« فهرست دروس
الأستاذ الشیخ عبدالله الدقاق
بحث الفقه

46/04/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الدرس (الثالث عشر): تأسيس الأصل في وجوب الجهاد الإبتدائي

الموضوع: الدرس (الثالث عشر): تأسيس الأصل في وجوب الجهاد الإبتدائي

 

تأسيس الأصل في باب التكليف

من الأصول المسلمة عند جميع المسلمين بل جميع العقلاء في باب تكليف المكلفين، ولا يستقر ظهورٌ المراد الجدي لأي دليل لفظي إلا بمراعاته، هو التالي:

أن التكليف الفعلي المنجز يتوقف على أمرين:

الأمر الأول وصول التكليف بنحو يعقله المكلف. فلا بدّ أن يصل التكليف إلى المكلف لكي يدخل في عهدته وذمته.

وفي الأصول الاعتقادية وما يتصل بها لا بدّ أن يعتقد بها المكلف ويصدق بها وجداناً، وعن قناعة. فلا يكفي فيها صرف التعبير اللفظي من دون اعتقادٍ وجداني.

وفي الأمور العملية لا بدّ من الالتفات ووعي التكليف، فلا فعلية ولا تنجيز في حق الغافل والساهي والناسي.

الأمر الثاني القدرة على الفعل والترك.

ولذلك لا بدّ أن يكون متعلق التكليف أمراً اختيارياً، ولا يمكن أن يكون أمراً لا يدخل تحت اختيار المكلف.

فإذا كانت الأمور الاعتقادية لا تحصل إلا بالبرهان المقنع، ولا يمكن حصولها بغير الإقناع الوجداني البرهاني، أو كانت الأمور العملية من سنخ ما يجبر المكلف على فعله أو تركه، أو كان مضطراً إلى فعله وتركه، ففي هذين الحالين لا يكون موضوعاً للتكليف الفعلي المنجز، ولا يصح ثوابه على الفعل، ولا يصح عقابه على الفعل أو الترك.

ويمكن أن يستفاد هذا من عدة آيات، فمن الآيات الصريحة في اعتبار الاعتقاد الوجداني عن قناعة في التكليف بالأصول الاعتقادية قوله تبارك وتعالى:

﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۚ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾[1]

وقوله تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾[2]

والمراد بالسميع والبصير ليس مجرد سماع الأصوات ورؤية الأشياء المادية، بل المراد الوعي والعقل والمعرفة، فهذا هو شرط فعلية الابتلاء بالتكليف الاعتقادي العملي.

أما بالنسبة إلى خصوص الأمور الاعتقادية: وما يعتبر في الإيمان، يمكن التمسك بقوله تعالى: ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾[3] .

[الأمران لابد أن يكونا في كل تكليف]

إذاً كل تكليف من المولى لابد أن يوجد لهذين الأمرين:

أولاً الاقتناع الوجداني.

الثاني القدرة على الفعل أو الترك.

فكل تكليفٍ فاقد لهذين الأمرين أو أحدهما يكون ظلماً ومخالفاً للحكمة، تعالى الله عن ذلك علواً كبيرا.

[الداعي لقتال الكفار الذين لم يعتدوا]

إذا تبين هذا واتضح وسلمنا به على أنه قابل للمناقشة، نقول:

أن قتال الكفار خارج الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي أي خارج دار الإسلامي، الذين لهم كيان «اجتماعي، وتنظيمي، وسياسي» خاص بهم، ولم يعتدوا على المسلمين ابتداءً فما الداعي لقتالهم؟

يوجد احتمالان:

الاحتمال الأول دعوتهم للإسلام وحملهم على الاعتقاد بالإسلام، والعمل بأحكامه.

الاحتمال الثاني إخضاع الكفار تحت سلطان المسلمين وجعلهم تحت حكم الدولة الإسلامية.

وفي كلا الاحتمالين يوجد تأمل:

أما الاحتمال الأول وهو أن يكون المدعى والغرض من الجهاد الابتدائي هو دعوتهم إلى الإسلام، فهذا غير صحيح.

ولا بدّ من رفع اليد عن ظهور كل دليل في ذلك وتأويله، لأن هذا المدعى مخالفٌ للأصل الأولي في باب التكليف، وتنجيز التكليف على المكلف الكافر مخالفٌ للعدل والحكمة، لأن الكافر سيؤمن بالإسلام من دون اعتقاد وقناعة وهذا غير مقدور، وهذا خلاف الشرط الأول من شروط تنجز التكليف، أن يصل التكليف إلى المكلف، ويعتقد به وجداناً.

فالعمل من غير اختيار والقدرة على الفعل والترك، إلجاء لا يتحقق معه امتثال، وقد دل على ذلك صريح الكتاب في قوله تعالى:﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ وغيرها من الآيات المحكمة.

وأما الاحتمال الثاني فالغرض من الجهاد الابتدائي إخضاع الكفار لسلطان الدولة الإسلامية.

ففيه:

أولاً هذا خلاف صريح كلمات الفقهاء بأن الجهاد الابتدائي إنما هو للدعوى للإسلام، وأما الإخضاع وفرض الجزئية فهو غاية ثانية إذا لم تتحق الأولى.

وثانياً هو خلاف ظواهر الآيات الدالة على أن هدف الجهاد ليس الإخضاع والسيطرة، بل الدفاع وردّ الأذى والعدوان.

وثالثاً أن هذه الدعوى تخالف صريح أقوال الفقهاء بالنسبة إلى غير الكتابيين من الكفار، حيث صرحوا بأنه لا تقبل منهم الجزئية والخضوع، بل يخيرون بين الإسلام والقتل.

هكذا أفاد المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين[4] رحمه الله.

أقول الأمر الثاني مسلمٌ بلا إشكال، إذ يستحيل التكليف بغير المقدور عقلاً وشرعاً، قال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾[5] وقال تعالى: ﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا﴾[6] .

وأما الأمر الأول فقد ذكر المرحوم الشيخ محمد مهدي شمس الدين:

فيه أمرين:

الأول مسلمٌ وهو وصول التكليف إلى المكلف، فالعبر في تنجز التكليف ودخوله في ذمة وعهدة المكلف، ليس صدور التكليف بل وصول التكليف إلى المكلف، فلا يصبح التكليف فعلياً ومنجزاً بالنسبة إلى المكلف إلا إذا وصل إليه، فهذا تامٌ وقد بحث في علم الأصول.

الثاني ما ذكره من أن الأصول الاعتقادية، لا بدّ أن يعتقدها ويصدق بها وجداناً، وعن قناعةٍ فلا يكفي فيها صرف التعبير اللفظي، من دون اعتقادٍ وجداني.

انتهى كلامه[7] رحمه الله.

لكن هذا الأمر الثاني يمكن أن ينقض عليه بأمور:

النقض الأول إن شرط الإسلام هو التلفظ بالشهادتين «أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله»، فمن تشهد الشهادتين حكم بإسلامه، وطهارته، وحقن دمه، وحفظ ماله، وعرضه حتى لو علمنا أنه لم يعتقد بالإسلام حقيقةً وواقعاً، وإنما قالها خوفاً كأبي سفيان عند فتح مكة، وعبد الله بن أبي سلول زعيم المنافقين في المدينة، فلا يشترط في ترتب الإسلام الاعتقاد بالوجدان، بل يكفي التلفظ الظاهري.

النقض الثاني ذهب المشهور إلى قاعدة تكليف الكفار بالفروع، لكن لا تتأتى منهم العبادة لأنها مشروطة بقصد القربة، فالكفر على الرغم من عدم قناعته بالإسلام، وهو لا يزال على كفره، يتوجه إليه التكليف.

النقض الثالث ذهب المشهور إلى أن المرتد الملي يستتاب، بينما المرتاد الفطري وهو المسلم عن أب وأم مسلمين، إذا ارتد فإنه يقتل ولا يستتاب، ولعل هذا المرتد لم يقتنع بالإسلام، ولم يقتنع بالدين.

هذه نقود وكل نقض ناظر إلى حيثية مختلفة، وهي توجب التأمل في اشتراط تحقق القناعة لفعلية التكليف، وعليه يكون الشرط الأول هو وصول التكليف إلى المكلف، سواء اقتنع أو لم يقتنع، والشرط الثاني قدرة المكلف على الفعل أو الترك.

فبناء على التسليم بالأمرين الذين ذهب إليهما المرحوم شمس الدين يمكن التشكيك في مشروعية الجهات الابتدائي لأن المراد بالجهاد الابتدائي هو قتال الكفار لمحض كفرهم لدعوتهم إلى الإسلام، والحال إن الكافر قد لا يسلم بالسيف ولا يقتنع، فإذا اشترطنا حصول القناعة، فحينئذ قد يتأمل في مشروعية الجهاد الابتدائي.

لكن إذا قلنا أن الأمر الأول في فعلية التكليف وتنجزه هو خصوص وصول تكليف إلى المكلف، والأمر الثاني قدرته على الفعل والترك، ولم نشترط إقتناع المكلف في الأمر الأول فحينئذ يصح الجهاد الابتدائي لدعوة الكافرين إلى الإسلام إذ أنه بالقتال يصل إليهم امر الإسلام والدعوة إلى الدين، سواء اقتنعوا أو لم يقتنعوا، وهم قادرون على الفعل أو الترك.

[التعميق في المطلب]

ولا بأس بتعميق المطلب أكثر ونبحث ما أفاده المرحوم شمس الدين رحمه الله من اشتراط الأمرين والاستدلال عليهما بالآيات الكريمة.

الدعوة إلى الإسلام

اتضح أن الغرض من الجهاد الابتدائي هو دعوة الكفار إلى الإسلام، وليس إخضاعهم لسلطان الإسلام والدولة الإسلامية، وإن كان هذا قد يتحقق تبعاً.

[الآيات المتعلقة بالدعوة صنفان:]

ويمكن تقسيم آيات القرآن الكريم المتعلقة بالدعوة إلى صنفين:

الصنف الأول الآيات الدالة على أن الدعوة إلى الإسلام إنما تكون بالشرح والبيان فقط، ثم يترك الأمر للمدعويين في أن يختاروا.

الصنف الثاني الآيات الدالة على أن استعمال القوة والإكراه ليسا من وسائل الدعوة إلى الإسلام، وأن التواصل مع الكفار ليس هدفه فرض السلطان وإنما هدف الرسول صلى الله عليه وآله هو مجرد الدعوة بالحسنى وإثارة دفائن العقول.

[الآيات الدالة على الصنف الأول]

ولنشرع في سرد الآيات الدالة على الصنف الأول، أي أن الدعوة إلى الإسلام باللين فقط، أي بالشرح والبيان دون القوة، وإليكم الآيات:

الآية الأولى قوله تعالى:

﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۖ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ﴾[8] .

الآية الثانية

﴿وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾[9] .

الآية الثالثة

﴿ قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ ۖ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ۚ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ﴾[10] .

الآية الرابعة

﴿وَقُل لِّلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ﴾[11] .

الآية الخامسة

﴿رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ ۖ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾[12] .

الآية السادسة قوله تعالى:

﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ۖ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾[13] .

الآية السابعة

﴿فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بِهَٰذَا الْحَدِيثِ ۖ سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ﴾[14] .

ولكن قد يتأمل في هذه الآية: في أنها ناظرة إلى أن البشر إما أن يقبل أو لا يقبل، وأنه قد يقتنع أو قد لا يقتنع، ولا تدل على أنه حتى لو لم يقتنع فهذا حكمه هو أن نتركه، هي في سياق ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ﴾[15] نعم، خصوص آية ﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾ هذه تحتاج إلى تأمل وسيأتي بحثها.

[الآيات الدالة على الصنف الثاني]

وأما الصنف الثاني من الآيات الدال على أن استعمال القوة والإكراه ليس من الدين، فهي كما يلي:

الآية الأولى

﴿ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾[16] .

الآية الثانية

﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ إِلَّا مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ ﴾[17] والمراد بمن تولى وكفر الجاحد وعذابه على الله.

الآية الثالثة

﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا ۖ إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾[18] .

الآية الرابعة

﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ﴾[19] .

الآية الخامسة

﴿مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ﴾[20] .

الآية السادسة

﴿فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ﴾[21] .

هذا تمام الكلام في سرد آيات الصنفين، تحقيق الكلام فيها، وتعميق البحث فيها، يأتي عليه الكلام.

 


[4] جهاد الأمة، ص107 إلى 110.
[7] جهاد الأمة، ص107 و 108.
logo