شرائع الإسلام للمحقق الحلي، وتبصرة المتعلمين للعلامة الحلي، وشروحهما كجواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام، الشيخ محمد حسن النجفي، فإنك ستجد أنهم لم يفردوا باباً لإقامة الأدلة على وجوب الجهاد الابتدائي، بينما أفردوا باباً لجهاد الباغين واستدلوا على وجوب جهاد الباغين، فكأنما وجوب الجهاد الابتدائي واضحٌ لديهم لا يحتاج إلى إقامة الدليل.
[إنكار الجهاد الإبتدائي]
لكن المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين رحمه الله أنكر أصل وجوب الجهاد الابتدائي، وحاول أن يستدل عليه من الكتاب والسنة، وناقش في الأدلة التي أقامها وانتهى إلى عدم وجوب الجهاد الابتدائي، بقطع النظر عن كونه في عصر حضور المعصوم أو في عصر غيبة المعصوم، فهو قد أنكر أصل ثبوت جهاد الدعوة المسمى بالجهاد الابتدائي.
وقد ذكر عشر آيات ذكرناها في الدرس السابع وناقشها[1] ، ومفاد مناقشته وسنذكرها بالتفصيل وسنرد عليها بالتفصيل إن شاء الله تعالى، وللرد عليها يمكن مراجعات كتاب سيدنا الأستاذ المرجع الديني السيد كاظم الحائري الكفاح المسلح في الإسلام صفحة ثلاثة وعشرين، وكتاب الجهاد للمرحوم الشيخ محمد مهدي الآصفي صفحة تسعة وعشرين إلى أربعين، ولكن من باب العلمية ينبغي أن نطرح جميع ما قاله المرحوم شمس الدين بالنصّ، ثم بعد ذلك نرد عليه، وسيتضح إن شاء الله أن الجهاد الابتدائي ثابتٌ بالكتاب والسنة وسيرة المتشرعة بلا ريب.
مناقشة الاستدلال بالآيات العشر على وجوب الجهاد الابتدائي
قال الشيخ شمس الدين رحمه الله هذا الاستدلال غير صحيح لأمرين:
الأمر الأول إن جملة من الآيات المذكورة واردة لبيان أصل تشريع الجهاد القتالي في مقابل الجهاد اللساني بالحكمة والموعظة الحسنة، وليست ناظرة إلى خصوصيات هذه الفريضة وسعة موضوعها أو ضيقه، فإذا لم تكن في مقام البيان من هذه الجهة لا يكون فيها إطلاق ليصح التمسك به.
وهذه الآيات هي الآيات الثانية[2] والرابعة[3] والخامسة[4] والسادسة[5] والسابعة[6] والتاسعة[7] والعاشرة[8] بالترتيب المتقدم.
على أنه يمكن مناقشة في دلالة الآيتين الخامسة والعاشرة، وهما: آيتي الجهاد والمائدة، قوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾[9] ، وقوله تعالى: ﴿وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِه﴾ِ[10] على أن المراد بهما ليس القتال بالخصوص بل مطلق الجهاد بالعمل والقول والمال والقتال والعبادة وبكل ما فيه إعلاء لشأن الإسلام فتكونان أجنبيتين عن مقامنا.
خلاصة المناقشة الأولى: هي عدم انعقاد الإطلاق في أكثر الآيات لأن انعقاد الإطلاق فرع كون المتكلم في مقام البيان من تلك الجهة، والآيات في مقام بيان أصل مشروعية الجهاد القتالي في مقابل الجهاد اللساني، فلا ينعقد لها ظهور في خصوصيات زائدة كالجهاد والقتال الابتدائي.
فمفاد المناقشة الأولى منع انعقاد الإطلاق فلا يصح التمسك بإطلاق الآيات الكريمة.
وسيتضح إن شاء الله أن الإطلاق تام، وإذا لم يتم فهناك آيات فيها عموم ﴿وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾[11] والعموم اللفظي لا يحتاج إلى مقدمات الحكمة لانعقاد الإطلاق، فيمكن التمسك بالعموم لو أنكرنا الإطلاق، كما سيأتي.
أنا أكتفي بمناقشات عابرة وسريعة لأنه ستأتي المناقشة بشكل مفصل.
قال المرحوم شمس الدين رحمه الله ما نصّه:
وأما الآيات الأخرى فهي إما ظاهرة في غير المدعى أو غير ظاهرة فيه على الأقل بل مجملة من جهته، وهي:
الأول الآية الأمرة بالنفر ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا﴾[12] فهي دالة على وجوب النفر عند دعوة ولي الأمر لهم إلى الجهاد، وليست لبيان وجوب القتال الابتدائي، أو لبيان وجوب القتال مطلقاً وإن كان ابتدائياً، وأما دعوة ولي الأمر نفسها فقد تكون للدفاع أو للحذر والتحصن أو غير ذلك من الدواعي.
أقول: وليكن الداعي هو الدعوة إلى الإسلام فإذا دعا ولي الأمر إلى الجهاد الابتدائي وجب النفر.
الثاني قوله تعالى: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ﴾ [13] فهي واردة لبيان قتال الكفار المعتدين الذين قتلوا المسلمين وشردوهم وأخرجوهم من ديارهم بقرينة الإخراج الذي تضمنته الآية وليست واردة لبيان وجوب القتال الابتدائي أو مطلق القتال.
الثالث وقوله تعالى: ﴿جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ [14] غير ظاهرة إطلاقاً في أن المراد من الجهاد فيها القتال فضلاً عن أن يكون ابتدائياً إذ من المعلوم عدم مشروعية قتال المنافقين للزوم معاملتهم على ظاهر الإسلام فلابد من حملها على جهاد الكفار والمنافقين ببيان الأدلة والبراهين وبنبذهم والغلظة عليهم في المعاملة.
وما بعض المفسرين من أن المراد من الآية جهاد الكفار بالسيف وجهاد المنافقين باللسان، فهو تحكم في التفسير ومخالف لوحدة السياق في الآية، وذلك لأن ورود موضوعين في سياق واحد حكم أحدهما أوسع من الآخر يوجب تضييق دائرة الوسيع إلى ما يشترك فيه مع قرينه، ففي المقام يكون ذكر المنافقين قرينة على أن المراد بجهاد الكفار هو خصوص الجهاد اللساني.
أقول: ما ذكره من التمسك بوحدة في الآية لوحدة الحكم بالنسبة إلى الكفار والمنافقين صحيح، لكن حصر هذا الحكم الواحد خصوص الجهاد اللساني كما أفاد ليس بتام، ومن الواضح أنه بالنسبة إلى المنافقين حكمهم حكم المسلمين، ولكن لو قاموا بحركات توجب زعزعت الحكم الإسلامي والنظام الإسلامي فبلحاظ بعض الموضوعات قد يجب قتالهم.
فما المانع من الالتزام بأن هذه الآية شرعت جهاد الكفار وشرعت جهاد المنافقين في ذلك الوقت لأمر قام به المنافقون فحمل الجهاد على خصوص الجهاد اللساني يحتاج إلى وهي مفقودة في المقام، تفصيل ذلك سيأتي إن شاء الله.
ثم قال المرحوم شمس الدين يستنتج الآن بعد مناقشة الآيات وما ذكره في الأول لأن الأمر الأول يناقش مقتضى الآيات، ويقول: إن الآيات لا اقتضاء لها وغير قابلة لإثبات وجوب الجهاد الابتدائي قال ما نصّه:
«والحاصل إن هذه الآيات ليست في مقام بيان الحكم من هذه الجهة» أي وجوب الجهاد الابتدائي «ليصح التمسك بإطلاقها فمنها ما هو وارد لبيان أصل تشريع الجهاد، ومنها ما هو وارد لبيان جهات أجنبية عن المدعى».
فالأمر الأول تام عند المرحوم شمس الدين، وهو أنه آيات الجهاد لا تدل على وجوب الجهاد الابتدائي نظراً لعدم انعقاد الإطلاق في أكثرها وبعضها ليس ناظراً إلى موطن بحثنا وهو وجوب الجهاد الابتدائي بل ناظر إلى موضوعات أخرى.
الأمر الثاني لو سلمنا بدعوى كون الآيات المذكورة واردة في مقام البيان من جهة المدعى، أي تقتضي وجوب الجهاد الابتدائي، ومطلقة لجميع الحالات أي تشمل الجهاد الابتدائي والدفاعي، فنقول ـ هكذا يقول الشيخ شمس الدين رحمه الله ـ إن الآيات الواردة في باب الجهاد قسمين:
الأول: قسم مطلق لجميع الحالات
الثاني: وقسم مقيد بحالة دون أخرى
والمقيد على أقسام:
الأول: مقيد بمكان خاص، وهو ما ورد فيه النهي عن القتال عند المسجد الحرام، وهو قوله تعالى: ﴿وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ ۖ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ ۗ كَذَٰلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ﴾[15] .
الثاني: مقيد بزمان خاص، وهو ما ورد فيه النهي عن القتال في الأشهر الحرام، وهو قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ﴾[16] .
الثالث: مقيد بغير المعاهدين، وهو قوله تعالى: ﴿كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ۖ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾[17] .
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا﴾[18] .
الرابع مقيدٌ بخصوص من قاتل المسلمين واعتدى عليهم، وهو قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾[19] ، وقوله تعالى: ﴿فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾[20] .
الخامس واردٌ بلسان الضابطة والقانون العام، فمن يجب جهادهم من الكفار، ومن لا يجوز محاربتهم منهم وهو أم باب أحكام الجهاد في الإسلام، وهو قوله تعالى في سورة الممتحنة: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[21] .
السادس مقيدٌ بقيد عام شامل لجميع الحالات والأوضاع وهو قيد النهي عن الاعتداء، وقد ورد في جملة من الآيات منها قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا﴾[22] .
قوله تعالى: ﴿الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ ۚ فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾[23] .
هذه ستة قيود، ثم يقول الشيخ شمس الدين رحمه الله : هناك آيات مطلقة وهذه آيات مقيدة مقتضى الصناعة الأصولية حمل المطلق على المقيد، فلا يبقى عندنا جهاد ابتدائي قال رحمه الله ما نصّه:
«وإن مقتضى القاعدة في باب المطلق والمقيد هو حمل المطلق على المقيد وتقييده به، وفي مقامنا لابد من تقييد المطلقات لو سلمنا بوجود الإطلاق وأن الآيات في مقام البيان من هذه الجهة بالآيات المقيدة، وتكون النتيجة أن الحرب المشروعة هي التي لا تكون في الشهر الحرام والبلد الحرام في حالة عدم بدء المشركين القتال فيهما، وهي التي لا تكون مع قوم بين المسلمين وبينهم ميثاق، وهي التي لا تكون مع الذين لم يقاتلوا المسلمين في الدين، والمراد أن يقاتلوهم لأنهم مسلمون لا بعنوان قبلي أو قومي ولا بدافع مصالح اقتصادية أو سياسية، ولم يخرجوهم من ديارهم وهي التي لا تكون معنونة بعنوان الاعتداء».
ثم يشرع في بيان عنوان الاعتداء، قال:
«والاعتداء المنهي عنه هنا والذي قيدت مشروعية الحرب بعدمه هو الاعتداء بما له من المعنى العرفي إذ من المعلوم أن الشارع لم يخترع وضعاً جديداً لهذا اللفظ وهو في مقامنا مطلق لجميع مصاديق الاعتداء عند العرف، وأظهرها محاربة من لم يعتدي بالمحاربة الفتنة أو نقض العهود وما إلى ذلك من أنواع الاعتداء.
ومن الواضح أن قيد عدم الاعتداء من القيود الآبية عن التخصيص فلا يمكن أن يقال يحرم العدوان إلا العدوان الفلاني.
والنتيجة هي أن هذه الآيات مقيدة لإطلاق ما دل من الآيات على مشروعية محاربة الكفار مطلقاً على فرض التسليم بإطلاقها وحاصرة للمشروعية بخصوص ما دلت عليه الآيات المقيدة، هذا على مذهب من يستفيد الإطلاق من تلك الآية.
وأما على مذهبنا ـ والقائل شمس الدين ـ من أنها ليست واردة في مقام البيان من هذه الجهة، وإنما هي واردة في بيان أصل فالآيات المسماة مقيدة تكون مبينة لحدود الحرب.
وإن شئت قلت: تكون الطائفة الأولى من الآيات هي المشرعة، والطائفة الثانية هي المؤسسة لمناهج الحرب» انتهى كلامه رحمه الله.
أقول: بتعليق بسيط سيتضح إن شاء الله أن الإطلاق تام فيقع الكلام في تقييده، ونحن نسلم بهذه المقيدات الستة، ومنها عدم الاعتداء، لكن الكلام ليس في كبر الاعتداء، وإنما هو في تحقق صغرى الاعتداء.
فلو أراد ولي أمر المسلمين حاكم الدولة الإسلامية كالإمام المعصوم عليه السلام أو نائبه الخاص أو نائبه العام أن يدعو كفاراً إلى الإسلام، واحتاج إلى قتالهم فهو يدعوهم بالحكمة والموعظة الحسن، ولكن من يأبى الدعوة ويشهر السلاح يقاتله، فهو ابتداء قد شرع في الجهاد والقتال من دون أن يعتدي الكفار.
فهل جهاد الدعوة هذا يقال له عدوان؟ أو يقال له دعوة إلى الإسلام؟ هذا لا يصدق عليه عنوان الاعتداء، حتى لو كانوا مسالمين ولم يعتدوا أراد أن يدعوهم إلى الإسلام، حرك الجيش الإسلامي والجيش لا يقتل أحد إلا من يبادر ويقاتل هذا لا يصدق على أنه عدوان وهو جهاد ابتدائي، ولا إشكال في مشروعيته.
تفصيل الكلام في المناقشة سيأتي إن شاء الله.